صديق شرنخي
زيارة الرئيس مسعود بارزاني إلى باريس وافتتاحه حديقة باسم “البيشمركة” لم تكن حدثاً بروتوكولياً عادياً، بل حملت في طياتها رسائل سياسية أعمق من مجرد تدشين موقع رمزي. فالمكان والزمان والسياق العام للزيارة كلها تشير إلى أن وراء هذا الحدث أبعاداً إقليمية ودولية، تتجاوز حدود العلاقة الكردية – الفرنسية إلى التفكير بمستقبل خريطة الشرق الأوسط.
الافتتاح في ذاته خطوة ذات دلالات قوية، إذ يُكرِّس اعترافاً معنوياً من فرنسا بتضحيات قوات البيشمركة في الحرب ضد “داعش”، ويمنح الشعب الكردي مساحة من الحضور الرمزي في قلب أوروبا. لكن السؤال الذي يطرح نفسه: هل كان الهدف الرئيسي للزيارة هو هذا الافتتاح وحده، أم أن خلف الكواليس تجري حوارات أوسع مع قادة أوروبيين وربما إسرائيليين، في إطار مشروع جديد يرسم معالم شرق أوسط مختلف يكون للأكراد فيه وضع قانوني وسياسي معترف به دولياً؟
التوقيت يزيد من عمق هذا التساؤل. فالشرق الأوسط يشهد اليوم تحولات متسارعة: انشغال الولايات المتحدة بانتخابات مصيرية، تصاعد التوتر الإيراني – الإسرائيلي، اهتزاز الداخل التركي، وتغيرات جذرية في الملف السوري. في هذا المناخ المضطرب، يتحرك الأكراد بقيادة بارزاني للتموضع من جديد، بحثاً عن ضمانات مستقبلية تقيهم تكرار سيناريوات الانكسار السابقة.
بارزاني بخبرته السياسية يعرف أن المكاسب الرمزية وحدها لا تكفي. لذلك جاءت زيارته محمّلة بأكثر من رسالة. فمن جهة، هو يثبّت علاقة كردستان العراق مع فرنسا كحليف تاريخي، ومن جهة أخرى يفتح الباب لتموضع إقليمي قد يشمل تفاهمات أوسع مع قوى أوروبية وإسرائيلية تسعى لإعادة هندسة التوازنات في المنطقة. هذا التوجه تعزّزه تصريحاته بعد عودته، حين هدّد بإمكانية دخول البيشمركة إلى سوريا، ما يكشف أن الأكراد يضعون الملف السوري على رأس أولوياتهم في المرحلة المقبلة.
إن احتمال دخول قوات البيشمركة إلى سوريا ليس مجرد تهديد عابر، بل قد يعكس تنسيقاً ضمنيّاً مع قوى غربية ترغب في إعادة توزيع أوراق النفوذ هناك. فالقضية الكردية في سوريا، سواء عبر المجلس الوطني الكردي أو قوات سوريا
الديمقراطية (قسد)، ما تزال عالقة بين مطرقة النظام السوري وسندان النفوذ التركي – الإيراني. وهنا قد يشكّل الحضور البيشمركي ورقة ضغط جديدة تفرض واقعاً مختلفاً، خاصة إذا حظي بدعم أوروبي وإسرائيلي مباشر أو غير مباشر.
المفارقة أن هذا الحراك الكردي الجديد يأتي بعد سنوات من الجمود السياسي الذي أعقب فشل استفتاء الاستقلال في 2017. فبارزاني يبدو اليوم وكأنه يعيد بناء الاستراتيجية الكردية على أسس أكثر براغماتية، تعتمد على التحالفات الدولية لا على المواجهة المباشرة مع القوى الإقليمية. وفي هذا السياق، يمكن قراءة افتتاح “بارك البيشمركة” كجزء من معركة رمزية لتثبيت حضور الكرد في الوعي الأوروبي، تمهيداً لمعركة سياسية أكبر قد تعيد رسم وضعهم القانوني في الشرق الأوسط.
باختصار، الزيارة لم تكن مجرد حدث ثقافي أو رمزي، بل حلقة في مشروع سياسي يتجاوز حدود كردستان العراق. فبينما يتأرجح الشرق الأوسط على وقع أزمات متشابكة، يسعى بارزاني لانتزاع موقع جديد للأكراد في معادلة إقليمية قيد التشكل، حيث يصبح الاعتراف الدولي ليس حلماً بعيد المنال، بل احتمالاً مطروحاً على الطاولة.
—