رفع العقوبات عن سوريا: لا رخصة للذبح الحلال… !

إبراهيم اليوسف

ثمة صفحة أليمة تُطوى بدءاً من الآن في سجل المأساة السورية الطويل، وهي صفحة الحصار الجائر الذي خنق أرواح البسطاء، بينما لم يتضرر منه سوى أولئك الذين طحنتهم رحى الحرب. أما أمراء الحرب، على اختلاف راياتهم الطائفية أو الأيديولوجية، فقد ازدهرت مصالحهم، وتراكمت أرصدتهم، وارتفعت أبراجهم العقارية، حتى صاروا يبيعون الألم السوري في مزادات السياسة الدولية بأثمان بخسة.

منذ اللحظة الأولى لانهيار جدار الخوف في آذار 2011، خرج علينا متسلقون من تحت الركام، ادعوا الثورة بعد أن كانوا أول من بايع الطغيان، وتاجروا بالأشلاء ليصوغوا سرديات كاذبة عن بطولات وهمية، محاولين احتكار الشرعية وتمزيق النسيج السوري. أولئك الذين اكتشفوا فجأة مكونات البلاد، لا لكي يبنوها، بل ليمزقوها قطعة قطعة، يفتعلون المواجهات بين الطوائف، يهمسون بسمومهم، ويوزعون صكوك الوطنية والعمالة وفقاً لمصالحهم الضيقة…

من بينهم من يشتهي اليوم الدم الكردي، مستندًا إلى موقف من “قسد”، وهو في جوهره موقف مبيت من الكرد، لا يخلو من عنصرية مضمرة تتوارى خلف أقنعة السياسة. يلوّح هؤلاء بزوال المشروع الفيدرالي كما لو أن مستقبل سوريا يُرسم في مزاج متقلب لرئيس أمريكي متهور، بات يتبرك به في مكان هو أحوج للتبرك به، أو في تويتر رئيس سابق. يلعنون أمريكا حين تدعم الكرد، ويتغزلون بها حين تنسحب عنهم، ويباركون لأي تدخل خارجي طالما يصب في مصلحة الحليف التركي.

لكن ليعلم جميعنا أن الكرد أصحاب قضية عادلة، وليسوا حالة طارئة أو بندقية للإيجار. هم جزء أصيل من جسد سوريا، كانوا وما زالوا من أكثر الحريصين على وحدتها، وعلى مستقبلها الديمقراطي. وإذا كانت سوريا لجميع أبنائها: عرباً وكرداً، آشوريين وسرياناً، إسماعيليين ودروزاً وسواهم أية كانت تصنيفاتهم، فإن الكرد لا يطالبون بأكثر من حقوقهم، كما لا يقبلون بأقل منه، قبل المستقوون أم لم يقبلوا!.

لن يكون الكرد خارج أي اتفاق سوري مستقبلي، مهما حاول المتآمرون تغييبهم أو تجاوزهم. إن أي تسوية لا تضع الكرد في قلب المعادلة السياسية، ولا تعترف بحقوقهم، ستولد مشوهة، وستعيد إنتاج الأزمة من جديد. أما رفع صفة الإرهاب عن شخص فيما يخصه، أو جهة، أو تنظيم، فيما يخصهما، فهو أمر سياسي بحت، لا يمكن أن يُتخذ ذريعة لتسويغ المجازر أو لشرعنة الانتقام، فلا قرار سياسي يعلو على الدم البريء.

من هنا، فإن رفع العقوبات عن سوريا هو مكسب للشعب السوري، كل الشعب، لا يجوز اختزاله إلى فرصة للانتقام أو لتصفية الحسابات. هذا الفتح لا يعني رخصة مفتوحة لإبادة الكرد، ولا لإعادة عجلة الزمن إلى ما قبل الثورة. بل هو مسؤولية جماعية يجب أن يُترجم في خطاب وطني جامع، لا في خطب تحريضية تنفث الكراهية من أفواه ناطقة باسم الطغيان المعارض.

كردستان، برمتها، حقيقة تاريخية وجغرافية، ولها امتدادها في سوريا، شاء من شاء وأبى من أبى. مهما تكالبت التحالفات الإقليمية والدولية، فإن هذه الحقيقة لن تذوب. وإذا كان مستقبل سوريا يكمن في خيار جامع، فإن الفيدرالية هي الصيغة الأنسب لضمان العدالة، والمشاركة، وبناء الدولة المدنية.

وليكن قرار رفع العقوبات بداية لثورة حقيقية، لا في الشارع هذه المرة، بل في ضمير من يملكون السلطة الفعلية على الأرض. من مترئسها الأول إلى أصغر من بيده الأمر. فالثورة الأجدر أن تبدأ من داخل سلطة الأمر الواقع، حين تعيد النظر في روحها لا في شكلها، في خطابها لا في أزيائها، بأن تخلع ثوب القهر وتفتح بوابات العدالة الانتقالية الشاملة، لتشمل الجميع: من العلويين والدروز إلى كل من دفع ثمن هذه الحرب ظلماً أو تغييبا أو تهجيراً.

آن أوان ألا ينام مظلوم هذه الليلة، ولا أن يبقى جائع دون خريطة طريق واضحة لإنصافه. فليُرسم فجر سوريا الجديدة انطلاقاً من هذا التحدي الإنساني والأخلاقي، لا بانتظار تتويج زعيم أو تسويق واجهة، بل لإنقاذ الإنسان السوري، ووضعه في المكانة التي تليق بكرامته: مكرماً، أبياً، غير معوز، حراً فوق أرضه، وبين أهله، ومعترفاً به الاعتراف الكامل.

دون الهامش:
إلى أولئك المتوهمين بأن رفع العقوبات نافذة انتقام:
إن أي قطرة دم تسيل من طفل، أو امرأة، أو شيخ، هي جريمة بحق الإنسانية، ولا يبررها علم، أو رئيس، أو دستور.
لن تكون الفيدرالية مبرراً للتقسيم، بل جسر عبور إلى وطن يتسع للجميع.

وللحديث بقية

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

شادي حاجي في السنوات الأخيرة، بات من الصعب تجاهل التحوّل المتسارع في نبرة الخطاب العام حول العالم . فالعنصرية والكراهية والتحريض عليهما لم تعودا مجرّد ظواهر هامشية تتسلل من أطراف المجتمع، بل بدأت تتحول، في أكثر الدول ديمقراطية ولم يعد ينحصر في دول الشرق الأوسط ( سوريا . لبنان – العراق – تركيا – ايران وو .. نموذجاً ) وحدها…

ياسر بادلي ليس اختيارُ الرئيس العراقيّ السابق، برهم صالح، مفوّضاً سامياً لشؤون اللاجئين حدثاً عابراً يمرّ على أطراف الأخبار؛ بل هو لحظةٌ ينهضُ فيها تاريخُ شعبٍ كامل ليشهد أن الأمم التي صُنعت من الألم تستطيع أن تكتب للإنسانيّة فصلاً جديداً من الرجاء. فالمسألة ليست منصباً جديداً فحسب… إنه اعترافٌ عالميّ بأنّ الكورد، الذين حملوا قروناً من الاضطهاد والتهجير، ما زالوا…

المحامي عبدالرحمن محمد   تتواصل فصول المسرحية التركية وسياساتها القذرة في الانكار والنفي للوجود التاريخي للشعب الكوردي على ارضه كوردستان، ومحاولاتها المستمرة لالغاء ومحو كلمتي كورد وكوردستان بوصفهما عنوانا للهوية القومية الكوردية والوطنية الكوردستانية من القاموس السياسي والحقوقي والجغرافي الدولي، سواء على جغرافيا كوردستان او على مستوى العالم. تارة يتم ذلك بحجة وذريعة الدين (الاسلام)، وتارة اخرى باسم الاندماج والاخوة،…

  إبراهيم اليوسف وصلتني صباح اليوم رسالة من شاعرة سورية قالت فيها إنها طالما رأتني وطنياً لكنها تجدني أخرج عن ذلك، أحياناً. رددت عليها: صديقتي، وما الذي بدر مني بما يجعلك ترين وطنيتي منقوصة؟ قالت: أنت من أوائل الناس الذين وقفوا ضد ظلم نظام البعث والأسد. قلت لها: ألا ترينني الآن أقف أيضاً ضد ظلم السلطة المفروضة- إقليمياً ودولياً لا…