حين يصبح الكوردي سلاحًا ضد الكورد

د. محمود عباس

في مفارقة لا تكاد تجد لها مثيلًا بين الأمم، تقف الأمة الكوردية أمام لوحة دامية ومتناقضة من أبنائها أنفسهم، أولئك الذين تفانوا في خدمة الآخر حتى أصبحوا أداة الطغيان الذي سحق أحلام شعبهم، ووقود آلة القمع التي لم تتوقف يومًا عن مطاردة الحرف الكوردي، والصوت الكوردي، والهوية الكوردية.

من الغرائب التي تليق بأن تدرج في صفحات السوداوية التاريخية، أن الكورد، وهم أمة خلقت العظماء، وصدّرت الكفاءات، وملأت أروقة الإدارات الإقليمية والدولية بنخبها، كثيرًا ما رأوا أبناءهم وقد تحولوا إلى سيوف مغروسة في جسدهم لا في عدوهم.

ها هم رجال ونساء من أبناء كوردستان، يتسلقون سلالم السلطة في أنظمة عنصرية تمارس الإنكار والتذويب بحق الأمة الكوردية، ولكن لا ليكونوا جسرًا نحو العدالة، بل ليكونوا أداة طمس أكثر قسوة من الأعداء التقليديين. وكأن بهم يسعون لشرعنة سياسات الإبادة الناعمة، مستخدمين لغات السيطرة، وأقنعة الحداثة، لتبرير خيانتهم، أو لتمويه قطيعتهم مع أصلهم، ودمهم، وذاكرة الجبال التي أنجبتهم.

هاكان فيدان، الكوردي الصامت بلغته، المتكلم بأجندات خصومه، ليس استثناءً، بل هو تجلٍ نموذجي لحالة نفسية مركّبة من الإنكار، والانسلاخ، وإعادة تشكيل الذات على مقاس الآخر الأقوى، رجل يتحدث الكوردية بطلاقة، لكنه يختار الصمت، لا خوفًا من بطش، بل انصهارًا في قناعة راسخة بأن الولاء للسلطة أعظم من الانتماء للأصل.

لكنه ليس وحده، بل يقف ضمن سلسلة طويلة من المسؤولين الكورد الذين اعتلوا أعلى المناصب في الدول الإقليمية. لا نتحدث عن أفراد معدودين، بل عن ظاهرة ممتدة، رؤساء جمهوريات، رؤساء وزراء، وزراء، جنرالات، قادة استخبارات، وسفراء في تركيا وسوريا والعراق وإيران وحتى الأردن ومصر، كثيرٌ منهم من أصول كوردية، لكنهم اختاروا دفن جذورهم، لا ليعيشوا فحسب، بل ليكونوا مخالب لأمم تحكمها أيديولوجيات طامسة لهويتهم.

ولا نتحدث هنا عن الأدباء والفنانين والإعلاميين، فعددهم في سوريا وحدها كان كفيلًا بإطلاق ثورة ثقافية كوردية عظيمة، لكن النسبة الكبرى منهم تحولت إلى أدوات تبرير وتجميل للأنظمة المركزية، بدلًا من أن تكون رافعة للهوية ومعبّرة عن أوجاع الأمة، أناسٌ، لو وضعوا إبداعهم في خدمة شعبهم، لأعادوا رسم خريطة الوعي الكوردي من جديد.

هي أزمة وعي، وأزمة هوية، قبل أن تكون أزمة خيانة، نفسية الكوردي الذي يخدم النظام الذي يسحق أمته، ليست ناتجة فقط عن مصلحة شخصية أو خوف وجودي، بل هي حالة اغتراب متأصلة، يجد فيها الراحة في ارتداء هوية المنتصر، حتى وإن كان هذا المنتصر يمارس عليه احتقارًا مقنعًا خلف الكواليس.

لماذا الكوردي بالتحديد؟

لأنه لم يُمنح يومًا حق أن يكون نفسه، فاختار أن يكون صورة الآخر، ولأنه، في ظل الجهل والفقر وطمس اللغة، وحرمانه من رواية تاريخه، واغتيال ذاكرته الجمعية، صار يبحث عن دور، حتى لو كان هذا الدور خنجرًا في خاصرة شعبه.

لكن الاغتراب لا يعفي من المسؤولية، أن يكون الكوردي أداة لطمس كوردستان، هو سقوط أخلاقي وفكري لا يبرره النجاح الشخصي، ولا يعوّضه الارتقاء في المناصب، لأن كل صعود على جماجم أبناء جلدتك، هو سقوط عميق في ميزان الذاكرة والتاريخ.

ربما آن لنا أن نتعامل مع هذه الفئة، لا بالغضب فقط، بل بالفهم العميق، أن نحلل آليات الانسلاخ، ونفكك جذور هذه القطيعة المؤلمة.

ما نحتاجه هو ثورة وعي، تحصّن الكوردي من أن يرى ذاته دونية، ومن أن يظن أن مكانه الطبيعي هو الهامش، أو في خدمة من يسحقون حريته.

نحتاج إلى سردية بديلة، تعيد تعريف الكوردي لنفسه، وتمنحه شرف الدفاع عن حلمه، لا الهروب منه.

إن الأمة التي تُنتج من أبنائها من يديرون أنظمة الآخرين، قادرة إن وعت، على إنتاج من يبنون دولتها.

لكن الخطوة الأولى تبدأ من الاعتراف، بأننا أمام مأساة مزدوجة، أعداء خارجنا، وأعداء منا.

 

د. محمود عباس

الولايات المتحدة الأمريكية

mamokurda@gmail.com

18/4/2025م

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

محمود عمر*   حين أزور دمشق في المرّة القادمة سأحمل معي عدّة صناديق لماسحي الأحذية. سأضع إحداها أمام تمثال صلاح الدين الأيوبي، وسأهدي أخرى لبيمارستانات أخواته الخاتون، وأضع إحداها أمام ضريح يوسف العظمة، وأخرى أمام قبر محمد سعيد رمضان البوطي، وأخرى أضعها في قبر محو إيبو شاشو، وأرسل أخرى لضريح هنانو، ولن أنسى أن أضع واحدة على قبر علي العابد،…

مصطفى جاويش بعد مضي عام على معركة ردع العدوان وعلى سقوط النظام السوري ووصول احمد الشرع الى القصر الرئاسي في دمشق بموجب اتفاقيات دولية واقليمية بات الحفاظ على سلطة الرئيس احمد الشرع ضرورة وحاجة محلية واقليمية ودولية لقيادة المرحلة الحالية رغم كل الاحداث والممارسات العنيفة التي جرت ببعض المحافظات والمدانة محليا ودوليا ويرى المجتمع الدولي في الرئيس احمد الشرع انه…

ماهين شيخاني مقدمة يواجه الشعب الكوردي في سوريا منذ عام 2011 تحولات سياسية وأمنية عميقة، أفرزت بيئة معقدة تتداخل فيها عوامل داخلية وخارجية. وفي ظل غياب تسوية سياسية شاملة، برزت ثلاثة أطراف رئيسية تركت أثراً مباشراً على مسار القضية الكوردية وعلى الاستقرار الاجتماعي والسياسي في مناطق توزع الكورد. هذا “الثالوث” يشمل الجماعات المتطرفة، والإدارة الذاتية، والمجلس الكوردي، وكلٌّ منها يمتلك…

حسن مجيد في الوضع الكوردي العام وبشكل خاص في إقليم كوردستان العراق كل أصناف المعارضة مرفوضة وخاصة المسلحة منها فالقيام بأعمال الشغب حتى لو لم تكن مرتبطة بأجندات إقليمية أو خارجية فقط يحق لك أن تعارض ضمن مجالات حرية الرأي والتعبير . إن النيل من المنجز بطرق غير شرعية وتخريبية تخدم المتربصين والذين لايريدون الخير للكورد . الواجب الوطني…