حزب الملايين: كيف اختفى خلال ساعات؟

إبراهيم اليوسف
التأسيس والبدايات
تأسس “حزب البعث العربي الاشتراكي” في أربعينيات القرن الماضي بدعوى الانطلاق من فكرة قومية تستهدف توحيد “الأمة العربية” في كيان سياسي واجتماعي واحد،وإذا كان لم شعار أبناء أي شعب حقاً طبيعياً، إلا أن هذا الشعار جد فضفاض، لأن الدول التي تسمى ب” العالم العربي” تأسست في أكثرها- مشرقاً ومغرباً- على حساب خرائط شعوب أخرى كانت متعايشة معها أو سابقة عليها. لكنه سرعان ما أصبح الحزب قوة سياسية بارزة، واستطاع جذب الملايين من الأتباع الذين آمنوا بأفكاره القومية والاشتراكية. خلال العقود اللاحقة، استحوذ حزب البعث على السلطة في دول عربية عدة، أبرزها سوريا والعراق. وبدأت رحلة طويلة من التوسع التنظيمي، حيث وصل عدد أعضائه إلى الملايين، وتغلغل في جميع مؤسسات الدولة من أعلى المناصب حتى أدنى الوظائف، ليصبح أشبه بمنظومة شمولية تسيطر على حياة الأفراد.
التبعيث: دولة الحزب الواحد
منذ وصوله إلى السلطة في سوريا عام 1963، عمل حزب البعث على تحويل البلاد إلى ما يمكن وصفه بدولة الحزب الواحد. حيث أُنشئت تنظيمات مثل منظمتي “طلائع البعث” و”الشبيبة “، اللتين بدأتا بغرس أفكار الحزب في أذهان الأطفال والشباب منذ الصغر. كان الهدف واضحًا: إعداد أجيال مؤمنة بعقيدة الحزب ومطيعة لأوامره، إلى جانب تشكيل منظمات مهنية: للعمال والفلاحين والحرفيين  والرياضيين إلخ …تدور في الفلك ذاته. إذ شملت عمليات التبعيث القطاعات كافة، من المدارس والجامعات إلى الدوائر. أصبح الانتماء إلى الحزب شرطًا أساسيًا للترقي الوظيفي، حتى على مستوى مدير مدرسة أو عامل بلدية. فلم يكن الانتماء مجرد خيار، بل أداة للبقاء والحصول على لقمة العيش.
الأسدان وتدمير الحزب من الداخل
على الرغم من قوة الحزب الظاهرة، إلا أنه منذ البداية اعتمد على العنف، لاسيما في الحقبة الأسدية- بدءًا من حافظ الأسد وصولاً إلى بشار الأسد-  هذه الحقبة التي شكلت نقطة تحول حاسمة في تدميره من الداخل.  بعد أن حول الأسد الأب الحزب إلى أداة لخدمة سلطته الشخصية، متجاهلاً حتى شعاراته القومية والاشتراكية. ولم يعد الحزب وسيلة لتحقيق الأهداف الكبرى، بل غطاءً لتمكين العائلة الحاكمة، ولا مكان لمعترض في جحيم دولة البعث. لقد أصبح الولاء للأسد هو المعيار الوحيد للنجاح والترقي والصعود والسطو داخل الحزب، ما أدى إلى تسلق شخصيات انتهازية وغير مؤهلة إلى المناصب القيادية، لتتحول هذه الشخصيات إلى أدوات لإثراء نفسها على حساب الحزب والشعب، ولعل مثالاً بارزا أتذكره ألا وهو:
أن راعي غنم غدا عضو برلمان في محافظة الحسكة وأسس لذاته إمبراطورية كبرى من العقارات والسطوة وانعكس ذلك على ذويه من أسندت إليهم وظائف جد حساسة، واستفاد هؤلاء ومن حولهم من هذه السطوة وصارت لهم مزارع وأراض، كما الراعي الذي ارتقى حزبياً وسلطوياً إلى أن تقاعد.
ما أدى إلى انتشار الفساد بشكل ممنهج، حيث تحول المحافظون، ورؤساء الفروع الأمنية، وحتى بعض الأعضاء العاديين إلى أصحاب أراضٍ وثروات ضخمة، في محافظة الحسكة على سبيل المثال، بينما أُجبر المواطنون على الانصياع لمطالب الحزب أو مواجهة القمع.
تراجع الشعبية والانهيار السريع
خلال العقود الماضية، شهد حزب البعث تآكلاً تدريجيًا في شعبيته، لكنه ظل قائمًا بفضل الدعم الأمني والسياسي الذي وفّرته الدولة. إلا أن الأحداث الأخيرة- بما فيها الحرب السورية- كشفت عن هشاشة الحزب. جاء قرار تجميد نشاط الحزب من قبل قيادته بمثابة إعلان غير رسمي عن نهايته. لقد استنفدت “بقرة البعث” كل مواردها. حُلبت حتى نزفت دمًا، وأُكل لحمها وجلدها، ولم يتبق منها سوى عظام رُميت دون اكتراث. أين الملايين الذين كانوا يهتفون باسم الحزب؟ وأين القيادات التي كانت تتغنى بشعاراته؟ كل ما حدث يؤكد أن تسعين بالمئة من المستبعثين كانوا قد وجدوا في حزبيتهم أداة للعيش، والحفاظ على الذات، بل وأداة للتسلط والفساد لدى كثيرين عششوا في مؤسسات الدولة: الجيش، الوزارات، المديريات، المدن، الأحياء، الشوارع.
أدوار قيادات البعث وصمتهم
إن أكثر من ساهم في تدمير حزب البعث هم قياداته أنفسهم، بدءًا من الأسد الأب والابن “1970-2024″، وصولاً إلى أعضاء القيادة القطرية والقومية. هؤلاء استغلوا مواقعهم لتحقيق مكاسب شخصية، بينما التزموا الصمت تجاه الفساد والقمع الذي مارسته السلطة باسم الحزب. لو كتب هؤلاء القادة مذكراتهم، لربما كشفت عن تفاصيل صادمة حول كيفية استخدام الحزب كأداة للسيطرة على الشعب وقمع المعارضين. كم من الطلاب والموظفين فُصلوا من وظائفهم لأنهم لم ينضموا للحزب؟ كم من الأموال أُهدرت على مشاريع وهمية كانت تهدف فقط لتلميع صورة الحزب وقيادته؟
البعث والمؤسسة الأمنية
لا يمكن الحديث عن حزب البعث دون التطرق إلى دوره في تحويل سوريا إلى ثكنة أمنية. كانت أجهزة الأمن بمثابة العمود الفقري للحزب، حيث لعبت دورًا مزدوجًا: قمع المعارضة السياسية من جهة، وضمان ولاء الأعضاء من جهة أخرى. تحول الحزب إلى شبكة رقابة ضخمة، يُجبر فيها الأفراد على مراقبة بعضهم البعض مقابل مكافآت زهيدة. لقد كانت سوريا، بتنوعها الثقافي والديني، بلدًا تعدديًا، يسكنه العرب والكرد والسريان والآشوريون… وغيرهم من الشعوب التي تمتد جذورها في هذه الأرض. لكن البعث، بعقيدته الأحادية، لم ير في هذا التنوع إلا تهديدًا لسلطته، فراح يفرض على المجتمع السوري قومية واحدة، ويكرسها بآليات فاشية تتجاوز حدود العقل والمنطق.
هل كانت هذه النهاية متوقعة؟
إن اختفاء حزب الملايين خلال ساعات لم يكن مفاجئًا لمن تابع مساره على مدى العقود الماضية. لقد بني الحزب على أساسات هشة من الشعارات الزائفة والولاء القسري، ما جعله عرضة للانهيار عند أول اختبار حقيقي. ما حدث هو انعكاس لفشل نظام كامل، وليس حزبًا فقط. حزب البعث، الذي بدأ كحركة قومية تحمل آمالًا كبيرة لدى من دخلوا صفوفه بعقيدة راسخة، سواء اختلفنا معهم أم اتفقنا- والفكر القومي حق لجميع أبناء الشعوب- انتهى كأداة قمعية فقدت مسوغ وجودها. يبقى السؤال: هل يمكن لسوريا أن تنهض من تحت أنقاض هذا الحزب وتعيد بناء دولة تحترم حقوق الإنسان وتحقق العدالة والمساواة؟ الإجابة تتطلب إعادة نظر شاملة في كل ما تركه البعث من إرث ثقيل.
مخططات عنصرية ضد الكرد
وضعت أو ترجمت في زمن البعث كل الخطط العنصرية بحق الكرد بشكل خاص، حيث تم تنفيذ واستمرار الإحصاء الجائر، وأخذ أراضي الكرد وإعطاؤها لمستقدمين من محافظات أخرى. كان ذلك جزءًا من سياسة الإهمال التي طالت المناطق الكردية، إذ لم يُسمح بوجود أي مصانع أو معامل فيها، رغم أن 70% من اقتصاد البلاد كان يعتمد على هذه المناطق: من البترول إلى الحبوب والقطن، وصولاً إلى اليد العاملة التي أسهمت بشكل كبير في دعم الاقتصاد السوري. لقد أصبح حزب البعث، منذ أن تولى السلطة، منظومة فاشية تحكم البلاد عبر أدوات قمعية، تصادر الحق وتستعبد العقول، وتحول سوريا إلى سجن كبير لأبنائها، فكل شيء في البلاد أصبح مرتبطًا بعقيدته الضيقة، من التعليم إلى الاقتصاد، إلى السياسة الداخلية والخارجية.
لم يتوقف البعث عند هذا الحد، بل سعى إلى تصدير مشكلاته إلى دول الجوار العربي، بهدف فرض سلطته على الآخرين، كما مارس هجومًا مزدوجًا على ثقافات وأديان الشعوب المختلفة في سوريا، محاولًا محو هويتها التعددية. أما في الداخل السوري، فقد كانت المؤسسة الأمنية بمثابة العمود الفقري لحزب البعث. اختراق الحزب من خلال الأجهزة الأمنية جعل من الهيئات الحزبية مجرد أداة خادمة لطبقة صغيرة من عناصر أمنية تتحكم في مصير الشعب السوري. كيف لا؟ والبعض من هؤلاء الأمنيين تحولوا إلى أصحاب النفوذ الذين يصنعون القرارات ويصدرون الأوامر، والآخرون أصبحوا أدوات قمع لكل معارضة حقيقية للنظام. في هذا السياق، جاء اختفاء الحزب خلال ساعات كنتاج طبيعي لأيدولوجيته الفاشية المدمرة، حيث كان الغموض الذي يحيط بالحزب يتناسب مع هشاشة أسس وجوده، فمتى ما سقطت آلة الرعب، سقط الحزب معها، تاركًا خلفه بلدًا محطمًا يبحث عن هوية جديدة.

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

صلاح بدرالدين لا يجوز الخلط بين اجندات الأحزاب والقضية الكردية كلما تاخرنا نحن الكرد السورييون في انجاز الخطوات صوب تحقيق الاجماع ، وتوفير شروط عقد المؤتمر الكردي السوري المنشود للخروج بمشروعنا السياسي بجانبيه القومي والوطني ، وانتخاب فريق كفوء يتصدى للتحديات الراهنة باسم الغالبية الساحقة واولها اعلان مطالب الكرد السوريين للإدارة الجديدة بدمشق ، ولسائر الأطراف الوطنية والخارجية ، لإزالة…

شكري شيخ نبي في حقبة الإمبراطورية العثمانية، التي استمرت لأربعة قرون في حكم الشرق الأوسط وأقاليم أخرى من العالم، والتي كانت قائمة على مبدأ الخلافة الإسلامية، كانت الإمبراطورية تسيطر على البحر الأحمر ومضيق باب المندب، والبحر المتوسط ومضيق جبل طارق، بالإضافة إلى جزء من البحر الأسود، ومضيقي الدردنيل والبوسفور. فقد كانت الإمبراطورية العثمانية تتحكم في الطرق والممرات البحرية للتجارة العالمية،…

تمرُ علينا اليوم، الذكرى السنوية الحادية عشرة لاختطاف الناشط المدني، أمير حامد من قبل آسايش حزب الاتحاد الديمقراطي PYD، ولا يزال مصيره مجهولاً منذ لحظة اختطافه إلى تاريخ كتابة هذا البيان. وفي الوقت الذي يحتاج فيه الشعب الكوردي في سوريا إلى الوحدة، لمواجهة التحديات المصيرية بما يخدم قضيته في سوريا المستقبل، إضافة إلى أمير حامد، لا يزال مصير العديد من…

أزاد خليل* تعد قضية قوات سوريا الديمقراطية (قسد) وعلاقتها مع تركيا واحدة من أكثر الملفات تعقيدًا في النزاع السوري. حيث تتداخل في هذا الصراع أبعاد سياسية، اقتصادية، وجيوسياسية، ما يجعل فهمه أمرًا بالغ الأهمية. من خلال تحليل الوضع الراهن، تتكشف عدة محاور رئيسية تساهم في فهم هذا الصراع المعقد: الاتهامات التركية لقسد وعلاقتها بحزب العمال الكردستاني (PKK)