تنازل المجلس الوطني الكوردي عن مطلب الفيدرالية، تراجعٌ سياسيٌّ أم إملاءاتٌ خارجية؟

د. محمود عباس
 
يُعتبر النظام الفيدرالي مطلبًا جوهريًا ليس فقط للشعب الكوردي، بل لكل المكونات السورية الساعية إلى الخلاص من هيمنة المركزية المطلقة، وبناء نظامٍ عادلٍ يضمن حقوق الجميع. ومع ذلك، جاء البيان الأخير للمجلس الوطني الكوردي ليضع علامة استفهامٍ كبرى حول موقفه، هل تخلى عن مطلب الفيدرالية بكل بساطةٍ؟ متبنّيًا خطابًا مائعًا يطالب بنظامٍ لا مركزي، دون توضيح آلياته أو حدوده، وفي الوقت نفسه يتحدث عن دولة المواطنة، وكأن هذين المفهومين لا يحملان في طياتهما تناقضًا جوهريًا.
ما يعزز الشكوك حول هذا التراجع المفاجئ هو أنه جاء بعد ضغوطٍ وإملاءاتٍ خارجية، خاصة من الجهات التي لا تزال تسعى لاحتواء الحراك الكوردي وتوظيفه لخدمة مصالحها الإقليمية، بدلًا من تمكينه ليكون قوةً فاعلةً في تقرير مصير المنطقة. هذه الإملاءات ليست جديدة، فقد شهدنا سابقًا محاولاتٍ مستمرةً من بعض الدول، وفي مقدمتها تركيا، لفرض أجندتها على المجلس، ومنعه من تبني أي موقفٍ يهدد مشاريعها التوسعية في الشمال السوري.
المفارقة الكبرى تكمن في أن المجلس الوطني الكوردي نفسه كان أحد أبرز المدافعين عن الفيدرالية كحلٍّ وحيدٍ يضمن حقوق الكورد في سوريا، بعكس الإدارة الذاتية والتي لها أيديولوجيتها الطوباوية من النظرة الكوردية في هذا المجال، بل كان يعتبرها حجر الأساس لأي نظامٍ ديمقراطيٍّ مستقبليٍّ. فكيف يمكن تفسير هذا التحول السريع من المطالبة بالفيدرالية إلى الاكتفاء بالمطالبة بنظامٍ لا مركزيٍّ غير محدد المعالم؟ هل هو تحوّلٌ تكتيكيٌّ، أم رضوخٌ لضغوطاتٍ خارجية، أم تخبطٌ سياسيٌّ ناجمٌ عن غياب رؤيةٍ واضحة؟
إن ما جرى ليس مجرد تغييرٍ في الصياغة، بل انتكاسةٌ سياسيةٌ خطيرة، تُهدد المكاسب التي ناضل الشعب الكوردي لعقودٍ من أجل تحقيقها، كما تمنح الأطراف التي تسعى لإنهاء أي شكلٍ من أشكال الاستقلال الكوردي في سوريا ورقةً إضافيةً للضغط والتلاعب بمصير المنطقة.
لا يمكن إنكار أن التخلي عن مطلب الفيدرالية، في ظل المخططات الجارية في سوريا، يخدم بالدرجة الأولى أعداء القضية الكوردية، وخاصة تركيا، التي ترى في أي كيانٍ كورديٍّ مستقلٍّ تهديدًا مباشرًا لمشروعها القومي. وهذا يفتح المجال للتساؤل: هل المجلس الوطني الكوردي يسير عن وعيٍ في هذا الاتجاه، أم أنه مجرد ضحيةٍ للعبةٍ سياسيةٍ أكبر منه؟
في ظل هذا الواقع، من الضروري أن يُقدم المجلس الوطني الكوردي توضيحًا صريحًا للشعب الكوردي، يكشف فيه الأسباب الحقيقية وراء هذا التنازل، ويجيب عن الأسئلة التي تُثار اليوم في الأوساط السياسية والشعبية. فالمطالب القومية ليست أوراقًا تفاوضيةً يمكن التراجع عنها في أي لحظة، بل هي مبادئٌ يجب أن تكون ثابتةً، وغير قابلةٍ للمساومة.
وإذا كان المجلس يرى أن المرحلة الحالية تتطلب تعديلًا في خطابه السياسي، فإن ذلك لا يمكن أن يكون على حساب الحقوق التاريخية للشعب الكوردي. فالفيدرالية لم تكن يومًا مجرد خيارٍ سياسيٍّ، بل حتميةٌ لضمان حقوق الكورد في سوريا، وأي تراجعٍ عنها يعني فقدان البوصلة السياسية، والوقوع في فخ الخطابات الفضفاضة التي لا تحمل أي مضمونٍ حقيقيٍّ.
إن من يؤمن بالقضية الكوردية وحقوق شعبه، لا يمكنه التخلي عن مشروعٍ استراتيجيٍّ بهذا الحجم خلال ساعاتٍ قليلة، ودون تبريراتٍ مقنعة. ومن هذا المنطلق، فإن الشفافية والمصارحة مع القاعدة الجماهيرية أمرٌ لا بد منه، وإلا فإن المجلس يغامر بفقدان ما تبقى من مصداقيته أمام الشارع الكوردي، الذي لم يعد يحتمل المزيد من التراجعات والانقسامات والمواقف المترددة.
د. محمود عباس
الولايات المتحدة الأمريكية
mamokurda@gmail.com
5/2/2025م

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

محمود عمر*   حين أزور دمشق في المرّة القادمة سأحمل معي عدّة صناديق لماسحي الأحذية. سأضع إحداها أمام تمثال صلاح الدين الأيوبي، وسأهدي أخرى لبيمارستانات أخواته الخاتون، وأضع إحداها أمام ضريح يوسف العظمة، وأخرى أمام قبر محمد سعيد رمضان البوطي، وأخرى أضعها في قبر محو إيبو شاشو، وأرسل أخرى لضريح هنانو، ولن أنسى أن أضع واحدة على قبر علي العابد،…

مصطفى جاويش بعد مضي عام على معركة ردع العدوان وعلى سقوط النظام السوري ووصول احمد الشرع الى القصر الرئاسي في دمشق بموجب اتفاقيات دولية واقليمية بات الحفاظ على سلطة الرئيس احمد الشرع ضرورة وحاجة محلية واقليمية ودولية لقيادة المرحلة الحالية رغم كل الاحداث والممارسات العنيفة التي جرت ببعض المحافظات والمدانة محليا ودوليا ويرى المجتمع الدولي في الرئيس احمد الشرع انه…

ماهين شيخاني مقدمة يواجه الشعب الكوردي في سوريا منذ عام 2011 تحولات سياسية وأمنية عميقة، أفرزت بيئة معقدة تتداخل فيها عوامل داخلية وخارجية. وفي ظل غياب تسوية سياسية شاملة، برزت ثلاثة أطراف رئيسية تركت أثراً مباشراً على مسار القضية الكوردية وعلى الاستقرار الاجتماعي والسياسي في مناطق توزع الكورد. هذا “الثالوث” يشمل الجماعات المتطرفة، والإدارة الذاتية، والمجلس الكوردي، وكلٌّ منها يمتلك…

حسن مجيد في الوضع الكوردي العام وبشكل خاص في إقليم كوردستان العراق كل أصناف المعارضة مرفوضة وخاصة المسلحة منها فالقيام بأعمال الشغب حتى لو لم تكن مرتبطة بأجندات إقليمية أو خارجية فقط يحق لك أن تعارض ضمن مجالات حرية الرأي والتعبير . إن النيل من المنجز بطرق غير شرعية وتخريبية تخدم المتربصين والذين لايريدون الخير للكورد . الواجب الوطني…