الموالاة والمعارضة في سوريا: التقاءٌ وافتراقٌ في مرايا الدم

إبراهيم اليوسف

تُختزل الحياة السياسية في سوريا، عنوةً، إلى مفردتين مصطلحين بكثير من التشويه: الموالاة والمعارضة. مصطلحان يتقاسمان المشهد منذ عقود، ولكنهما باتا اليوم لا يعبران سوى عن قشرة قد تكون زائفة تخفي تحتها تباينات عميقة في الموقف، النية، والضمير. لقد جرى ترويج هاتين الكلمتين لتسهيل الاصطفاف، بينما الواقع السوري أكثر تعقيداً وثراءً من هذا التقسيم الثنائي البسيط.

في اعتقادي، كل سوري، باستثناء المنتفعين الكبار، كان معارضاً بشكل أو بآخر. ليس بالضرورة أن يكون قد خرج إلى الشارع، أو كتب بياناً، أو شارك في اعتصام، لكن لحظة صحوة الضمير لا بد وأن زارته، ولو خلسة، ولو ليلاً، وهو يرى ما يُرتكب من جرائم كبرى بحق الناس والبشرية والكرامة. تلك اللحظة البرهية التي تلمع فجأة في الوعي، حين يرى المرء مشهد المجزرة، فيفزع، حتى لو صمت. لحظة يعيد فيها الإنسان تعريف ذاته، لا أمام السلطة، بل أمام نفسه.

حتى كبار المنتفعين، الفاسدين، المتورطين، أولئك الذين تسلقوا فوق أنقاض الدولة، كانوا، في لحظة ما، معارضين. حين يقارنون فسادهم بفساد آل الأسد ومخلوف، يدركون أنهم مبتدئون في لعبة الفساد. بعضهم صرّح بذلك في مجالسه الضيقة، وبعضهم انتقل من خانة إلى خانة، كما حدث بين أجنحة السلطة نفسها، حين اشتد الصراع بين أسماء الأسد ورامي مخلوف، وخرجت الخلافات إلى العلن، لتكشف أن الموالاة ليست طيفاً واحداً، بل مسرح صراعات بين حيتان السلطة والمال.

في سوريا، عامل المنفعة كان الحاكم الأعلى. والمثير للسخرية أن هذا العامل لا يشتغل فقط في خندق بعض “الموالين”، بل أيضاً لدى بعض من يتسمون بـ”المعارضين”. كما أن الحرمان كان باعثاً على التمرد، فقد كان الطمع باعثاً على التسلق الثوري، حتى صار بعض من ركبوا موجة الثورة أكثر تهافتاً على الكعكة من النظام نفسه.

الثورة التي انطلقت في 2011، لم تكن مجرد حراك شعبي عفوي، بل لحظة كشف كبرى. بعد سقوط أنظمة تونس، مصر، ليبيا، كان يُنتظر سقوط الأسد. بل إن سقوطه، في لحظة ما، كان محسوماً، لولا تدخل ثلاثي الإنقاذ: إيران، حزب الله، وروسيا. ووراء الكواليس، كان هناك تواطؤ أمريكي صارخ. فكل من راهن على دعم الغرب، كان كمن يسلم عنقه للجلاد وهو يتوقع وردة. حتى تركيا، التي بدت ظاهرياً حليفة للثورة، لم تكن مستعدة لانهيار النظام، لأن لها حسابات معقدة مع الكرد، ولأن استقرار النظام يعني بقاء خصمها الداخلي في دائرة التحكم.

في هذه اللحظة، بدأت الانتهازية الثورية. إذ قفز بعضهم إلى مركبة الثورة طمعاً لمنافع ومكاسب ذاتية، لا شوقاً للحرية. بعضهم جاء من داخل السلطة ذاتها وكان مخلصاً، و ومنهم من استدار فجأة نحو “الثورة”، لأن الحظ بدا أوفر في الجهة الأخرى. آخرون، من الحاشية القديمة، حاولوا ارتداء قناع النضال ليحتلوا مواقع جديدة. كانت أعينهم على ما بعد السقوط، وكانوا يخططون لتسلم الوزارات، وإعادة توزيع الغنائم.

هؤلاء أساؤوا للثورة كما أساء لها النظام. فهم لم يثوروا ضد الظلم، بل لأنهم حُرموا منه. أحدهم، فمن كان وزيراً أو أعلى من ذلك “كان يحلم في قرارته أن يكون رئيساً”.،  ولرب ضابط صغير، هرول كي يكون وزير دفاع. هؤلاء لا فرق بينهم وبين من كانوا يركضون في بلاط بشار الأسد، يُقبّلون يده صباحاً، ويسبّحون باسمه مساءً.

ومع ذلك، لا يمكن إنكار وجود معارضين حقيقيين، في سائر مفاصل الحكومة.  وثمة من انشق وخرج من عباءة النظام لأنه رأى القتل، لا لأنه خسر موقعاً. هؤلاء قلائل، لكنهم يمثلون صوت الضمير.

في المقابل، هناك من بقي في الداخل، ولم يستطع أن يقول “لا”. هؤلاء ليسوا جميعاً موالين، وهذا ما أريد أن أركز عليه، في مواجهة من يهللون الآن، ويدعون أنهم: ملاك الثورة، إذ لايمكنني أن أتصور من قتل وسلب ونهب وقطع أشجار الزيتون في عفرين أو طرد أهالي سري كانيي أو كري سبي- تل أبيض أن يكون ثائراً. كثيرون خرجوا في مظاهرات “الولاء” تحت الضغط. ولربما أن منهم من أدلى بتصريحات مكرهة لايؤمن بها. وأُجبر على ارتداء القميص الذي يمقته. حيث إن من يعيش في جحيم الخوف، ليس حراً في موقفه. وهنا، علينا أن نقر بأن: من عارض في قلبه، وهو في الداخل، فلا يجوز أن نعتبره عدواً. فلكل إنسان لحظة ضعف. وقد تكون لحظة المعارضة قد زارته، لكنه لم يتمكن من التعبير عنها.

أما الذين تحولوا مع الثورة، لا حباً في الحرية بل طمعاً في النفوذ، فإنهم أول من خذلها، حين لم ينالوا ما تمنوا. بعضهم انسحب بهدوء. بعضهم عاد إلى حضن النظام. وبعضهم راح يهاجم الثورة، لا من منطلق أخلاقي، بل لأن موقعه في المعارضة لم يشبع طموحه. ولعل بعض هذا الأنموذج استمر في التماهي بالمعارضة حرصاً على موقعه في الانتفاضة، أو لئلا يخسر  مهجراً تبز الحياة فيه مسقط رأسه، لاسيما في لحظة الاضطراب وعدم الاستقرار بعد سقوط النظام المجرم السابق.

لقد رأينا مثقفين أو ناشطين  يتحولون إلى منظّرين فجائيين للحرية، وهم لم يؤمنوا بها يوماً، بل كانوا من عداد من أساؤوا إلى سواهم في أوج زمن تسلط البعث والأسد. ورأينا ضباطاً يخلعون بدلتهم العسكرية، ويلبسون بدلة الثورة، بالعقلية السلطوية ذاتها، بل منهم من رفع علم تركيا، وصورة رئيسها، وتحول بين أكثر من فصيل عسكري، لاهثاً وراء حجم الدعم المالي الذي كان ضمن فاتورة شراء دمه وموقفه. كل هؤلاء لم يغيروا سوى القناع.

لكن الحقيقة الجوهرية، التي لا تقبل المساومة، أن كل سوري حر، شريف، سليم الضمير، كان ضد القتل، وضد الانتقام، وضد إذلال الإنسان. ومن هذه الزاوية، فإن الطاغية بشار الأسد، ليس فقط سفاحاً، بل أقذر سفاح في تاريخ العالم الحديث. لا لعدد من قتلهم فقط، بل لطريقة التسويغ، والمكر، والخداع، والعبث الجاهل والأرعن بالقيم. لقد قتل باسم العلمانية، وباسم القومية، وباسم المقاومة، وباسم الوطن، وباسم المرأة، وباسم الطفولة، وباسم الكرامة، في حين لم يكن سوى قناعٍ لقوى الاحتلال الإيراني-الروسي، وكابوس أبدي جثم على صدر البلاد.

نحن لا ندين أحداً، ولا نبرّئ أحداً. ولا نقدّس أحداً. لكننا نطالب بالتمهل قبل إصدار الأحكام، نطالب بقراءة دقيقة لما يسمّى بالموالاة والمعارضة. أن نكفّ عن توزيع الشهادات الوطنية. وأن نتواضع أمام ألم السوريين، فلا نكافئ الانتهازي لأنه غيّر لونه، ولا نخوّن من أُجبر على الصمت. الوطن لا يقيس الوفاء بالشعارات، بل بالموقف الحقيقي أمام القتل.

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

شادي حاجي في السنوات الأخيرة، بات من الصعب تجاهل التحوّل المتسارع في نبرة الخطاب العام حول العالم . فالعنصرية والكراهية والتحريض عليهما لم تعودا مجرّد ظواهر هامشية تتسلل من أطراف المجتمع، بل بدأت تتحول، في أكثر الدول ديمقراطية ولم يعد ينحصر في دول الشرق الأوسط ( سوريا . لبنان – العراق – تركيا – ايران وو .. نموذجاً ) وحدها…

ياسر بادلي ليس اختيارُ الرئيس العراقيّ السابق، برهم صالح، مفوّضاً سامياً لشؤون اللاجئين حدثاً عابراً يمرّ على أطراف الأخبار؛ بل هو لحظةٌ ينهضُ فيها تاريخُ شعبٍ كامل ليشهد أن الأمم التي صُنعت من الألم تستطيع أن تكتب للإنسانيّة فصلاً جديداً من الرجاء. فالمسألة ليست منصباً جديداً فحسب… إنه اعترافٌ عالميّ بأنّ الكورد، الذين حملوا قروناً من الاضطهاد والتهجير، ما زالوا…

المحامي عبدالرحمن محمد   تتواصل فصول المسرحية التركية وسياساتها القذرة في الانكار والنفي للوجود التاريخي للشعب الكوردي على ارضه كوردستان، ومحاولاتها المستمرة لالغاء ومحو كلمتي كورد وكوردستان بوصفهما عنوانا للهوية القومية الكوردية والوطنية الكوردستانية من القاموس السياسي والحقوقي والجغرافي الدولي، سواء على جغرافيا كوردستان او على مستوى العالم. تارة يتم ذلك بحجة وذريعة الدين (الاسلام)، وتارة اخرى باسم الاندماج والاخوة،…

  إبراهيم اليوسف وصلتني صباح اليوم رسالة من شاعرة سورية قالت فيها إنها طالما رأتني وطنياً لكنها تجدني أخرج عن ذلك، أحياناً. رددت عليها: صديقتي، وما الذي بدر مني بما يجعلك ترين وطنيتي منقوصة؟ قالت: أنت من أوائل الناس الذين وقفوا ضد ظلم نظام البعث والأسد. قلت لها: ألا ترينني الآن أقف أيضاً ضد ظلم السلطة المفروضة- إقليمياً ودولياً لا…