عبدالجابر حبيب
النقد: بين البناء والهدم
النقد هو ركيزة أساسية في بناء المجتمعات وتطورها، لكنه قد يكون أداة إصلاح أو معول هدم، وفقاً لطريقة استخدامه. فهناك نقدٌ بناء يسعى إلى تشخيص المشكلات وطرح الحلول، وهناك نقدٌ هدامٌ لا يتجاوز حدود التشهير والإحباط. الأول ضرورة لتصحيح المسار، والثاني مجرد ضجيج لا يضيف شيئاً سوى الفوضى.
لكن متى يصبح النقد هداماً؟ حين يتحول إلى هجوم عشوائي يفتقر إلى الموضوعية، أو حين يُستخدم كسلاح لتصفية الحسابات. ومتى يكون بناءً؟ حين ينطلق من رؤية مسؤولة تضع يدها على الجرح وتقترح العلاج، دون تحيز أو انحياز. فالمجتمع لا يتقدم إلا حين يكون النقد أداة للإصلاح لا وسيلة للهدم.
المثقف بين توجيه المؤسسات والانزواء:
يقول جان بول سارتر: “المثقف هو الشخص الذي يتدخل في ما لا يعنيه ويمتلك القدرة على الجهر بالحقيقة.” وهو تعريف يضع المثقف في صلب التغيير لا على هامشه، لأنه إن لم يتدخل فيما يبدو “لا يعنيه”، فمن سيفعل؟ المثقف الحقيقي لا يختبئ خلف الحياد الكاذب، بل يتصدر المشهد، يفضح الخلل، ويطالب بالإصلاح. أما أولئك الذين يلوذون بالصمت أو يبررون الفشل، فهم ليسوا إلا جزءاً من المشكلة.
حينما يرى المثقف أن المؤسسات الخدمية تحتاج إلى تفعيل الرقابة والمحاسبة، و لا يمكنه أن يكون متفرجاً. كيف يمكن للصمت أن يكون خياراً بينما المواطن يئن تحت وطأة الغلاء، وجرات الغاز تتنفس رغماً عنه بصماماتها المهترئة، والأطباء يفرضون تسعيرات تفوق حتى ما هو معمول به في دمشق؟ كيف يكون المثقف مسؤولاً إن لم يرفع صوته ضد كلّ ذلك التسيب؟
المثقف الصامت: خطر يفوق النقد الهدام:
قد يبدو للوهلة الأولى أن النقد الهدام هو الأكثر ضرراً على المجتمع، لكنه في الواقع أقل خطراً من صمت المثقف عن قول الحقيقة. فالنقد السلبي، رغم ما يسببه من تشويش وإحباط، يبقى صوتاً مسموعاً يمكن التعامل معه، لكن صمت المثقف يترك الساحة خالية للفساد واللامبالاة، ويمنح الأخطاء شرعية ضمنية.
المثقف الصامت لا يختلف كثيراً عن من يبرر الأخطاء، بل إنه أشد خطورة، لأنه يمتلك القدرة على التوجيه والتأثير لكنه يختار عدم التدخل، تاركاً الفرصة لمن يروجون للخلل أو يعمقون الأزمة. وكما يقول تشي غيفارا: “من يستفيد من الباطل يصعب عليه قول الحق.” فحين يختار المثقف الصمت، سواء خوفاً أو تماشياً مع مصالحه، فإنه يتحول من ضمير المجتمع إلى شاهد صامت على تدهوره.
أما أولئك الذين يمارسون النقد الهدام، فهم على الأقل يعبرون عن رفضهم، حتى لو كان بطريقة غير بناءة. لكن الأخطر هو المثقف الذي يعرف الحقيقة، ويدرك الخلل، ثم يقرر أن يتجاهله، لأن صمته لا يعني سوى منح الفوضى مساحة أكبر للنمو.
هل تغمض السلطة عينيها؟
ليس من الحكمة أن تتجاهل السلطة السلبيات أو تدفن رأسها في الرمال. على سبيل المثال، فمقارنة الأسعار بين دمشق، وشمال شرق سوريا تكشف مفارقة غريبة: رغم الحصار الاقتصادي الخانق على دمشق، إلا أن أسعار السلع الأساسية فيها تبقى أقل مقارنة بالمناطق التي تمتلك اقتصاداً أقوى بفضل النفط والغاز. فكيف يمكن تفسير ذلك؟ وأين دور الرقابة في تسليط الضوء على معاناة المواطن، وسط أزمة الكهرباء المستمرة؟ تلك المعركة التي لا تهدأ بين أصحاب المولدات والمواطنين، حيث تتحول أسعار الأمبيرات إلى نزاع شهري لا ينتهي، يثقل كاهل الأسر دون حلول جذرية.
إذا كان المثقف هو الضمير الحي للمجتمع، فهل يليق به أن يكون مجرد شاهد صامت؟ هل المطلوب منه أن يكون جزءاً من آلة التبرير بدلاً من أن يكون منارة للتغيير؟
المثقف: بين الحقيقة والمسؤولية
إن الشعوب التي تنهض، تنهض بفضل مثقفيها الذين يحملون مسؤولية التوجيه والإصلاح، والذين يدركون أن النقد البناء هو السبيل إلى التطور، لا المهادنة أو التبرير. المثقف ليس مجرد مراقب للأحداث، بل هو صانع وعي، يساهم في كشف الخلل واقتراح الحلول، ويضع مصلحة المجتمع فوق كل اعتبار.
إن دوره لا يقتصر على تسليط الضوء على المشكلات، بل يمتد ليكون جزءاً من عملية الإصلاح، من خلال تقديم رؤى بناءة تساهم في تصحيح المسار. فالمجتمعات التي تمتلك مثقفين فاعلين، قادرين على توجيه النقد بمسؤولية وموضوعية،
فهل يؤدي المثقف دوره الحقيقي، أم سيظل عالقًا في دائرة التردد، تائهًا بين واجبه الأخلاقي ومصالحه الشخصية، فيجمّل العيوب في أعين المسؤولين، بينما تتفاقم الأزمات أمام أعين الناس؟