المتاهة السورية: بين سراب السيادة وظلال الأطياف الإقليمية

بوتان زيباري

 

في مسرح الشرق الأوسط، حيث تتبارى الإمبراطوريات القديمة والحديثة في نسج خيوط مصائر الشعوب، تبرز سوريا كقماشةٍ ملوّنة بدماء التاريخ وأحلام الثوار، تُحاك عليها سرديات القوة ببراعة الفيلسوف ودهاء المحارب. ها هي أنقرة، وريثة العثمانيين، تُعيد تمثيل مسرحية “الفوضى الخلّاقة” بأدواتٍ أكثر تعقيدًا، حيث تتحول الجغرافيا إلى رقعة شطرنجٍ وجودية، والسياسة إلى فنٍّ مركبٍ لإدارة الأزمات عبر مرايا مكسورة.

لم يكن تصريح الوزير التركي “هاكان فيدان” بمنع الفيدراليات في سوريا إلا إشارةً استهلاليةً لمسرحيةٍ أكبر، تُذكّرنا بفن “الكابوكي” الياباني، حيث تُخفي الأقنعة الملونة حقيقة المشاعر. فالقول الفصل في شأن الوحدة السورية من قِبَل طرفٍ خارجي يكشف – ببلاغةٍ سقراطية – أن دمشق لم تعد سوى دميةٍ في يد لاعبٍ ماهر، يحرّك خيوطها بخليطٍ من القوة الناعمة والعسكرة الذكية. هنا يطرح السؤال نفسه: أي معنىً لسيادةٍ بلا جيش، أو دستورٍ بلا إرادة شعبية، أو حكومةٍ هي مجرد ظلٍّ لِمركز القرار في “القصر الرئاسي” باسطنبول؟

لعلّ المراقب المدقق يُلاحظ أن أنقرة قد أتقنت فن “السيناريوهات المُسرّحة”، منذ محاولة الانقلاب المزعومة عام ٢٠١٦، التي تحولت إلى مذبحةٍ قانونيةٍ لتصفية خصوم أردوغان تحت ذريعة “تنظيم فتح الله غولن”. هذه الآلية ذاتها تتكرر اليوم في سوريا، حيث تُختزل المعارك العسكرية إلى “عروض ضوئية” تُبرمج في غرف الحرب الإلكترونية، وتُصنع البطولات في استوديوهات الإعلام المُموّل، بينما الحقيقة تغوص في مستنقعات المصالح المتشابكة. فهل كانت معارك “هيئة تحرير الشام” سوى نسخةٍ مكررةٍ من مسرحية “الغزو المرئي” الذي نفّذه الجيش التركي عبر اختراقات إلكترونية ودعم لوجستي؟

في هذا السياق، تبرز مفارقةٌ تاريخيةٌ مثيرة: فتركيا، التي حاربت طويلاً ضد النموذج الإيراني في العراق – حيث الحكم بالوكالة تحت غطاء الولاء المذهبي – تكرر اليوم النموذج ذاته في سوريا، لكن بلباسٍ إسلامويٍّ سني. إنها لعبة المرايا المعكوسة: فكما حوّلت طهران العراق إلى ساحةٍ لـ”الحشد الشعبي”، تحوّل أنقرة سوريا إلى مسرحٍ لـ”الجيش الوطني” الافتراضي، حيث تذوب الحدود بين الميليشيا والدولة، وبين السيادة والتبعية.

لكن لماذا هذا الإصرار التركي على تغذية الاستقطاب القديم؟ يبدو أن أنقرة، الواقعة في مفترق طرق الهويات بين الشرق والغرب، تخشى أن يُحكم عليها بالهامشية في ظلّ التحولات الإقليمية الجديدة: التطبيع العربي-الإسرائيلي، والانكفاء الأمريكي، وصعود النفوذ الروسي. هنا تتحول سوريا إلى ورقة ضغطٍ استراتيجية، وإلى جسرٍ جغرافيٍ يعيد وصل تركيا بالعالم العربي عبر أدوات الإخوان المسلمين، الذين تحوّلوا إلى “فيلق رقمي” يُحارب في الفضاء الافتراضي أكثر من ساحات الواقع.

إن المشهد السوري اليوم يُشبه لوحة “بوشكين” السوريالية: جيشٌ إلكتروني تركي النبرة يُدير معارك الترويج عبر الشاشات، وحكومةٌ ظلّيةٌ تُدار من فنادق اسطنبول الفاخرة، وشعبٌ منهكٌ يُحاصر بين مطرقة الاحتلالات وسندان العجز العربي. فحين تُعلن إسرائيل رفضها استبدال النفوذ الإيراني بالتركي، وحين تُصرّ دول الخليج على تجنب تكرار سيناريو العراق، ندرك أن سوريا قد تحولت إلى “مختبرٍ جيوسياسي” تُختبر فيه نظريات الهيمنة الحديثة.

لكن أين يكمن المخرج؟ قد تكون الإجابة في استعادة الفلسفة السياسية الكلاسيكية: فكما حوّل أثينا القديمة صراعاتها إلى فنّ الديمقراطية، يمكن لسوريا أن تتحول من ساحة حربٍ إلى نموذجٍ للتعددية المدنية. هذا يتطلب تفكيك أدوات الهيمنة الخارجية، وإعادة بناء العقد الاجتماعي على أسس المواطنة لا الطائفية، والاعتراف بأن السيادة ليست مجرد شعارٍ يُرفع، بل إرادة شعبية تُبنى بالحوار لا بالمدافع.

في الختام، تبقى سوريا لغزًا وجوديًا: هل هي جثةٌ تتبارى عليها نسور الجغرافيا السياسية، أم بذرةٌ لمشروعٍ شرق أوسطي جديد؟ الإجابة تكمن في قدرة النخب المحلية على تحويل الدراما التراجيدية إلى ملحمة تحرر، حيث تُستعاد الإرادة الوطنية من براثن “المسرحيات الإقليمية” التي لا تنتج سوى دمارًا متجدّدًا. فالتاريخ يُعلّمنا أن الشعوب التي تستطيع تحويل أزماتها إلى دروسٍ وجوديةٍ تَخلُق من رمادها نهضةً، أما تلك التي تظلّ أسيرة مسرحيات الآخرين فمصيرها أن تُكرّر مأساتها إلى ما لا نهاية.

السويد

18.04.2025

 

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest


0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

منظمة حقوق الإنسان في عفرين أستُقبل وزير الثقافة في الحكومة الإنتقالية السورية محمد ياسين صالح و الوفد المرافق له في مدينة عفرين ، على أنغام الزرنة و الطبل من قبل أبناء المنطقة إلى جانب بعض من المواطنين العرب القاطنين منذ سنوات في المدينة ، وسط غياب أغلب رؤوساء البلديات و أعضاء منظمات و نشطاء المجتمع المدني و الأكاديميين الكُرد ،…

عزالدين ملا شهدت سوريا خلال العقد الماضي تحولات عميقة قلبت معالم المشهد السياسي والاجتماعي فيها رأساً على عقب، وأدت إلى تفكك بنية الدولة وفقدانها السيطرة على أجزاء واسعة من أراضيها. بعد سقوط النظام الذي حكم البلاد لعقود، توقّع الكثيرون بداية عهد جديد يعمه السلام والاستقرار، لكن سوريا دخلت في دوامة أعمق من الصراع، إذ تعقّدت الأزمة بشكل لم يسبق له…

عبدالرحمن كلو لم يكن مؤتمر قامشلو مجرّد لقاء عابر بين طرفين متخاصمين في الساحة الكوردية، بل كان خطوة نوعية تُلامس أفقًا سياسيًا أوسع بكثير من مجرد “اتفاق ثنائي”. فبرعاية أمريكية وفرنسية، وبإشراف مباشر من الرئيس مسعود البارزاني، تمكّن المؤتمر من جمع طيف متنوع من القوى، لا يقتصر على المجلس الوطني الكوردي أو الإدارة الذاتية، بل شمل شخصيات وطنية مستقلة،…

هولير (ولاتي مه) شفيق جانكير: بمناسبة مرور عشرين عاما على انطلاقة موقع “ولاتي مه”، جرى في كافتيريا “أريزونا” بهولير (أربيل) تكريم الباحث والمحلل السياسي الأستاذ عماد باجلان. وجاء هذا التكريم تقديرا لدور باجلان البارز في الساحة الإعلامية والسياسية، وجهوده المتواصلة في الدفاع عن الحقوق والقضايا العادلة للشعب الكردي، ووقوفه في مواجهة الأصوات الشوفينية والعنصرية التي تحاول إنكار حقوق الكورد أو…