الكورد والوطنية الحقيقية والفرصة التي توشك أن تضيع

د. محمود عباس

 

في لحظات التحولات الكبرى، لا يرحم التاريخ أولئك الذين عجزوا عن رؤية الإشارات حين كان بإمكانهم أن يتداركوا المسار، وعلى مفترق المصائر، لا يُقاس القادة بما كانوا يلوّحون به من شعارات، بل بما أنجزوه أو فرّطوا فيه عند الامتحان.

اليوم، تقف حكومة أحمد الشرع عند منعطف مصيري خطير، وإلى الآن لا تزال أمامها فرصة حقيقية لإنقاذ نفسها وإنقاذ سوريا برمتها، إن هي تخلّت عن خطاب الإقصاء، وتقدمت بشجاعة إلى الحوارات الوطنية الصادقة، لاكتشاف أن مطالب الحراك الكوردي لم تكن يوماً تهديداً، بل دعوة شريفة لبناء وطن يتسع للجميع.

كان يمكن، ولا يزال يمكن، لحكومة أحمد الشرع أن تؤسس لمشروع وطني عميق، يرسخ سوريا ديمقراطية، فيدرالية، لا مركزية، تعددية، متينة البنيان، لو أنها مدت يدها بإخلاص إلى الكورد وسائر المكونات السورية، لا أن تركن إلى أصوات أيتام البعث والعروبيين التكفيريين الذين هرعوا خلف الرد العنصري المشين.

الرد الأخير، الذي لا شك أملي عليه من عرّابه التركي، كشف باكراً زيف الشعارات، وأماط اللثام عن ثقافة إقصائية مريضة تتنكر لكل قيم الشراكة الوطنية، وتعيد استدعاء أبشع ممارسات الاستبداد القديم بثوب رثّ جديد، لكنه رغم فداحته، يمكن أن يكون نقطة مراجعة إن توفرت الإرادة.

لو تدرك حكومة الشرع أن الكورد، طوال مئة عام، لم يطالبوا إلا بوطن حرّ عادلٍ يحتضن الجميع، لا أن يقسم أحد، ولو تفهم أن مشروعهم القائم على الفيدرالية واللا مركزية هو طوق النجاة لسوريا لا عبء عليها، لكانت قادرة أن تبني إلى جانبهم وطنًا عصيًا على السقوط.

الاتفاق الكوردي لم يكن مؤامرة كما يحاول الجاهلون تصويره، بل مشروع خلاص لسوريا الغارقة، ومطالب الكورد ليست عبئًا على وحدة سوريا، بل صمّام أمانها الحقيقي، من يرفض هذه الحقيقة يخون مستقبل سوريا، لا الكورد فقط، ومن يغلق باب الشراكة، يغلق باب الخلاص عن الجميع.

بمثل هذه العقليات الإقصائية المهترئة، لا تُبنى أوطان، وما فشلت الأنظمة السابقة من البعث والأسدين إلى أدوات تركيا الجهادية في إدراكه، هو أن زمن الإقصاء قد ولى إلى غير رجعة، وأن الشعوب الحرة لم تعد تقبل أن تُختصر في شعار قومي أو خندق لغوي.

اليد الكوردية لا تزال ممدودة، رغم الجراح، والحراك الكوردي، رغم كل الإساءات، لا يزال يؤمن بأن الخلاص لسوريا يمر عبر العدالة للجميع، غير أن هذه اليد لن تبقى ممدودة إلى الأبد.

إن سوريا القادمة، إن كان لها من حياة، فلن تُبنى إلا بالاعتراف الصريح بحقوق الكورد، والسريان، والإيزيديين، والأرمن، والعرب، والدروز، والآشوريين، والعلويين، وكل أبنائها، دون مكيالين، ولن تقوم إلا بنظام فيدرالي لا مركزي ينهي زمن الوصاية والعنجهية القومية.

نصيحتنا لحكومة أحمد الشرع، لا تتشبثوا بأوهام الأكثرية المصطنعة، ولا تراهنوا على عنصرية اللحظة، فالتاريخ لا يرحم المتأخرين عن قاطرة التغيير.

من لا يقرأ إشارات الزمن، سيتلاشى مع دخان الانهيارات الكبرى، مع ضحايا الجهل والعنصرية الذين سبقوه، ونظامي البعث والأسدين خير مثال.

وما تزال الفرصة قائمة، لمن يملك الشجاعة على مراجعة نفسه، قبل أن يقرأ عليه الفاتحة مع من سبقوه إلى مزابل التاريخ.

 

د. محمود عباس

الولايات المتحدة الأمريكية

mamokurda@gmail.com

27/4/2025م

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

شادي حاجي في السنوات الأخيرة، بات من الصعب تجاهل التحوّل المتسارع في نبرة الخطاب العام حول العالم . فالعنصرية والكراهية والتحريض عليهما لم تعودا مجرّد ظواهر هامشية تتسلل من أطراف المجتمع، بل بدأت تتحول، في أكثر الدول ديمقراطية ولم يعد ينحصر في دول الشرق الأوسط ( سوريا . لبنان – العراق – تركيا – ايران وو .. نموذجاً ) وحدها…

ياسر بادلي ليس اختيارُ الرئيس العراقيّ السابق، برهم صالح، مفوّضاً سامياً لشؤون اللاجئين حدثاً عابراً يمرّ على أطراف الأخبار؛ بل هو لحظةٌ ينهضُ فيها تاريخُ شعبٍ كامل ليشهد أن الأمم التي صُنعت من الألم تستطيع أن تكتب للإنسانيّة فصلاً جديداً من الرجاء. فالمسألة ليست منصباً جديداً فحسب… إنه اعترافٌ عالميّ بأنّ الكورد، الذين حملوا قروناً من الاضطهاد والتهجير، ما زالوا…

المحامي عبدالرحمن محمد   تتواصل فصول المسرحية التركية وسياساتها القذرة في الانكار والنفي للوجود التاريخي للشعب الكوردي على ارضه كوردستان، ومحاولاتها المستمرة لالغاء ومحو كلمتي كورد وكوردستان بوصفهما عنوانا للهوية القومية الكوردية والوطنية الكوردستانية من القاموس السياسي والحقوقي والجغرافي الدولي، سواء على جغرافيا كوردستان او على مستوى العالم. تارة يتم ذلك بحجة وذريعة الدين (الاسلام)، وتارة اخرى باسم الاندماج والاخوة،…

  إبراهيم اليوسف وصلتني صباح اليوم رسالة من شاعرة سورية قالت فيها إنها طالما رأتني وطنياً لكنها تجدني أخرج عن ذلك، أحياناً. رددت عليها: صديقتي، وما الذي بدر مني بما يجعلك ترين وطنيتي منقوصة؟ قالت: أنت من أوائل الناس الذين وقفوا ضد ظلم نظام البعث والأسد. قلت لها: ألا ترينني الآن أقف أيضاً ضد ظلم السلطة المفروضة- إقليمياً ودولياً لا…