الكورد بين مأساة النزوح وتحديات الانقسام ..

لوركا بيراني

 

صرخة مسؤولية في لحظة فارقة.

تمر منطقتنا بمرحلة تاريخية دقيقة ومعقدة يختلط فيها الألم الإنساني بالعجز الجماعي عن توفير حلول حقيقية لمعاناة النازحين والمهجرين قسراً من مناطقهم، وخاصة أهلنا الكورد الذين ذاقوا مرارة النزوح لمرات عدة منذ كارثة عفرين عام 2018 وحتى الأحداث الأخيرة التي طالت مناطق تل رفعت والشهباء والشيخ مقصود وغيرها.

إن ما يجري الآن ليس مجرد نزوح بل هو مأساة إنسانية عميقة تضرب في جذور الهوية والكرامة، وتضع الجميع أمام مسؤولية أخلاقية وإنسانية لا تقبل التأجيل أو المراوغة.

لقد شاهدنا مؤخراً، ومع استمرار الاعتداءات وتدهور الوضع الإنساني مشاهد صادمة لعوائل تنام في العراء مغطاة بالبرد والتعب والإرهاق.

في المقابل تتوارى بعض الشخصيات الثقافية والاجتماعية خلف أقلامها الصامتة وكأنما لا يعنيها هذا الوجع الممتد.

هذه الشخصيات التي يفترض أن تكون صوتاً للحق ومنارة للتوجيه والتحفيز نجدها إما منشغلة بتوثيق المشهد دون محاولة تغييره أو مستغرقة في مناكفات على مواقع التواصل الاجتماعي لا طائل منها أو تتباهى بتبرعات لا تسمن ولا تغني من جوع .

وفي خضم هذه المأساة يبرز تساؤل آخر لا يمكن تجاهله: أين الأحزاب الكوردية مما يجري؟ نحن نتحدث عن أكثر من مئة حزب وحركة كوردية و حانات ثقافية  ومع ذلك لا نجد إلا بيانات خجولة وأحياناً حتى هذه البيانات تغيب تماماً.

هل يعقل أن تكون هذه هي استجابة أحزاب يفترض أنها تمثل هذا الشعب، وتتبنى قضاياه؟ أليس من المخجل أن بعض هذه الأحزاب لم تتمكن حتى من إصدار بيان يدين المأساة الأخيرة؟

أما التياران الرئيسيان بين الأحزاب الكوردية فلا يزالان غارقين في خلافاتهما وصراعاتهما التي لا تنتهي. متى ستحل هذه الخلافات؟ بعد أن يذوب الكورد تماماً في بوتقة التهجير والاضطهاد؟ ألا تستوعبون ما تقوم به تركيا من سياسات ممنهجة لتفكيك الهوية الكوردية والقضاء على أي مشروع قومي؟ بينما أنتم تواصلون انقسامكم وتنازعكم الذي لا يخدم سوى أعدائكم.

ليس هذا وقت المحاسبة أو تحميل اللوم

ولكن كان عليكم جميعاً أن تستفيدوا من دروس التاريخ أن تنظروا إلى تجربة الحرب الإسرائيلية اللبنانية وكيف تمكنت القوى السياسية اللبنانية رغم خلافاتها الكبيرة من التوحد في مواقف مصيرية وكيف ساهم مثقفوهم وإعلاميوهم في لملمة الأمور وتوجيهها نحو دعم قضيتهم الأساسية. أما أنتم فإنكم تشتتون أنفسكم وشعبكم في مرحلة هي الأخطر في تاريخنا.

المثقف الكوردي اليوم أمام اختبار حقيقي. لا يكفي أن يكتب عن المعاناة أو يتحدث عنها في الندوات المغلقة و صفحات التواصل الاجتماعي. المطلوب أفعال تتجاوز الكلمات وتترجم الالتزام القومي إلى نشاط فعلي يحدث فرقاً على الأرض. على المثقفين أن ينظموا أنفسهم وأن يستخدموا أدواتهم الثقافية والإعلامية لتسليط الضوء على المأساة وأن يدفعوا بالجهات الدولية والمنظمات الإنسانية إلى التحرك الجاد.

أين تلك الأصوات التي لطالما كانت تدعي الالتزام بالقضية الكوردية؟ وأين الجهود المنظمة التي تستثمر المنابر الأوروبية الحرة لإيصال الصوت الكوردي المظلوم؟

إننا أمام لحظة فارقة في تاريخنا تتطلب أن يتحمل الجميع مسؤوليته بجدية وصدق.

الشخصيات الثقافية في الداخل والخارج مطالبة اليوم بأن تسخر أقلامها لنقل معاناة النازحين إلى العالم

وأن تعمل على تحريك الضمائر في الداخل والخارج بدلاً من الانشغال بمظاهر التضامن السطحية.

المطلوب هو الإبداع في إيجاد حلول سياسية وإنسانية عملية

والتكاتف مع المبادرات الشعبية والجماعية لتوفير المسكن والغذاء والدواء

بدلاً من الاكتفاء بدور المتفرج أو الموثق.

لا شك أن التحديات كبيرة وأن المرحلة تفرض علينا جميعاً أن نتجاوز خلافاتنا وأحقادنا وأن نوحد جهودنا لنكون عوناً لمن شردتهم الحروب والسياسات العدائية. لنكن صوت المظلوم

ويد الحاني وقلب النابض بالأمل لأن التاريخ سيحاسبنا جميعاً على تقصيرنا إن بقينا على هذا الحال من السلبية واللامبالاة.

ختاماً المسؤولية اليوم لا تقع فقط على السياسيين والعسكريين بل على كل فرد يملك القلم والكلمة والتأثير. المرحلة تتطلب أفعالاً حقيقية تترجم على الأرض، قبل أن نفقد ما تبقى من إنسانيتنا أمام مشهد النزوح الثالث. وعلى الكورد في أوروبا بمن فيهم المثقفون والنشطاء أن يعيدوا النظر في أولوياتهم وأدواتهم وأن يحولوا جهودهم إلى ضغط حقيقي على المؤسسات الدولية وإلى دعم مباشر وفعال لإخوتهم في الداخل.

لأن المسؤولية القومية لا تقاس بالكلمات بل تثبتها الأفعال.

 

4 _ 12 _ 2024

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

د. محمود عباس في لقائه الصحفي الأخير اليوم، وأثناء رده على سؤال أحد الصحفيين حول احتمالية سحب القوات الأمريكية من سوريا، كرر خطأ مشابهًا لأخطائه السابقة بشأن تاريخ الكورد والصراع الكوردي مع الأنظمة التركية. نأمل أن يقدّم له مستشاروه المعلومات الصحيحة عن تاريخ منطقة الشرق الأوسط، وخاصة تاريخ الأتراك والصراع بين الكورد والأنظمة التركية بعد انهيار الإمبراطورية العثمانية. للأسف، لا…

إبراهيم اليوسف ليست القيادة مجرد امتياز يُمنح لشخص بعينه أو سلطة تُمارَس لفرض إرادة معينة، بل هي جوهر ديناميكي يتحرك في صميم التحولات الكبرى للمجتمعات. القائد الحقيقي لا ينتمي إلى ذاته بقدر ما ينتمي إلى قضيته، إذ يضع رؤيته فوق مصالحه، ويتجاوز قيود طبقته أو مركزه، ليصبح انعكاساً لتطلعات أوسع وشمولية تتخطى حدوده الفردية. لقد سطر…

نارين عمر تدّعي المعارضة السّورية أنّها تشكّلت ضدّ النّظام السّابق في سوريا لأنّه كان يمارس القمع والظّلم والاضطهاد ضدّ الشّعوب السّورية، كما كان يمارس سياسة إنكار الحقوق المشروعة والاستئثار بالسّلطة وعدم الاعتراف بالتّعدد الحزبي والاجتماعي والثّقافي في الوطن. إذا أسقطنا كلّ ذلك وغيرها على هذه المعارضة نفسها – وأقصد العرب منهم على وجه الخصوص- سنجدها تتبع هذه السّياسة بل…

فوزي شيخو في ظل الظلم والإقصاء الذي عاشه الكورد في سوريا لعقود طويلة، ظهر عام 1957 كفصل جديد في نضال الشعب الكوردي. اجتمع الأبطال في ذلك الزمن لتأسيس حزبٍ كان هدفه مواجهة القهر والعنصرية، وليقولوا بصوتٍ واحد: “كوردستان سوريا”. كان ذلك النداء بداية مرحلةٍ جديدة من الكفاح من أجل الحرية والحقوق. واليوم، في هذا العصر الذي يصفه البعض بـ”الذهبي”، نجد…