الفيدرالية ليست تهمة وكوردستان ليست مؤامرة (2/2)

د. محمود عباس

 

بصوتٍ لا لبس فيه، نطالب الحراك الكوردي في غربي كوردستان بعدم التنازل، تحت أي ظرف، عن مطلب النظام الفيدرالي اللامركزي، وتثبيته بوضوح في صلب الدستور السوري القادم.

فهذا المطلب لم يعد مجرد خيارٍ سياسي ضمن قائمة البدائل، بل تحوّل إلى صمّام أمان وجودي، يحفظ ما تبقى من تطلعات شعبٍ نُكّل به لأكثر من قرن، وسُلب منه حقه في الأرض، واللغة، والاعتراف.

إن التراجع عن هذا المبدأ لن يُعد خسارة لجميع المكتسبات التي حصلنا عليها بدماء الألاف من الشهداء، فحسب، بل مقدمة لنهاية لا تُحمد عقباها، تُعيد الكورد إلى المربّع الأول، إلى دائرة الصمت المفروض، والتبعية المجدّدة، والإنكار المقنن باسم وحدةٍ زائفة.

أما من يُسوّق لمبدأ “حق المواطنة” كبديل عن النظام الفيدرالي، كما تفعل الحكومة الانتقالية، فليُراجع المنطق أولًا:
أيُّ مواطنةٍ تُبنى في ظل “جمهورية عربية”؟

العناد لا يُواجه إلا بمزيد من العناد، لكن المرونة تُقابل بالدبلوماسية الحضارية، لا بالتنازل ولا بالإنكار.

نحن من نطالب بأن يكون الوطن للجميع، لا حكراً على قومية، ولا امتدادًا لهيمنةٍ لغوية أو دينية.

نحن الذين نحلم بسوريا جديدة، تتسع لكل مكوناتها، وننادي منذ البداية بـ “الجمهورية السورية”، لا العربية، لأنها وحدها التي تُعبّر عن واقع البلاد وتنوّعها.

فالفيدرالية، التي يُشيطنها البعض، ليست نقيضًا للوطن، بل هي الصيغة الأرقى لنظام عادل، في البعدين الديني والعلماني معًا، يوازن بين التنوّع والانتماء، ويحفظ الحقوق دون أن يُلغي الخصوصيات.

هي ليست بدعةً غربية، بل مبدأ متجذّر في النصوص السماوية كما هو في دساتير الدول المتقدمة؛ ففي جوهرها، تقوم على الاعتراف بالاختلاف لا نفيه، وعلى توزيع عادل للسلطة والثروة، لا احتكارها باسم

الأكثرية أو التاريخ أو القوة، نظام يضمن المساواة دون محو، والاندماج دون ذوبان، والحقوق دون فضلٍ من أحد.

أليس في الاسم ذاته إعادة إنتاج لمنطق “السيد والموالي”؟

هل يُعقل أن تُطالب الأقليات بتذويب هويتها، بينما تُكرَّس هوية واحدة في النصّ، والراية، والمسمّى؟

الاعتراف النظري بالمساواة لا يكفي، ما لم يُترجم إلى بنى دستورية عادلة تضمن التعدد القومي، وتُعترف بالكورد كشعب أصيل، لا كأقلية طارئة.

بدون نظام فيدرالي حقيقي، يكفل للكورد إدارتهم الذاتية وحقهم القومي، سيظل الحديث عن المواطنة مجرد واجهة مُخادعة.

تبدأ بالوعود، وتتطور إلى التهميش، وتنتهي بإعادة فرض الصمت على الكوردي، كما فُرض عليه لعقود.

وإن خسرنا ما نملكه اليوم، لعلنا لن نُمنح فرصة استعادته مجددًا، أمام هذا السعار العنصري المتصاعد من أيتام البعث والتكفيريين، الذين ورثوا عن أسلافهم لغة الكراهية، واتخذوا من الهجوم على الكورد قاسمًا مشتركًا بين أطيافهم.

لقد بدأت تظهر، من بينهم، شرائح تُشكّك في كل شيء: في تاريخنا، وفي ديمغرافيتنا، وفي لغتنا، وحتى في حقنا في الوجود كشعب.

لذا فإن التراجع عن مشروع الفيدرالية، اليوم، ليس ترفًا سياسيًا، بل مقامرة بمصير شعب، وبمستقبل قضيةٍ لم يعد أمامها خيار سوى أن تُثبت نفسها، أو تُمحى.

فكل القوى الدولية والإقليمية المتحالفة مع الكورد اليوم، سواء صرّحت بذلك علنًا أو دعمته ضمنًا، تعترف بأن لا حل في سوريا إلا من خلال دولة فيدرالية ديمقراطية.

ولذلك، فإننا نهيب بجميع الأحزاب والقوى المشاركة في المؤتمر أو الكونفرانس الكوردي الوطني، المتوقع انعقاده في قامشلو بتاريخ 18/4/2025، أن تجعل من شعارها، ومن هدفها الأول، ترسيخ النظام الفيدرالي اللامركزي، لا بوصفه مجرّد تكتيك سياسي، بل باعتباره قناعة استراتيجية تعبّر عن طموحنا المشروع، وعن سعينا إلى عدالة سياسية حقيقية داخل سوريا كوطن للجميع، وفي قلبها جزء لا يتجزأ من كوردستان.

في كل مرة يُطرح فيها مطلب الفيدرالية أو النظام اللامركزي، تنهال الاتهامات، أنتم تريدون الانفصال، أنتم تعملون على تقطيع أوصال الأوطان، أنتم تغذّون التقسيم تحت لافتات الحداثة والمساواة.

 

يتبع…

 

د. محمود عباس

الولايات المتحدة الأمريكية

mamokurda@gmail.com

14/4/2025م

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

شادي حاجي في السنوات الأخيرة، بات من الصعب تجاهل التحوّل المتسارع في نبرة الخطاب العام حول العالم . فالعنصرية والكراهية والتحريض عليهما لم تعودا مجرّد ظواهر هامشية تتسلل من أطراف المجتمع، بل بدأت تتحول، في أكثر الدول ديمقراطية ولم يعد ينحصر في دول الشرق الأوسط ( سوريا . لبنان – العراق – تركيا – ايران وو .. نموذجاً ) وحدها…

ياسر بادلي ليس اختيارُ الرئيس العراقيّ السابق، برهم صالح، مفوّضاً سامياً لشؤون اللاجئين حدثاً عابراً يمرّ على أطراف الأخبار؛ بل هو لحظةٌ ينهضُ فيها تاريخُ شعبٍ كامل ليشهد أن الأمم التي صُنعت من الألم تستطيع أن تكتب للإنسانيّة فصلاً جديداً من الرجاء. فالمسألة ليست منصباً جديداً فحسب… إنه اعترافٌ عالميّ بأنّ الكورد، الذين حملوا قروناً من الاضطهاد والتهجير، ما زالوا…

المحامي عبدالرحمن محمد   تتواصل فصول المسرحية التركية وسياساتها القذرة في الانكار والنفي للوجود التاريخي للشعب الكوردي على ارضه كوردستان، ومحاولاتها المستمرة لالغاء ومحو كلمتي كورد وكوردستان بوصفهما عنوانا للهوية القومية الكوردية والوطنية الكوردستانية من القاموس السياسي والحقوقي والجغرافي الدولي، سواء على جغرافيا كوردستان او على مستوى العالم. تارة يتم ذلك بحجة وذريعة الدين (الاسلام)، وتارة اخرى باسم الاندماج والاخوة،…

  إبراهيم اليوسف وصلتني صباح اليوم رسالة من شاعرة سورية قالت فيها إنها طالما رأتني وطنياً لكنها تجدني أخرج عن ذلك، أحياناً. رددت عليها: صديقتي، وما الذي بدر مني بما يجعلك ترين وطنيتي منقوصة؟ قالت: أنت من أوائل الناس الذين وقفوا ضد ظلم نظام البعث والأسد. قلت لها: ألا ترينني الآن أقف أيضاً ضد ظلم السلطة المفروضة- إقليمياً ودولياً لا…