الزئبقيون: سيكولوجيا الحرباء في ظل السلطة

إبراهيم اليوسف

 

ليس من اليسير فهم أولئك الذين اتخذوا من الولاء لأية سلطة قائمة مبدأً أسمى، يتبدل مع تبدل الرياح. لا تحكمهم قناعة فكرية، ولا تربطهم علاقة وجدانية بمنظومة قيم، بل يتكئون على سلطة ما، يستمدون منها شعورهم بالتفوق الزائف، ويتوسلون بها لإذلال المختلف، وتحصيل ما يتوهمونه امتيازاً أو مكانة.

في لحظة ما، يبدون لك من أكثر الناس حماسة للدفاع عن سلطةٍ ما، غالباً ما تكون دكتاتورية، مستبدة، لا تحتمل النقاش. يتحدثون باسمها، يحكمون باسمها، ينصبون أنفسهم وكلاء عنها في شؤون الفكر، والثقافة، والمجتمع. فإن انقلب الزمان، وانهارت تلك السلطة، هرولوا سريعاً نحو السلطة الجديدة. يقفزون فوق مبادئ الأمس، ويتقمصون جلد أعداء الأمس، ليؤدوا الدور ذاته، بالنزعة الاستعلائية ذاتها، ولكن بلباس آخر.

هم ليسوا ضحايا، ولا يمكن عدّهم مجرد متأقلمين مع التحولات القسرية. إنهم ماهرون. بارعون. يتمتعون بقدرة مذهلة على التلوّن، والتكيّف، وتحوير الخطاب بما يخدمهم. إنهم ليسوا بسطاء ولا عاديين، بل فيهم من الحذاقة ما يجعلهم يتصدرون المشهد في كل نظام، مهما تناقضت تلك الأنظمة، أو تضاربت منطلقاتها الفكرية والسياسية. فمنهم البهلوان الخطابي، والمفكّر المرتجل، والكاتب الانتهازي، والمنظّر المموَّه، وكلهم يشتركون في أمر واحد: خدمة السلطة، لا الحقيقة.

ومن هنا ينبع خطرهم الأكبر. فهم لا يكتفون بتغيير الأقنعة، بل يثأرون من المختلف. يحاولون إقصاء من يملك رأياً مغايراً، ويبتكرون في سبيل ذلك منظومات تسويغ، وتسويغ، وتفسير، تجعل من ارتزاقهم موقفاً، ومن تماهيهم مع السلطة الجديدة فضيلةً، بل ثورة في بعض الأحيان. يقدّمون أنفسهم كمفكرين منفتحين، متجاوزين، متحررين من الأطر السابقة، بينما هم في حقيقة الأمر ينتقلون من خندق إلى آخر دون أن يخلعوا عباءة الاستبداد، بل يلبسونها بألوان مختلفة.

لو دققنا في سيكولوجيا هؤلاء، لوجدنا أنفسنا أمام بنية متشابكة من التناقضات النفسية العميقة. يعانون من خلل في الشعور بالذات، ويعوضون نقصهم بالتموقع في جوار الأقوياء. لا يحتملون الفقد، ولا يقبلون الهامش. ولذا، فإن تبدّلهم ليس نتيجة تأمل عميق، أو مراجعة فكرية، بل بدافع مصلحي، نفعي، متسلق. تراهم يسوغون التبدل بعبارات كبرى: الواقعية، الضرورة، القراءة الجديدة، بينما هم في دواخلهم يعرفون أنهم لا يسعون إلا لموقع أعلى، ولو على حساب الآخرين.

إنهم كالحرباء، بل أشد مراوغة. يعتادون الجلوس في دوائر القرار، ويؤذون المختلف عبر النميمة الفكرية، والإقصاء الرمزي، والتشويه الممنهج. لا يملكون شجاعة المواجهة، ولا شرف الخصومة. يتمسّكون برواسبهم العفنة، ويحملونها معهم إلى كل مكان وزمان. يغيّرون خطابهم، لكن لا يغيّرون ضغينتهم. فالحرباء تغيّر لونها لتنجو، وهؤلاء يغيّرون جلدهم ليغدروا.

وهؤلاء يظهرون على حقيقتهم في محطات التحول، حين تتغير السلطة أو تتبدل المواقف. فحين تنكشف أقنعتهم، ويصبحون مكشوفين أمام المجتمع، ينبذهم الناس من حولهم، ويحتقرونهم بوعيٍ جمعي ساخر. إن أكثرهم سليط اللسان، لا يتورع عن ممارسة العنف اللفظي أو الرمزي أو حتى الجسدي، ما دام في كنف سلطة تشرعن له قبحه، وتغض الطرف عن أفعاله. طبيعي أن لا قيم، ولا مبادئ، تحكم سلوكهم، لأنهم ببساطة لا يؤمنون إلا بالمنفعة، والمكانة، والسيطرة.

الرأي عند هؤلاء ليس موقفاً، بل قميص يُخلع ويُرتدى حسب المناسبة، بل هو حذاء تتغير ماركته وفق الطاغية الجديد. يشتمون الأمس ليتبركوا بالغد، ثم ينهشون الغد إن تبدل. إنهم غير أوفياء، متقلبون، انتهازيون، لا يؤتمن لهم منبر ولا يؤخذ منهم رأي. ولنا في سلسلة الانقلابات في سوريا والعالم العربي، منذ انقلاب حسني الزعيم حتى انكسارات اليوم، خير مثال على ما يفعله هؤلاء الطفيليون بتاريخ الشعوب.

هؤلاء خطر على المجتمعات. الطغاة الصغار، أدوات الطغيان الكبرى. من هنا تأتي أهمية عدم الاكتراث بهم. ليس انتقاماً، بل حماية للوعي الجمعي. يجب على أي نظام لاحق ألا يستعين بهم، حتى وإن غيروا آراءهم وتلونوا بلون المرحلة. من حق الإنسان أن يراجع نفسه، نعم، لكن ليس بكبسة زر، وليس تحت إيقاع المصلحة اللحظية. المراجعة فعل طويل، متأنٍ، لا يفعله من طبعه الغدر.

التوبة المستعجلة” ليست مراجعة فكرية

كثيرون من هؤلاء حين تسقط السلطة التي عبدوها، يتسابقون لإعلان التوبة، لا عن قناعة، بل تملقًا للنظام الجديد. يكتبون خطابات الندم، ويمارسون نقدًا ذاتيًا مفتعلًا، ويتظاهرون بالتحول الفجائي. لكن من تأقلم مع القمع لا يتحول إلى مناضل في ليلة، ولا يولد الشرفاء من رحم الانتهازية. إن من لم يعتذر عن إساءاته بحق المختلفين، ولا ردّ المظالم، لا يستحق أن يعتلي منصة باسم الحرية.

إنهم الطغاة الصغار في كل عهد، يعيدون إنتاج القمع بأدوات محدثة، بواجهات ناعمة، وبأساليب ملتوية. لذا، فإن رصدهم، وفضح تناقضاتهم، وتفكيك خطاباتهم، مهمة لا تقل أهمية عن مواجهة الاستبداد ذاته. لأنهم يشكلون غطاءه الفكري، ويجهّزون له الأرضية الشعبية، ويحوّلون الاستعباد إلى ثقافة، والطاعة إلى فضيلة، والخنوع إلى وعي بديل. وإذا تُرك لهم الحبل على الغارب، فلن نجد فرقاً بين نظام سقط، وآخر حلّ محله، لأن جوهر القمع يبقى ذاته، وإن اختلفت تسمياته.

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

شادي حاجي في السنوات الأخيرة، بات من الصعب تجاهل التحوّل المتسارع في نبرة الخطاب العام حول العالم . فالعنصرية والكراهية والتحريض عليهما لم تعودا مجرّد ظواهر هامشية تتسلل من أطراف المجتمع، بل بدأت تتحول، في أكثر الدول ديمقراطية ولم يعد ينحصر في دول الشرق الأوسط ( سوريا . لبنان – العراق – تركيا – ايران وو .. نموذجاً ) وحدها…

ياسر بادلي ليس اختيارُ الرئيس العراقيّ السابق، برهم صالح، مفوّضاً سامياً لشؤون اللاجئين حدثاً عابراً يمرّ على أطراف الأخبار؛ بل هو لحظةٌ ينهضُ فيها تاريخُ شعبٍ كامل ليشهد أن الأمم التي صُنعت من الألم تستطيع أن تكتب للإنسانيّة فصلاً جديداً من الرجاء. فالمسألة ليست منصباً جديداً فحسب… إنه اعترافٌ عالميّ بأنّ الكورد، الذين حملوا قروناً من الاضطهاد والتهجير، ما زالوا…

المحامي عبدالرحمن محمد   تتواصل فصول المسرحية التركية وسياساتها القذرة في الانكار والنفي للوجود التاريخي للشعب الكوردي على ارضه كوردستان، ومحاولاتها المستمرة لالغاء ومحو كلمتي كورد وكوردستان بوصفهما عنوانا للهوية القومية الكوردية والوطنية الكوردستانية من القاموس السياسي والحقوقي والجغرافي الدولي، سواء على جغرافيا كوردستان او على مستوى العالم. تارة يتم ذلك بحجة وذريعة الدين (الاسلام)، وتارة اخرى باسم الاندماج والاخوة،…

  إبراهيم اليوسف وصلتني صباح اليوم رسالة من شاعرة سورية قالت فيها إنها طالما رأتني وطنياً لكنها تجدني أخرج عن ذلك، أحياناً. رددت عليها: صديقتي، وما الذي بدر مني بما يجعلك ترين وطنيتي منقوصة؟ قالت: أنت من أوائل الناس الذين وقفوا ضد ظلم نظام البعث والأسد. قلت لها: ألا ترينني الآن أقف أيضاً ضد ظلم السلطة المفروضة- إقليمياً ودولياً لا…