إبراهيم اليوسف
إبراهيم محمود، الاسم الذي رافق انتفاضة الكرد. انتفاضة 12 آذار 2004 منذ لحظتها الأولى، والقامة الفكرية الأعلى في زمن الرعب، لم يكن مجرد كاتب يسجل الوقائع، في الدفاع عن شعبه الكردي المضطهد، بل كان مفكراً يرى في كل حدث امتداداً لمصير، وفي كل دم مسفوك صفحةً من التاريخ. فمنذ أن سالت أول قطرة دم في “الجمعة الدامية”، كان قلمه هناك، يكتب ليس ليؤرخ فحسب، بل ليضع انتفاضة الكرد في سياقها الفلسفي، الوجودي، والوطني.
لم يكن وحده، لكن قلةً من الكتّاب امتلكوا جرأة الكتابة بأسمائهم الحقيقية، في الداخل والخارج. بعضهم دوّن الشهادة قبل أن يُفك الحصار العسكري عن قامشلي، بينما انتظر آخرون حتى انحسرت الدبابات ليقولوا ما يجب قوله. أما هو، فقد كان سباقاً يكتب قبل الذكرى السنوية في كل مناسبة، يكتب قبل أن يحلّ الموعد بأسابيع، لا ليُذكّر فقط، بل ليؤكد أن القضية ليست مناسبةً عابرة، بل جرح دائم في الجسد الكردي، لا ينبغي أن يلتئم بالصمت أو النسيان.
على مدار عشرين عاماً، لم تمرّ ذكرى دون أن يكون إبراهيم محمود في طليعة الكتّاب. مقالاته باتت مدونةً كاملةً، توثيقاً وتحليلاً وتأملاً في جوهر الانتفاضة. لكنه هذه المرة صمت. لم يكتب. غاب قلمه عن الذكرى للمرة الأولى منذ انطلاقها. هل قال كل شيء؟ هل استنزف الكلمات؟ أم أنه ينتظر أن يتحدث الآخرون؟
لم يكن إبراهيم محمود كاتباً عادياً في زمن الانتفاضة، بل كان أحد الذين اختاروا أن يكونوا في المقدمة، أن يكتبوا بأسمائهم الحقيقية في وقت كانت فيه الكتابة تهمة. في حين اختار كثيرون الصمت، أو انتظروا حتى تراجعت القبضة الأمنية، كان هو هناك منذ اللحظة الأولى. كتب “الجمعة الدامية”، وأتبعها بسلسلة مقالات، لا تكتفي بوصف الحدث، بل تغوص في عمقه، تسأل الأسئلة الكبرى: لماذا انتفض الكرد؟ إلى أين يمكن أن تقود هذه الشرارة؟
في تلك السنوات الأولى، عندما كانت الأجهزة الأمنية تطوق قامشلي بالدبابات، لم يكن من السهل أن تكتب وأنت داخل سوريا. لكن بعض الكتّاب فعلوا ذلك، قلة فقط، وكان إبراهيم محمود في مقدمتهم. وكنتُ شخصياً مع مجموعة من الكتّاب الذين اجتمعوا في بيتي، نناقش، نوثق، ونكتب ما لا يريد النظام أن يُكتب.
كان من الطبيعي أن تُواجه الانتفاضة بالقمع الوحشي، أن تُفتح النيران على الشباب الكردي في الشوارع، أن تسقط الأجساد في الميادين، وأن يحاول النظام محو الحدث من الذاكرة الجماعية. لكن الانتفاضة لم تُنسَ. كانت تلك هي اللحظة التي أسقط فيها الأبطال تمثال الأسد، وأعلنوا، دون كلمات، أن زمن الخضوع قد انتهى.
لقد كانت هذه الشرارة بداية لكل شيء. هي من مهّدت الطريق للثورة، هي من كشفت عن وجه النظام العاري أمام العالم، هي من أوصلت جرح الكرد إلى خارج الجغرافيا المحاصرة. لكنها أيضاً تركت ملفات مفتوحة، لم تُغلق بعد.
هؤلاء الشهداء، الذين كتب إبراهيم محمود عنهم طوال عشرين عاماً، لم ينالوا إنصافهم بعد. العدالة لا تزال غائبة. الذين أعطوا الأوامر بإطلاق النار، الذين اعتقلوا الشباب وعذبوهم حتى الموت، الذين اعتبروا دم الكرد مستباحاً، لا يزالون طلقاء. تعالوا نتذكر أسماء هؤلاء:
الرئيس الفار بشار الأسد
وزيرالداخلية
محافظ الحسكة سليم كبول
رؤساء الفروع الأمنية وعناصرها وأزلامها لاسيما رئيس الفرع العسكري المجرم خليل الخالد
كتبة التقارير وأسماء كثيرين منهم موجودة في المحاضر ويعرف محامونا ذلك
لابد من تذر أسماء هؤلاء جميعاً، لاسيما الجلادون والسجانون وممن عذبوا شبابنا الكردي حتى الموت!
إن العهد الجديد في سوريا، إن كان هناك عهد جديد، لا يمكن أن يبدأ دون مواجهة الحقيقة. لا يمكن بناء مستقبل دون محاسبة الماضي. يجب فتح ملف الانتفاضة، يجب محاكمة محافظ الحسكة سليم كبول، الذي أعطى الأمر بالقتل، يجب تقديم المدعو خليل الخالد، رئيس فرع الأمن العسكري آنذاك، وكل ضباط المحافظة إلى العدالة. وزير الداخلية في ذلك الوقت، كل الجلادين الذين نفذوا الأوامر، كل عنصر أمن ضغط على الزناد، كلهم يجب أن يواجهوا المحاكمة العادلة.
إن دماء الشهداء ليست مجرد ذكرى تُستعاد كل عام، وليست مجرد مقال يُكتب في الذكرى العشرين ثم يُطوى. إنها حقيقة يجب أن تبقى حاضرة في الوعي، في السياسة، في كل خطوة تُتخذ من أجل المستقبل. الانتفاضة لم تكن حدثاً عابراً، كانت لحظة فارقة، وإلى الآن، لا تزال تأثيراتها تتوالى، كأمواج لم تهدأ بعد.
في هذه الذكرى، إبراهيم محمود لم يكتب. ربما لأنه قال كل شيء. ربما لأنه كتب ما يكفي ليكون شاهداً على التاريخ. لكنه أيضاً، بصمته، يترك رسالة أخرى: لا تنتظروني، بل اكتبوا أنتم.
لقد انتهى الخوف، فلماذا لا نقول رأينا؟ لماذا لا نكمل ما بدأه؟
إبراهيم محمود، مفكر الانتفاضة، لم يتوقف عن الكتابة طوال عشرين عاماً، لكنه اليوم يختار الصمت. ربما لأنه يرى أن دوره قد انتهى، وأنه آن الأوان لمن تبقى أن يقولوا كلمتهم. آن الأوان لنعود إلى مدونته ذات الدوي!