أيكون الشرع مانديلا سوريا؟

ماجد ع  محمد
 
بالرغم من أنَّ التصرف الأخير للرئيس السوري المخلوع بشار الأسد الذي تمثل في حرصه الشديد على خلاص ذاته وأسرته القريبة فقط، وعدم إخبار حتى أقرب الناس إليه من محيطه العائلي أو السياسي بما سيُقدم عليه في اللحظات المصيرية، يظهر بوضوحٍ تام أنه شخص أناني وانتهازي ومريض نفسياً وغير معني أصلاً بمصير بالطائفة التي يدّعي الاِنتماء إليها، ولكن مع ذلك يصر الكثير من السوريين على لصق صفة الطائفية به، علماً أن آخر هم لدى بشار الأسد وعائلته المهووسة بالسلطة والمال هو التفكير بالطائفة، مع العلم أنه نجح طوال السنوات الماضية في بث الذعر في مخيال قسم كبير من أبناء الطائفة العلوية ليس لأنه معني بمصلحتها وسلامة أفرادها، إنما لكي يحمي نفسه من خلالها، ولكي يحافظ على سلطانه فيصيِّر أبناء الطائفة دروعاً له من خلال المخاوف التي زرعها في عقولهم في ما يخص الآخر المتربص بهم، ذلك الذي ينوي انتزاع السلطة منه ومن عشيرته، أما بالنسبة إلى المرض النفسي لبشار الأسد الذي أشرنا إليه آنفاً، فقد كشف جمال خدام، نجل عبد الحليم خدام، نائب الرئيس السوري السابق حافظ الأسد، في تصريحاتٍ لبرنامج “قابل للجدل” على قناة “العربية” يوم السبت 11 كانون الثاني (يناير) 2025 أن بشار الأسد كان يزور عيادة نفسية في العاصمة البريطانية لندن، وذلك قبل أعوام عدَّة من توليه الرئاسة في سورية.
ولكن الأنكى من تصور أبناء الطائفة العلوية الذين انطلت عليهم أكاذيب الأسد، هو أن طائفة كبيرة جداً من باقي السوريين استساغوا فكرة ربط السلطة الأسدية بالطائفة العلوية، وأصروا على إلصاقها ببشار الأسد كما استساغوا مؤخراً تصديق موضوع المكبس البشري في سجن صيدنايا الذي نفى دياب سرية، مدير رابطة معتقلي ومفقودي سجن صيدنايا، بريف دمشق، صحة الأنباء عن اكتشافه في السجن المذكور عقب فتح أبوابه، موضحاً في تصريحاته لوسائل الإعلام أن المكبس كان يُستخدم لضغط ألواح خشب (MDF) ولا يُستخدم لتعذيب السجناء كما تم الترويج له، وطبعاً هذا لا يعني البتة بأننا نخفِّف من هول جرائم نظامٍ لم يستمد سلطانه إلاَّ من خلال ممارسة العسف والطغيان الأمني على مدار سنوات حكمه، ولا تبرئته من كل المجازر التي ارتكبها والدمار الذي ألحقه بالبلد منذ 13 سنة عن سبق الإصرار، باعتبار أنه كان نظاماً جائراً وقبيحاً بكل المعايير ولا يحتاج الأمر لإضافة البهارات على قبحه، حيث أن المبالغة في تبشيع الشيء أحياناً تضر بمصداقيتنا تجاه ما نقوله أو نقدمه من معلوماتٍ تناهض الحقيقة البشعة التي ليست أصلاً بحاجة إلى أي إضافات.
وفي إطار اِنتماء رأس النظام السابق إلى الطائفة التي ورَّط الأسد أبناءها في جرائمه وفساده، يبقى أن ما ذكره الدكتور سليمات العميرات في 28 كانون الأول (ديسمبر) 2024 عن نظام الأسد هو الوصف المناسب له ولرهطه من دون الحاجة إلى حشر طائفته في أمر طغيان نظامه الأمني الدموي، حيث قال العميرات: “إن في سوريا المسألة ليست طائفية، بل ‘جنائية’ بحتة، لكن أكابر المجرمين المتورطين بسفك الدماء يختبئون وراء انتماءاتهم للتهرب من العدالة”.
والمفارقة أنَّ الاخوة الذين يصرون على اعتبار نظام الأسد نظاماً طائفياً ويتحدثون عن نتانة الهوس الطائفي لدى من ينعتونهم بالطائفيين، ينسون أنفسهم في غمرة الفرح بتغيير الأوضاع أنهم غدوا بمثابة الجناح الآخر لطائر الطائفية، ولكن من دون الانتباه إلى ذلك بسبب الحماسة التي دبت فيهم إثر الفرحة العارمة بسقوط الأسد واستلام أقرانهم السلطة، والدليل القريب على الميل الطائفي لديهم هو أن عدد كبير منهم حتى قبيل خلاص سوريا من نظام الأسد بشهرٍ واحدٍ فقط كان يعتبر أحمد الشرع (أبو محمد الجولاني سابقاً)، مستبداً وعميلاً لنظام الأسد، ولم يكونوا يتحدثون عنه إلاَّ بكل سوء، بل وقادة فصيلين معروفين في الشمال السوري ممن سارعوا إلى مبايعته كرئيسٍ لسوريا الجديدة كانوا قبل فترة من الزمن قد طلبوا من عناصرهم تأليف أغانٍ جارحة في ذم وهجاء وشتم الجولاني، وتلك الأغاني منتشرة على اليوتيوب وعلى منصات وسائل التواصل الاجتماعي، فيما مسؤول فصائلي ثالِث ممن التقط مؤخراً صورة تذكارية مع الشرع كان قبل أشهر قليلة يحمل لافتةً مكتوب عليها: “جولاني ولاك، ما بدنا إياك، بشار الأسد معلمك”! إذ أنهم كانوا يعتبرون الشرع (الجولاني) مناهضاً للثورة السورية، وعميلاً للنظام، ولكن بمجرد أن أزيح الأسد وتسنم الشرعُ موقع بشار الأسد، اصطفوا لا شعورياً خلفه، وفور إسقاط الأول وتسلَّم الثاني قيادة البلد صار كل الذين كانوا يتطاولون عليه، ويشتمونه، ويتهمونه بالعمالة للنظام من مؤيديه ويهللون له، ليس لسببٍ مقنع لحد الآن غير أحد هذين التخمينين؛ إما من باب إعادة اِستنساخ ظاهرة التشبيح للسلطة الجديدة، أو لأنَّ الرمز الحالي من طائفتهم، حيث أنَّ انتماء القائد الجديد إلى الطائفة الكبيرة كان كفيلاً بأن يتم التغاضي عن كل ماضي الرجل الجهادي، وأيضاً تم تناسي كل ما كانوا هم يقولون عنه حتى قبيل شهرٍ واحد من تحرير البلد من نظام البعث الأمني!
ويبقى أن ما يُخشى من مزاج هؤلاء الذين انتقلوا بسرعة البرقِ من الطعن والانتقاد إلى مدافعين شرسين عن الشرع والهيئة هو أن يسيروا في نفس درب الذين مجدوا الأسد حتى أوصلوه إلى رأس هرم الطغيان، ويعيدوا مع الأيامِ والشهور آلية التمجيدِ ولكن بإيقاعٍ حديثٍ يجمع الثورية بالجهادية، ومن ثم المضي في طريق تنزيه الزعيمِ على مبدأ أنَّ “نابليون دائماً على حق”، تلك العبارة التي نطق بها “بوكسر” في رواية مزرعة الحيوان للكاتب البريطاني الشهير جورج أورويل، وبالتالي البدء بتعبيد الطريق للجبروت من جديد، وتحويل السوريين من طلابٍ للحرية إلى أتباعٍ ومريدين يقدِّسون كل ما يسمعون ويرون بدون أن يفكروا أو يعارضوا أو ينتقدوا الخلل في المجريات.
عموماً، بعد إيراد ملاحظاتنا في الأعلى على ممارسات قسم لا بأس به من جمهور المؤيدين الحاليين، بودنا ههنا الحديث عن مناقب أحمد الشرع والصفات الشخصية للرجل على ضوء ما ورد في بعض الصفحات المعنية باستراتيجيات الحصول على النفوذ، والتي تركز على قدرة الشخص الذكي على الهيمنة والاستحواذ، والتي تناولت على وجه الخصوص موضوع القوة والسيطرة في العلاقات الإنسانية، ومنه على سبيل الذكر ما ورد في كتاب المؤلف الأميركي روبرت غرين، وخاصةً كتابه “48 قانوناً للقوة” والذي يعرف أيضاً باسم “48 قانوناً للسلطة” أو “كيف تمسك بزمم القوة”، كقواعد أساسية لفهم واستخدام القوة في مختلف مجالات الحياة، إذ أننا من خلال متابعة مقابلات وتصريحات قائد إدارة العمليات أحمد الشرع، وبناءً على ما تفوه به في المقابلات التلفزيونية، وما عبّر عنه من خلال مقتطفاتٍ ظهرت في الإعلام تباعاً، نلاحظ أنه ملم إماماً جيداً بقواعد التصرف والظهور ورسم صورته الذهنية التي يرغب بها، ومع أننا لسنا قريبين من مناخ الرجل، ونجهل ميوله واهتماماته، وليس لنا اطلاع على هواياته الشخصية، ولا نعلم ما هي الكتب التي ينهل منها معارفه الخاصة غير القرآن والأحاديث النبوية، إلا أننا كبقية المتابعين السوريين منذ سقوط النظام البعثي الأسدي صرنا كغيرنا نستمع باهتمام إلى تصريحاته، ونقرأ ما يُنشر تحت اسمه، ومن خلال المقارنة لاحظتُ بأنَّ الرجل يكاد يكون هاضماً لنصائح روبرت غرين الموجهة للشخصيات القيادية، وبإمكان أي متابعٍ جيد قراءة ما قاله غرين حرفياً في المقاطع الفيديوية التي ظهر بها الشرع منذ الثامن من كانون الأول (ديسمبر)، ومنها على سبيل المثال: “أخفِ نواياك، واستعن على تحقيق أهدافك بإخفاء مقاصدك، واقتصد في الكلام، اكسب لفت الأنظار، انتصر بأفعالك وليس بكلامك، اجعل الآخرين يأتون إليك، اخلق حالة من الغموض والرهبة، تحكم في بيئتك، اجعل الآخرين يعتمدون عليك، لا تظهر كل قدراتك في وقت واحد، اجعل الآخرين يقاتلون من أجلك، استخدم البساطة لإرباك خصومك، اجعل الآخرين يشعرون بالغيرة، اجعل الآخرين يشعرون بأنهم في حاجة إليك، اخلق شعوراً بالندرة، ادفع الآخرين لتقليدك، امنح نفسك مظهر الشخص الذي لا يقهر”. إذ أنَّ هذه الصفات القيادية التي يذكرها غرين لا يتحدث عنها الشرع، ولا يأتي على ذكرها من باب إظهار التعاليم كما كان يفعل بشار الأسد على الملأ، إنما الرجل يمارسها بدقةٍ متناهية على أرض الواقع.
وبخصوص السوريين الذين يطيب لهم تشبيه الشرع السوري بنيلسون مانديلا جنوب أفريقيا، بتصورنا أن الشرع، إن كان ينوي التربع على صفحات التاريخ المشرِق له ولملته في هذه الحقبة المهمة، وبالتالي يحفر اسمه على جدار المجد الذي لا يمحوه الزمن، ليس مطالباً فقط بالعمل على تغيير ذاته ليلائم المرحلة الجديدة، وإنما ربما عليه العمل أيضاً على إعادة تأهيل المتشددين الذين قد يُشكلون الخطر عليه شخصياً أو يهدِّدون فرص السلام في سورية بشكل عام، وذلك من خلال إخضاعهم للمعالجة حتى يتناسب وجودهم مع سورية الجديدة، وفي ما يتعلق بالمتحجرين منهم، فلا بأس بالمساهمة بإرسال عشاق الحواري منهم إلى مكانٍ آخر يجعلون أنفسهم فيه شظايا لتحقيق أحلامهم بالصعود سريعاً صوب ما يتمنون بمحض إرادتهم، أو المباشرة في العمل على تخليصهم من رواسب الغلو وتصوراتهم المغلوطة تجاه المختلفين، ومن ثم نزع أنياب العنف ومخالب العدوان لدى الصلدين منهم، بحيث يسلم ما تبقى من أبناء المجتمع السوري وكذلك الأمر الدول الاقليمية من خطرهم المحتمل، عندها سيكون لدى عدد كبير من السوريين بمقام مانديلا سوريا، فيفيد بلده ودينه وقتئذٍ بعفوه وتسامحه وحنكته، ويحوِّل ظلام القاعدة إلى نورٍ لا يضيء المحيط به فحسب، وإنما يستضيء بسطوعه ويُستفاد من تجربته المنيرة حتى الذين يمكثون في أبعد نقطة من بلدان الشرق الأوسط.
وإذا ما تخلص الرجل فعلاً من العثرات والمعرقلين من رهطه، وحيَّد كل من كان من فلول النظام السابق بأيسر السبل، وتحرَّر من الاسلوب الماضي في عمله الذي يُناهض في الكثير من جوانبه طبيعة عمله الحاضر، ووضَعَ نصب عينيه إعلاء شأن الإنسان وكرامته وراحته، وعمل على إرساء قواعد العدالة وحقوق الإنسان، وأبدى تسامحاً حقيقياً مع المختلفين وفي مقدمتهم مؤيدي النظام السابق ممن لم تتلطخ أياديهم، واعتبر بأنهم كانوا مجبرين على الوقوف في ضفة الطاغية خوفاً على حياتهم، فعندها قد لا يبدو السؤال هل من المحتمل أن يكون الشرع مانديلا سورية طرحاً سريالياً؟ خصوصاً إذا ما علمنا بأن مانديلا نفسه كان هو الآخر مثل الشرع تماماً يُعتبر من الإرهابيين الخطرين لدى أميركا، حيث يذكر في هذا الإطار الكاتب إدواردو غاليانو أنَّ حكومة الولايات المتحدة قررت أن تمحو اسم مانديلا من قائمتها من الإرهابيين الخطرين، وهذا غير مستبعد أيضاً مع الشرع الذي قد لا يتردد الأميركان في إزالة اسمه من قائمتهم السوداء إذا ما ارتأوا ذلك، كما فعلوا مع مانديلا من قبل، حيث يختم غاليانو بالقول: لقد ظهر اسم الأفريقي الأكثر احتراماً في العالم على تلك اللفافة المشؤومة لمدة ستين عاماً.

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

صلاح بدرالدين ملاحظة برسم شركاء الوطن باالإدارة الانتقالية واذا كان من حق الإدارة العسكرية ذات اللون الواحد تسييرشؤون البلاد بعد نيلها شرف اسقاط نظام الاستبداد – وهو عمل يحظى بكل التقدير – من جانب معظم السوريين الذين ناضلوايضا منذ عقود، وساهموا في اضعاف النظام، وقدموا في سبيل ذلك التضحيات الجسام، ولاشك انهم يتاملون ان يتم تنظيم الحوارات الداخلية…

فرحان كلش الملاحظ أن هناك تكالب دولي واقليمي مثير للريبة على المساهمة في تثبيت أقدام الإدارة الجديدة في دمشق، هذا الإندفاع ربما له أسبابه بالنسبة لكل دولة، فالدول الغربية تنطلق من الخطورة التي تشكلها الأحزاب اليمينية المعادية لللاجئين والتي تهدد الحكومات اليسارية واليمين الوسط الأوربي، لذلك نشهد أن هذه الحكومات تتقاطر إلى دمشق والمؤتمرات الخاصة بها بهدف التخلص من ملف…

عبدالرحمن کورکی (مهابادي)* يتجلّى الحل الحقيقي لمشكلة الاستقرار والأمن والتعايش في إيران والشرق الأوسط بشكل أوضح، يوماً بعد يوم. وهذا الحل هو “إسقاط دكتاتورية ولاية الفقيه الحاكم في إيران”. فلماذا؟ قبل التطرق إلى الإجابة على هذا السؤال، لا بد من الإقرار بحقيقة جلية وهي أن القوة الوحيدة التي وقفت منذ البداية موقفًا راسخًا ضد دكتاتورية ولاية الفقيه،…

خليل مصطفى اعتقدتُ (وكورد سوريا) أنه مع سقوط نظام البعث وفروعه الأمنية… ستختفي أصوات وكتابات شهود الزور (السُّفهاء) الأشد كفراً ونفاقاً من أعراب سوريا المُعاصرين.؟ لكن: الاعتقاد تلاشى بظهورهم (شهود الزور السُّفهاء) على وسائل التواصل الاجتماعي (فيسبوك، تويتر، يوتيوب انستجرام) وهُم ينبحُون دفاعاً عن أيديولوجيتهم النتنة… رغبة منهُم بإبقاء كورد سوريا مُهمشين إلى الأبد بلا هوية قومية، تماماً كنباحهُم (الهستيري):…