د. محمود عباس
أقدمت تركيا اليوم على مرحلة جديدة من مشاريعها التوسعية، تستهدف فيها الاستيلاء على مناطق غربي الفرات، التي لا تزال تحت سيطرة قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، وتشمل منبج، تل رفعت، وغيرها. هذه المؤامرة الأردوغانية السابعة التي تهدف إلى تقويض الإدارة الذاتية الكوردية في غربي كوردستان، أو ما تسمى بشمال وشرق سوريا.
لعبت دول إقليمية ودولية، وبتحريض تركي، دوراً محورياً في التحركات الأخيرة التي شهدتها حلب ومناطقها. ما كانت تتجرأ هيئة تحرير الشام وأدوات تركيا الأخرى الخروج من إطار الضبط الذي فرضته روسيا وإيران وفق قرارات مؤتمر أستانة، الذي أقر مناطق خفض التصعيد، لولا الإملاءات التركية المباشرة.
فالأحداث الأخيرة تُعد انقلاباً فاضحاً على اتفاقيات أستانة وسوتشي، التي صاغت ملامح التحركات الدبلوماسية بين روسيا، تركيا، وإيران. وبدأت في الظهور اتهامات متبادلة وحتى تهديدات ضمنية، مثل التصريحات التي أدلى بها رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني، والتي حملت انتقادات حادة لأردوغان، وتعكس مواقف طهران تجاه أنقرة.
لم يعد خافيًا على أحد أن الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل، عبر مساعدات أوكرانية استُخدمت كجسر، قد ساهمتا في تمرير ما قدمته تركيا لتجنب إشكالية اتفاقية أستانة، التي قد تؤدي إلى ردود فعل روسية يصعب احتواؤها. مثل هذا السيناريو سيكون كارثيًا على تركيا إذا أقدمت عليه، لذلك فبعض التقارير تشير إلى أن روسيا كانت على دراية مسبقة بالتحضيرات التركية وبما تنوي القيام به، لكنها ربما لم تكن على علم بأن العملية ستتوسع إلى الحد الذي وصلت إليه.
على الأرجح، قدمت تركيا العملية لروسيا وهي بدورها أخبرت بشار الأسد، على أنها موجهة لطرد قوات سوريا الديمقراطية (قسد) من غرب الفرات، مما ستشكل طعنة في ظهر الولايات المتحدة من خلال استهداف حليفها الأساسي، الإدارة الذاتية وقوات قسد، لكن التجاوز التركي لجغرافية العملية، إلى جانب عدم إلمام المخابرات الروسية بجميع أبعاد العملية، أدى إلى إقالة مسؤول القوات الروسية في سوريا، وخلافات لوجستية.
هذا التداخل في المصالح والتناقض في التحركات كشفت عن التوترات الخفية بين الأطراف الدولية الفاعلة، وبرزت كيف أن تركيا تتلاعب بموازين القوى بما يخدم أهدافها الاستراتيجية، حتى على حساب علاقاتها مع حلفائها الظاهريين.
العملية التي تجاوزت ما تم الاتفاق عليه بين تركيا وروسيا والتي كانت معروفة للنظام السوري من حيث الأبعاد التي تم التنسيق بشأنها مع روسيا، فلم تكن زيارة بشار الأسد لموسكو قبل العملية بيوم إلا مؤشرا على ما ننوه إليه. لكن توسع العملية، وبأوامر تركية مباشرة، مثل مغامرة غير محسوبة أدت إلى خرق قرارات أستانة والاتفاقيات الأخيرة. هذه الخطوة، التي حقق فيه أردوغان هدفه الرئيسي، من خلال خدمة مصالح الدول الضالعة في المؤامرة، وهما الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل، وبها كشف عن استراتيجية تركية مزدوجة.
عمليًا، نجحت تركيا في خداع جميع الأطراف، سواء الحلفاء أو الخصوم، لتحقيق ثلاثة أهداف رئيسية:
الهدف الأول: يتعلق بالمصالح الأمريكية والإسرائيلية، وهو القضاء على الميليشيات الإيرانية في سوريا. بعد حماس وحزب الله، وعلى الأرجح بعد سوريا يكون الحشد الشعبي في العراق كهدف محتمل، وهو ما يفسر النشاط الدبلوماسي الكثيف لرئيس الوزراء العراقي السوداني، الذي هاجم أردوغان دبلوماسيًا. الخطوة التالية قد تشمل الحوثيين في اليمن، وهو ما قد يدفع السعودية إلى الانخراط بشكل أكبر، بدعم الدول الإقليمية المعنية.
الهدف الثاني: يدور حول إرضاخ النظام السوري للقبول بشروط التطبيع مع تركيا، والتخلي عن مطلب الانسحاب التركي من الأراضي السورية. كما يتضمن إعادة توطين اللاجئين السوريين في المناطق التي تسيطر عليها تركيا، خصوصًا في عفرين، لتكريس التغيير الديمغرافي ضد الشعب الكوردي. ذلك سيُجبر النظام السوري على الدخول في مفاوضات مع المعارضة السورية تحت الشروط التركية، ولتسهيل العملية قد تقوم تركيا بدمج هيئة تحرير الشام مع الفصائل الأخرى تحت مظلة جديدة تحمل اسمًا مثل “الجيش الوطني السوري الحر”، مما يزيل عنها صفة الإرهاب مع الحفاظ على بعض المنظمات الإرهابية كأداة لتحقيق الأجندات التركية.
الهدف الثالث: وهو الأهم بالنسبة لتركيا، يتمثل في تحجيم دور قوات قسد في غرب الفرات كخطوة استباقية للهجوم على شرق الفرات في المستقبل. هذه المرحلة تُعتبر الحاسمة بالنسبة لأردوغان، الذي يهدف إلى حل هيئة تحرير الشام بدمجها مع فصائل أخرى أو تركها عرضة للهجمات الروسية والإيرانية، ليتم دمج ما تبقى منها في “الجيش السوري الحر”. بهذه الطريقة، تضمن تركيا استكمال مشروعها في احتلال شمال سوريا والقضاء على القضية الكوردية من خلال إضعاف الإدارة الذاتية، تحت ذريعة حماية أمنها القومي.
إن هذه المؤامرات تُظهر بوضوح أن تركيا تسير بخطوات متسارعة لتحقيق أهدافها التوسعية، مستغلة التناقضات الدولية والإقليمية، ومرحلة الاستلام والتسليم في الإدارة الأمريكية. وفي ظل غياب رد فعل دولي حاسم، تبقى الأطماع التركية تهديدًا مباشرًا للسلام والاستقرار في المنطقة، خصوصًا في ظل استهدافها المستمر للشعب الكوردي وقضيته العادلة، تحت حجة حماية أمنها القومي.
د. محمود عباس
الولايات المتحدة الأمريكية
mamokurda@gmail.com
4/12/2024م