إبراهيم اليوسف
عندما يتحوّل التاريخ إلى ساحة معركة، فإن من أول مهمات الباحث الكردي أن يكون بمثابة جندي شجاع في جبهة الصراع من أجل الحقيقة. لأن الحرب ضد الشعب الكردي لم تقتصر الحرب على السلاح والسياسة، بل امتدت إلى مراكز دراسات ومؤسسات إعلامية وثقافية هدفها محو الوجود الكردي وتشويه هويته، عبر دسّ كتابات وتلفيقات تخدم روايات المحتلّين، وتؤسس لإنكار مستدام لحق شعب عريق في الحياة والحرية. وهنا تتعاظم مسؤولية الباحث الكردي الملتزم، أياً كانت خلفيته التخصصية أو الأيديولوجية، في تفكيك هذه المنظومات الخطابية، والردّ عليها بسلاح الفكر والمعرفة. إن مقتسمي خريطة كردستان لم يكتفوا باجتياح الأرض وفرض الخرائط المصطنعة، بل سعوا إلى اختراع سردية رسمية تُقصي الكرد من الجغرافيا والتاريخ والوجدان. لذلك فإن مهمة الباحث لا تتوقف عند جمع المعلومات أو التحليل الأكاديمي، بل تلامس جوهر المعركة الوجودية لشعب مهدد بالذوبان أو التشويه.
أطلسٌ من الفكر والموقف: د. محمود عباس نموذجًا
في هذا السياق، ينهض الكاتب والباحث الدكتور محمود عباس، المختص في الجغرافيا وقارىء التاريخ بحيادية، بدور معرفي وإنساني بالغ الأهمية. بعد أكثر من ربع قرن من الكتابة اليومية، اختار أن يصوغ خلاصة مشروعه في كتابه “في قضايا كوردستان المحتلة”، الذي يصدر الآن في جزئه الثاني في طبعتين: عربية وإنكليزية، جامعاً بين الفكر والتحليل والتوثيق، في سبعة أقسام متصلة تشكّل خريطة ذهنية لحالة الكرد في عالمٍ يتصارع فيه المحتلون على اقتسامهم من جهة، وتتنازع فيه القوى الداخلية حول رؤية المآل من جهة أخرى.
ينطلق الدكتور عباس من مساءلة الوعي الكردي ذاته، كاشفاً عن أزمة فكرية تتعلق بالمطلقات والتصورات الجاهزة، ويرى أن التصوف التاريخي الذي مرّت به الروح الكردية ساهم في تغييب الواقع الملموس لمصلحة التصورات المجردة. في نقده لبنية العقل الجمعي، يعرض تداخل الدين والتصوف والقومية، ويؤكد أن اجترار الأساطير لا يصنع وعياً سياسياً فاعلاً. هذه المقاربة لا تنبع من موقف سلبي تجاه التراث، بل من رغبة في التأسيس لقومية تنويرية تتجاوز الشعارات، كما في النموذج السويسري أو الجنوب أفريقي، وتقف نقيضاً للقوميات الفاشية كالنازية أو البعثية.
ولا يتوقف عند تشريح الذات الكردية، بل يضعها في تماس مباشر مع وقائع الاحتلال، موضحاً أن العلاقة بين الكرد ومحتليهم لا تخضع لمنطق الإنسانية أو القانون، بل لمنطق القوة والتزوير. ففي الوقت الذي يُتّهم فيه الكرد بإحداث تغييرات ديمغرافية، يجري على الأرض تعريبٌ وتركٌ وتهجيرٌ منظم، دون أي مساءلة دولية. وهنا يسجّل الكاتب حضوراً قوياً في إدانة الصمت الأممي، داعياً إلى مشروع قومي يضع الحقائق في موضع الفعل.
في قراءته للاتفاقيات الدولية، مثل سايكس- بيكو، يُسوغ د. محمود عباس كيف تحولت خرائط القرن الماضي إلى قيود على الجغرافيا الكردية. الخرائط المصطنعة لم تكن فقط أدوات لتقسيم الأرض، بل أصبحت أدوات لتمزيق الهوية وإضعاف الإمكانات الذاتية. يتوقف الكاتب عند غياب المشروع القومي الكردي الجامع، ويرى أن الصراع الداخلي بين الفصائل والأحزاب هو أحد أخطر التحديات التي تُضعف قدرة الكرد على بناء دولة أو حتى إدارة ذاتهم بفعالية.
كما يناقش الصراعات المتعددة التي يتورط فيها الكرد، من قصف السليمانية إلى كارثة عفرين، منتقداً بشدة الانقسامات الداخلية، والصراعات الحزبية التي تلتهم الطاقات وتضعف الموقف العام، ويرى أن الخيانة لا تُقاس بالخروج عن الحزب، بل بالخروج عن روح الكفاح من أجل الشعب. إن مساءلة الذات هنا لا تنفصل عن نقد القوى الإقليمية والدولية، حيث يعري الكاتب الدور التركي، ويحاكم تأثير الدعاية الممنهجة التي تحول المعتدي إلى ضحية، وتحوّل الكردي إلى متهم لمجرد وجوده.
آفاق التحرر والاستقلال الكردي
لا يكتفي الكاتب بالتشخيص، بل يذهب إلى طرح مقترحات وتحليلات استراتيجية، يرى فيها أن التحرر الكردي لا يكون فقط برفع الشعارات، بل بتجاوز الارتجال وبناء لوبيات فكرية وسياسية قادرة على مواجهة تحالفات الإنكار. في معالجته لموضوع الإدارة الذاتية، يؤكد أن الاعتراف بها لا يتم عبر المجاملات أو التبعية، بل من خلال مشروعية تستند إلى تمثيل حقيقي للشعب الكردي، وعمل مؤسساتي متكامل.
يناقش الكاتب بجرأة العلاقة مع الولايات المتحدة وتركيا، متسائلاً لماذا تنحاز واشنطن للرؤية التركية في التعامل مع الكرد، رغم الاختلاف الجوهري في مواقف الطرفين من الإرهاب والإنسان. كما يسلّط الضوء على حملات التشويه التي يتعرض لها الكرد، ويحلل واقع المجلس الوطني الكردي، داعياً إلى وحدة سياسية تقوم على المصالح العليا، لا على استنساخ خطاب المحتل أو التماهي معه.
أما فيما يخص مستقبل كوردستان، فإن محمود عباس ينظر إليه كجزء من إعادة تشكيل المنطقة. يؤكد أن صعود كوردستان ليس تهديداً لجيرانها، بل ضرورة لتحقيق التوازن والاستقرار. يرى أن الكرد هم ضحايا ازدواجية المعايير، حيث يُطلب منهم أن يكونوا حلفاء مثاليين دون أن تُضمن لهم حقوقهم. ويتأمل في فكرة “لوزان ثانية”، محذّراً من أن يعيد الكرد إنتاج مأساتهم بأيديهم، إذا لم يبنوا أدوات الوعي القومي المستقل، والمشروع السياسي الواقعي.
يطرح الكاتب، في الفصل الأخير، سؤالاً وجودياً: إلى متى ستبقى كوردستان بين مخالب الاحتلال؟ وهل يمكن تحقيق الاستقلال في ظل النظام الإقليمي الراهن؟ يربط بين فكرة التحرير والتحديث، ويرى أن بناء دولة كردية لا يتطلب فقط خروج المحتل، بل نهضة فكرية شاملة، وإعادة بناء العقل السياسي الكردي على أسس استراتيجية لا حزبية.
إن كتاب “في قضايا كوردستان المحتلة” بمحتواه الكثيف وتحليله المتين- حتى وإن اختلفت معه في العديد من النقاط فيما يتعلق بالشأن الكردي/ الكردي، لا يقتصر على التوصيف أو التأريخ، بل يشكّل مساهمة فكرية في زمن تزدحم فيه الساحة بالكلام العابر والسطحي. هو نداء إلى العقل الكردي لينهض من غفوته، ويعيد قراءة ذاته بعيون نقدية، بعيداً عن الضجيج، وقريباً من الحقيقية. لا يقدم محمود عباس حقائق جاهزة، بل يحرّض على التفكير، ويفتح أبواب الأسئلة، ويدعو إلى تجاوز الانقسامات، والانخراط في مشروع قومي تحرري يقوم على الوعي والاستراتيجية لا على الحنين وحده.