إبراهيم اليوسف
لقد كان حلم السوريين أن يتوقف نهر الدم الذي فاض وارتفع عداده ومستواه، تدريجياً، طيلة العقود الأخيرة، أن يُفتح باب السجون لا ليُستبدل معتقل بآخر، بل ليُبيّض كل مظلوم مكانه، أن يتحول الوطن من ساحة للبطش إلى حضن للكرامة. لقد كان الأمل كبيراً في أن تؤول الأمور إلى دولة ديمقراطية، تُبنى على قواعد العدالة والحرية والكرامة، لكن هذا الأمل سُرِق مجدداً، وها هو يدخل ثلاجة الموتى إلى إشعار آخر، في انتظار عودة الروح، وإن ليس بعيداً عن دورة الزمن والتاريخ والحياة؟
لم تكن آلة القمع السابقة ـ بكل فظاعتها ـ سوى رأس جبل الجليد المذوب، آنياً، فالذين تربوا في أحضانها، ونهلوا من مفاهيم الإذلال وتحقير الإنسان، لم يغيبوا، بل راقبوا، وتناوموا، وتربصوا. ما إن سنحت لهم الفرصة حتى أعدّوا العدة للانقضاض على لحظة التحول المفترضة، وها هم يعودون، بأثواب جديدة، وبكلمات مموّهة، ليعيدوا مجد القهر الذي أسسه السفاح حافظ الأسد وورّثه لابنه المستهتر الهزيل والجبان بشار. لقد تخفوا خلف شعارات التغيير، إلا أنهم لم يغيروا شيئاً سوى الألوان والشعارات.
لم تكن السلطة الجديدة، التي أُفرغت من مضمون الثورة، في حقيقتها، أكثر من انقلاب على انقلاب، تمّ بتواطؤ إقليمي ودولي بعد أن أدرك جميع المعنيين والمراقبين أن السفاح بشار لم يعد له مكان في الحلبة. لكنه لم يُطرد مهزوماً فقط، بل ترك وراءه جيشاً من القتلة المؤدلجين، ومؤسسات مدربة على القمع، و”زعراناً” موهوبين في فن التخويف والتنكيل، و”بنات هوى” وكباريهات” كانت جزءاً من تركيبة الحكم الأمني الفاسد، ليجدوا أنفسهم فجأة على موائد التحالفات الجديدة.
إن هؤلاء الذين قتلوا ودمروا عفرين وسري كانيي وكري سبي ليسوا غرباء عن نهج الطاغية الأحمق بشار، بل هم امتداد عضوي لمنهجه. هم لم يسقطوا النظام، بل استثمروا سقوطه، وأُطلق لهم العنان ليواصلوا المهمة، وكأن سوريا لا تحتمل غير الجلادين على اختلاف توصيفاتهم المتوائمة والمتناقضة، وكل من لم يبايع الطغيان يُنبذ أو يُقتل أو يُهجّر، وأن السوريين- للأسف- يتحملون جزءاً من المسؤولية بسبب حضور طوابير من المرتزقة” الإمَعات” والببغاوات المصفقين لكل حاكم جديد، ولديهم من مسوغات الانقلاب البرهيَة على الذات- والتي تمكنهم من تدبيج نظريات انقلابية مضحكة مبكية- بما يستحق تناولها في مجلدات من قصص عايشناها خلال عقد ونيف من الزمن، بل ما بين مساء الثامن من كانون الأول 2024 وفجره، ضمن مسافة يضع ساعات فقط، !!!؟
ولا يخفى على أحد أن العلويين والدروز والكرد، وكل من ليس ضمن خريطة السيطرة الجديدة. خريطة دجل ونفاق الانقلاب على الذات والخضوع والتذلل والممالقة والعهر السياسي- ولا أعني البتة من هم مقتنعون بمستجدات ومفردات الأمر الواقع الذي يجسد رؤاهم وقناعاتهم وهم موجودون لهذا السبب أو ذاك- صار مشروع تصفية أو تهجير أو تهميش. فالكرد الذين واجهوا داعش في أصعب معارك الأرض، صاروا ضحايا جديدين لتحالفات القذارة، إذ نُكّل وينكل بهم- وإن في إطار التهديد والتشويه المعنوي- باسم التحرير. عفرين التي كانت يوماً ملاذاً للكرامة، تحولت إلى سوق نخاسة، تتقاسمها ميليشيات لا تعرف سوى لغة السلب والنهب.
ما يُثير السخرية أكثر، أن من يدير المشهد الآن يستخدم أدوات “حكيم القرية الدكتاتور” القديم: يتكئ على “القبضايات والزعران”، أولئك الذين لا يعرفون غير لغة العصا، ويستعين بـ”الزعران” وحتى “بنات الهوى” و رواد “الكابريهات” لتسويق القوة، إذ كان يستخدم خطابين متفقاً عليهما بينه وهؤلاء لكسر رؤوس كل من لا يرعوى لسلطانه أو كل من يتوسم فيه رفضه وعدم الإذعان لجبروته وغيه :
التوبيخ والتهديد العلني
المكافأة والثناء والدعم السري
إذ إنه يتخلص بهذا من هؤلاء الخصوم وهؤلاء الأدوات أيضاً، قبل أن ينقلبوا عليه!
وهي سياسة مكشوفة مفضوحة على مستوى القرية أو الحي أو المدينة وقد مارسها النظام البائد من خلال قطيع من أزلامه ورجال أمنه وحتى زائرات النهار والليل من أجل قمع كل ذي صوت جريء وشجاع كمرحلة أولى قبل الإجهاز عليه وتصفيته جسديا من خلال محاولات ابتزازه والإجهاز إليه معنويا وثمة بعض مخبري النظام وأدواته ممن يمارسون شغلهم ذاته الآن بعد أن أدوا خدمات له في المرحلة السابقة فها هم يجندون أنفسهم لمرحلة الأمر الواقع وسيواصلون شغلهم بعد أفول هذه المرحلة بلا خجل وبلا حياء تماماً كما فعل نظام البعث الساقط. حيث أن كل من يعارض يُهَدَّد، وكل من ينحني يُثنَى عليه علناً ويُدعَم سراً، ويرقى كما حال المجرم الدعي أبي عمشة وأشباهه!
لقد صارت الميليشيات هي الحاكم الفعلي، وهي تُستخدم لتصفية الخصوم، ثم يُستنزف بعضها ببعض، حتى يُخشى بأسها. هي خطة ذكية لمن يريد أن يبقى، لكنها خطة قذرة إن كنا نبحث عن دولة. أما منهزمو النظام السابق فهم سعداء، لأن النتائج تخدمهم، ومن ينفذون الجرائم اليوم ليسوا إلا امتداداً لهم، ينفذون خططهم، كي يحصدوا هو الثمار.
وفي الواقع، أن الكارثة لم تكن فقط في الطغاة، بل في أدواتهم، أيضاً، في ذلك الجيل الذي عاش ممزقاً بين زمن السجون والخوف، بين إغراء السلطة وذل القهر، فيمن صاروا “زعراناً” ومخبرين بالوراثة، والذين ما زالوا يتنقلون من سلطة إلى أخرى، دون حياء، كأنهم يُعيدون تمثيل مسرحية السقوط، كلما تغير الستار، ليؤدوا أدوارهم المطلوبة كمهرجين، ببغاوات، يكررون ما يمليه عليهم الملقنون واحداً تلو آخر، ولا يلزمهم في مثل هذه المهمة إلا المزيد من الممالقة. الاستعداد لإيذاء من حولهم، في ظل انعدام الكرامة والشرف، لقاء الارتقاء الوظيفي أو المعنوي.
مفجع أن نكون أمام تكرار مأساوي، أن يُعاد إنتاج الطغيان تحت لافتة التغيير، أن يُستبدل السيف بسكين، والطاغية بقاطع طريق، والجلاد بمليشياوي، وكأن لا طريق لنا إلا بين دمارين، لا خيار إلا بين زنازين الأمس العلنية والسرية وكابريهات اليوم المستترة، التي تعتمد خريجيها ذواتهم.