مع إبراهيم محمود حين يكتب المثقف من عزلته النبيلة

د. محمود عباس

 

عزيزي إبراهيم محمود،

قرأت كلمتك التي جاءت إضاءةً على مقالتي، فلم تكن مجرد “ردّ”، بل كانت استئنافًا لحوارٍ أعمق، طالما تهرّبت منه الساحة الثقافية الكوردية، أو تم اختزاله في شعارات مستهلكة، لم أتفاجأ بجرأتك في تسمية الأشياء، ولا بذلك الشجن الفكري الذي يسكن سطورك، فأنت كتبت كمن يعرف أن لا أحد سينقذ هذا الجسد الكوردي من هشاشته سوى الكلمة، حين تخرج من روح مثقلة لا من حسابات التحزب.

ما لفتني في طرحك، هو أنك لم تحصر الإحباط في “تأخرك عن الرد”، بل جعلت منه مدخلًا للحديث عن الإقصاء العميق الذي يلاحق المثقف حين يقرر ألّا يكون تابعًا، ولا ملحقًا بجوقة التصفيق، وقد صدقت، حين قلت إن المثقف الحقيقي هو الطريد الأكبر، ليس لأنه اختار المنفى، بل لأن المجتمع والسياسة قررا نفيه من الداخل.

لا أدّعي أنني أملك أجوبة نهائية، لكنني أتقاطع معك تمامًا في أن المأساة الكوردية لا تتوقف عند الاحتلالات الخارجية، بل تتجذر في البنية النفسية والسياسية التي أعادت إنتاج القمع بأشكال جديدة، التهميش لم يعد مجرد فعل سلطوي، بل أصبح أداة ناعمة، تمارسها المؤسسات، والإعلام، وحتى بعض من يدّعون الدفاع عن الثقافة.

لفتني أيضًا ما قلته عن المثقف الذي لا يجد مكانًا في الإعلام، لأن لغته لا تُطرب السياسي، بل تُزعجه. هنا مكمن الخلل، حين يُقاس المثقف بمدى قابليته للترويض، لا بعمق طرحه، تتحوّل الثقافة إلى زينة للسلطة، لا ضميرًا للمجتمع.

وتساؤلك الموجع، “إلى أي مدى، كان أكثر من يزعمون تمثيل الكورد قد جعلوا الهم القومي نصب أعينهم؟”
هو سؤال جوهري، يُحرجنا جميعًا، لأننا ندرك، كما تدرك، أن الكثيرين ممن تحدثت عنهم، لم يروا في “الكوردية” مشروعًا أخلاقيًا أو حضاريًا، بل مجرد رصيد تفاوضي في بازار السياسة. وهنا، ينهار المعنى، وتتحوّل القضية إلى بطاقة يُلوَّح بها عند الحاجة، لا رؤية تُبنى عليها حياة.

أما إحساسك بالغربة والخذلان، فأنا لا أقرأه كاعتراف بالهزيمة، بل كحالة وجودية تُلازم من اختار التفكير بدل التهليل، والسؤال بدل الطاعة، وهذا، برأيي، قدر المثقف الحقيقي، أن يعيش دائمًا على حافة الخسارة، لأنه لا يقبل أرباحًا بلا ثمن، ولا ولاءً بلا قناعة.

وأختم بما بدأته أنت، نعم، نحن بحاجة إلى المثقف “الذي يعيش مجتمعه”، لا ذلك الذي يعتليه، أو يعبر فوقه. نحتاج إلى صوتٍ يرى الكردي كما هو، لا كما يراد له أن يكون، ويضع إصبعه على الجرح دون أن ينتظر تصفيقًا من أحد.

دمت صاحب القلم القلق، والوعي الذي لا يهدأ.

 

د. محمود عباس

الولايات المتحدة الأمريكية

mamokurda@gmail.com

17/4/2025م

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

م.اياز خلف في زيارة تحمل رمزية عالية، اختار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب السعودية مجددًا كمحطته الخارجية الأولى في ولايته الثانية، في مشهد يعيد إلى الأذهان زيارته الأولى عام 2017. هذه الخطوة ليست بروتوكولية فحسب، بل تشير إلى أن الرياض ما تزال مركز ثقل إقليمي لا يمكن تجاهله، خصوصًا في الملفات الحساسة والمتشابكة، وعلى رأسها الملف السوري. تأتي زيارة ترامب في…

صالح بوزان ـ دادالي ما إن تنفس الشعب السوري الصعداء بكافة أطيافه ومكوناته وتياراته يوم ٨ كانون الأول من العام ٢٠٢٤ بسقوط نظام البعث في سوريا وهروب رأس النظام بشار الأسد ، إلا أنه وبعد أيام معدودة من سيطرة الجهاديين المنضوين تحت لواء هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقًا)، بقيادة أبو محمد الجولاني ( أحمد الشرع )، وانتشار تلك…

يتابع المجلس الوطني الكردي باهتمام بالغ التطورات الأخيرة المتعلقة بإعلان حزب العمال الكردستاني، في مؤتمره الأخير، وقف العمل المسلح وحلّ الحزب، استجابةً لدعوة زعيمه السيد عبدالله أوجلان. ويعتبر المجلس أن هذه الخطوة تمثل تحولاً سياسياً مهماً وإيجابياً من شأنه الإسهام في تعزيز فرص السلام والاستقرار في تركيا والمنطقة عموماً. وإذ يثمّن المجلس الوطني الكردي هذا التوجه نحو المسار السلمي، فإنه…

فواز عبدي   حسب ما قرأت فإن ما حدث في بحيرة ميدانكي بريف عفرين لا يمكن اختزاله فقط في نفوق الأسماك أو انبعاث روائح كيميائية غريبة من الماء. إننا أمام جريمة متكاملة الأركان، تُرتكب عن سابق إصرار وتصميم، في منطقة أنهكتها الحرب، ولم تَسلم حتى مواردها الطبيعية من وحشية الإنسان. إن تسميم المياه ليس فقط خرقاً بيئياً أو تهديداً للصحة…