محمد جزاع في كتابه الثاني: تراجم شخصيات.. إضاءة على سير مناضلين من الرعيل السياسي الأول! (1-2)

إبراهيم اليوسف

 

صدر مؤخرًا للباحث محمد جزّاع كتاب توثيقي مهم في مدينة قامشلي، في 2004 صفحات، بعنوان:  “تراجم شخصيات” عن منشورات الحزب الديمقراطي التقدمي الكردي في سوريا-2025. جاء هذا الكتاب وفاءً واضحًا وصادقًا للحركة الكردية التي آمن بها المؤلف وجدانيًا، وخدمها بكل ما في وسعه، وإن لم يكن منخرطًا فيها تنظيميًا بصورة مباشرة، بل كأحد أبرز وجوه التحالف الوطني الكردي المستقلين مع الكاتب عبدالإله الباشا وآخرين. وقد تجلّت في صفحات هذا العمل ملامح إخلاصه لتاريخ شعبه، ووفاؤه لكل مناضلي تلك المرحلة التأسيسية، ومن بينهم خاله المناضل حمزة نويران، أحد أبرز الوجوه في تاريخ النضال الكردي في سوريا، وصديقه الراحل عبد الحميد درويش، الذي شكّل مدرسة فكرية وحزبية متفردة في الحياة السياسية الكردية السورية لعقود طويلة. وكان بعض هؤلاء يتحدر من الحزب الشيوعي السوري الذي غادروه، نتيجة خلافات حول القضية القومية، كما ورد في الكتاب، وبحسب شهادة شخصية من قبل الكاتب الراحل عبدي يوسف” سبتي”، أدلى بها لي!

يتكوّن الكتاب من فصول عدة، تضم تراجم وسِيَر نخبة من شخصيات الرعيل الأول من مناضلي الحركة السياسية الكردية في سوريا، مثل: نور الدين ظاظا، أوصمان صبري، جكرخوين، عبد الحميد درويش، محمد صالح درويش، حمزة نويران، رشيد حمو، محمد علي خوجة، وآخرين. يقدّم المؤلف سردًا غير تقليدي، فهو لا يكتفي بتعداد التواريخ والأحداث، بل يعيد خلق السياقات الثقافية والاجتماعية والسياسية التي أنتجت تلك الشخصيات، ما يمنح الكتاب بعدًا تحليليًا وإنسانيًا في آن.

في تناول سيرة نور الدين ظاظا، أول من يتناولهم جزاع، في تراجمه، يضيء الكاتب على عمق التكوين الفكري لهذا الرجل، وعلى محاولاته في نقل الكردي من الانفعال السياسي إلى التنظير الثقافي. أما جكرخوين، فقد جعله المؤلف مرآة لصوت الشعب، شاعرًا يكتب بلسان القرى الكردية المهمّشة، ويحوّل الشعر إلى فعل مقاومة مستمر. ويخص عبد الحميد درويش بحضور مركب، لا بوصفه فقط رجل تنظيم وسياسة، بل كجسر بين أجيال، وكمثال على النضال ضمن هوامش الممكن السياسي في ظل دولة قمعية.

لا يغفل الكتاب التحديات التي واجهت هذه الشخصيات: من الاعتقال والنفي، إلى صراعات حزبية داخلية، إلى التهميش والنسيان. لكنه لا يتورّط في التبجيل أو الخطابية، بل يوازن بين التوثيق والتحليل، وبين الإشادة والملاحظة النقدية. ويُلاحظ أن الكاتب يعتمد على مراجع شفوية ومكتوبة، معتمداً على شهادات، ووثائق داخلية، وبعض ما بقي من أرشيف الحركة، مما يمنح النص صدقية إضافية.

أسلوب جزّاع في الكتابة يتميز بالهدوء، واللغة المتزنة، والابتعاد عن الانفعال أو التحامل، ما يمنح الكتاب بعدًا أكاديميًا، رغم بساطة العبارة وسلاسة السرد. وهذا التوازن بين الموضوعية والانتماء هو أحد عناصر القوة في العمل، لأنه يجعل القارئ يثق بالنص، دون أن يشعر بأنه يُدفع إلى موقف أيديولوجي محدد.

تكمن أهمية الكتاب في سدّه لفراغ واضح في توثيق التجربة السياسية الكردية في سوريا، لا سيما في مرحلتها التأسيسية. إنه لا يسلّط الضوء فقط على أسماء، بل يستحضر مراحل كاملة، وأحداثًا مفصلية، وأسئلة لم تُطرح كثيرًا: كيف بدأت الحركة؟ لماذا انقسمت؟ من هم صُنّاعها الحقيقيون؟ وما الذي حدث بين الحلم والواقع؟ كل هذا من خلال وجهة نظره كمتابع للخط البياني السياسي للحركة الكردية، من خلال وجهة نظره، كشخصية وطنية ذات علاقات جد قوية مع الحركة الكردية، وإن كان هناك الآلاف من المناضلين الكرد بل مئات الآلاف- في أقل تقدير- من لهم حضورهم النضالي، من ضمن الحركة السياسية، أو عبر فضائها العام، بل إن هناك شخصيات لها أدوار تمنحها لتكون من عداد مناضلي الصف الأول، كما أرى، ناهيك عمن ضحوا بأرواحهم، أو من كرسوا كل حياتهم لقضيتهم طوال حياتهم.

كما يُشكّل الكتاب نداءً غير مباشر للأجيال الجديدة من الكرد، للعودة إلى الجذور، وإلى قراءة التجارب السابقة بعين نقدية لا تبخسها حقها، ولا تُغرقها في التقديس. إذ يُعيد جزّاع الاعتبار لذاكرة نضالية كانت مهددة بالنسيان، ويسجّل للتاريخ، من موقع المنتمي لا المتفرج.

من الناحية التوثيقية، يُعتبر الكتاب إضافة مهمة إلى المكتبة الكردية، لأنه يقدم مادة أولية نادرة يمكن للباحثين الاعتماد عليها في بناء سرديات أوسع عن الكرد في سوريا. أما من الناحية السياسية، فهو بمثابة إعادة الاعتبار- على نطاق أوسع- للرموز الكردية في مواجهة سردية النظام التي لطالما حاولت تشويه هذه الشخصيات أو تهميشها. هذه الأسماء المقدرة- أصلاً- لدى جماهير شعبها، على امتداد خريطة الوطن.

إن الكتاب يشبه “سجل شهداء” من نوع خاص، رحلوا جميعاً، ماعدا واحداً: د. خليل محمد الذي يقيم في الولايات المتحدة، لكنه لا يرثيهم، بل يستدعيهم إلى الحاضر، ليكونوا مرآة لما نعيشه، وشعلة لما يمكن أن يكون. وفي زمن تتنازع فيه السرديات الكبرى، يقدّم محمد جزّاع سردية صغيرة، لكنها صادقة، وعميقة، وإنسانية.

مؤكد أن تاريخ الحركة السياسية الكردية يمتد حوالي سبعين نسمة، أسهم في العمل فيها: عشرات الآلاف من المناضلين، بل مئات الآلاف منهم، في أقل تقدير. ممكن كانوا النواة، ماعدا من كانوا يعملون في فضاء هذه الحركة بما يكاد يكون شعباً كاملاً. منهم من ترجم حبه لقضيته بالشهادة الواقعية- كما سيحدث في سنوات الحرب الأربع عشرة- ومنهم من ذاق مرارة السجن، والملاحقة، والحرب على اللقمة- في عقود من تسلط الدكتاتوريات الشوفينية- بل حرب أجهزة النظام العنصري التي افتقدت في حربها كل أصناف الأخلاق ضد الكرد خاصة، وما أكثر هؤلاء المناضلين الذين كرسوا حياتهم، ولايزالون يكرسونها منذ بداية وعيهم وحتى اللحظة، في سبيل خدمة وطنهم وقضيتهم.

من هنا، فإنه يمكن القول: إن كتاب محمد عثمان جزّاع- ابن سري كانيي- رأس العين المحتلة من قبل تركيا ليس فقط عملًا توثيقيًا، بل موقفًا أخلاقيًا، وثقافيًا، وسياسيًا، يُعيد الاعتبار لمَن صنعوا الحلم الكردي، ومضوا بصمت، دون أن ينتظروا تكريمًا. إنهم هنا، في هذه الصفحات، ينهضون من جديد، لا ليطالبوا بشيء، بل فقط ليُقال عنهم: “لقد كانوا هنا، ولهم علينا دين لا يُنسى.”

وأخيراً، فإنني أعترف بأنني ممن يثمنون- عالياً- جهود كتابنا وباحثينا في مجال التوثيق والتأريخ، ولطالما دعوت إلى ذلك، في وجه هؤلاء الذين لم يكتفوا بتزوير التاريخ، بل يدعون إلى إمحاء وجود الكردي وأثره، في وطنه، وفوق ترابه!

 

 

*يتبع في الحلقة الثانية

محمد جزاع

شهادة شخصية!

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

شادي حاجي في السنوات الأخيرة، بات من الصعب تجاهل التحوّل المتسارع في نبرة الخطاب العام حول العالم . فالعنصرية والكراهية والتحريض عليهما لم تعودا مجرّد ظواهر هامشية تتسلل من أطراف المجتمع، بل بدأت تتحول، في أكثر الدول ديمقراطية ولم يعد ينحصر في دول الشرق الأوسط ( سوريا . لبنان – العراق – تركيا – ايران وو .. نموذجاً ) وحدها…

ياسر بادلي ليس اختيارُ الرئيس العراقيّ السابق، برهم صالح، مفوّضاً سامياً لشؤون اللاجئين حدثاً عابراً يمرّ على أطراف الأخبار؛ بل هو لحظةٌ ينهضُ فيها تاريخُ شعبٍ كامل ليشهد أن الأمم التي صُنعت من الألم تستطيع أن تكتب للإنسانيّة فصلاً جديداً من الرجاء. فالمسألة ليست منصباً جديداً فحسب… إنه اعترافٌ عالميّ بأنّ الكورد، الذين حملوا قروناً من الاضطهاد والتهجير، ما زالوا…

المحامي عبدالرحمن محمد   تتواصل فصول المسرحية التركية وسياساتها القذرة في الانكار والنفي للوجود التاريخي للشعب الكوردي على ارضه كوردستان، ومحاولاتها المستمرة لالغاء ومحو كلمتي كورد وكوردستان بوصفهما عنوانا للهوية القومية الكوردية والوطنية الكوردستانية من القاموس السياسي والحقوقي والجغرافي الدولي، سواء على جغرافيا كوردستان او على مستوى العالم. تارة يتم ذلك بحجة وذريعة الدين (الاسلام)، وتارة اخرى باسم الاندماج والاخوة،…

  إبراهيم اليوسف وصلتني صباح اليوم رسالة من شاعرة سورية قالت فيها إنها طالما رأتني وطنياً لكنها تجدني أخرج عن ذلك، أحياناً. رددت عليها: صديقتي، وما الذي بدر مني بما يجعلك ترين وطنيتي منقوصة؟ قالت: أنت من أوائل الناس الذين وقفوا ضد ظلم نظام البعث والأسد. قلت لها: ألا ترينني الآن أقف أيضاً ضد ظلم السلطة المفروضة- إقليمياً ودولياً لا…