حسن عبدالله
لم تتوقف حركة الأرجل منذ أن توهّجت رائحة الحريق في خرائط البلاد، وسقط نظام آل الأسد، ومفهوم سلطة الأبد، إذ تسللت أفواج بشرية بشكل مريب نحو العاصمة، لا حبًا بها، بل اتّقاءً من شبح كان يكبر في العلن، نتيجة خوف صنيعهم وتعاملهم مع النظام السابق. شخصيات تلبّدت في الظل طيلة سنوات، بعضها من أبناء الداخل السوري، والبعض الآخر من بقايا المعارضات المدّعية في الخارج وكانت لها صلاتها مع أجهزة النظام وسفاراته، وجوه كانت تتسول مواقفها أمام الكاميرات، فإذا بها تنسل الآن في نعال الخوف نحو أبواب دمشق.
لم تكن هيئة تحرير الشام – أو بالأحرى جبهة النصرة كما عرفت في مراحلها الأولى– سوى بوابة للعبور. هناك، تفتّحت الأعين على فرص التسلّق الجديد. استشعر كثيرون أن الزمان انقلب فجأة، وأن الطريق الأقصر للنجاة لم يعد يتطلب شجاعة الموقف، بل خفّة النفاق. فصار المنخرطون في المكاتب الأمنية القديمة، والمراسلون السريون، والسماسرة المتجولون، يتقاطعون في ممرات المدن والقرى، يتناقلون الأسماء، يهمسون بالأرقام، ويروجون للوهم: “نملك مفاتيح الأبواب المقفلة في العاصمة”.
حيث خُيِّل للبعض أن حضورهم وحده، أو مصافحتهم لمن أُلبسوا العباءة الجديدة، كافٍ لتبييض صفحات سابقة مثقلة بوشاياتهم. هؤلاء الذين نحتوا أسماءهم في سجلات البعث، ثم ارتدوا أقنعة النقاء الثوري حين هبّت الريح، بدأوا بالتقاط أنفاسهم على أبواب مكاتب مستحدثة، في هيئة، أو مجلس، أو لجنة. إذ لم يعد يكفيهم الصمت، بل راحوا يطالبون بالوزارات، بالسفارات، بإدارة المحافظات، وبالظهور على الشاشات مجددًا.
أما أخطر ما حرك أرجل الهاربين، فكان ما نُقل عن الرئيس أحمد الشرع، الرجل الذي يقال إنه تسلم مفاتيح الأرشيف الأمني، وإنه شكّل لجانًا محلية لفرز الملفات تبعًا للمدن والبلدات. هذا ما ألهب الذعر في قلوب كثيرة. إذ لا يزال أرشيف الدولة قائماً، حتى لو اشتعلت فيه بعض النيران. فتسابقوا إلى من يزعم أن بإمكانه تمزيق صفحة، أو إفراغ حاسوب، أو إسقاط اسم من قائمة الممنوعين. وقد انتشر في السوق السورية جنس جديد من التجار: سماسرة الغفران، رجال يوهمون أن لهم صلات خفية بمن يحكمون اليوم.
السلطة، من جهتها، تمارس لعبة الصمت. لا تكشف، لا تفضح، لكنها لا تنسى. إذ أن هذا النظام، ومنذ أن شاد حافظ أسسه الحديدية، لم يعتمد فقط على أجهزته المعلنة، بل على شبكات ضخمة من المخبرين، من الذراع الثقافي، إلى الاقتصادي، إلى الديني. وكل من تقاسم معه الخبز المسموم، يعرف أن البصمة باقية.
وتمامًا كما حدث في بغداد بعد سقوط حكم صدام حسين، حيث انهارت الجدران على الأرشيف، وخرجت أسماء العملاء إلى العلن، يخشى هؤلاء أن تتكرر النسخة الدمشقية، ولو بشكل أكثر مواربة. فارتأوا أن الهرب إلى الأمام خير من الموت في المؤخرة.
بل الأدهى أن بعضهم انقلب على نفسه بالكامل. فبعدما كان يلعن هيئة تحرير الشام، صار يمتدحها علنًا. بعد أن هاجم رئيس الهيئة، راح ينظم القصائد في مديحه، ويعلن ولاءه لنهجه. هؤلاء لا دين لهم سوى النجاة، ولا ذاكرة لديهم إلا حين يحتاجون إلى ورقة طيّها.
وثمة فئة رابعة، أكثر دهاء، لم تطأ أقدامها دمشق بعد، لكنها تدق الأبواب من بعيد. ترسل المراسيل، تكتب الرسائل، تعرض الطاعة مقابل ضمانة. كل ذلك تحت غطاء “التعاون في الملفات الحساسة”. هؤلاء أيضاً يسابقون الزمن، خشية أن يظهر اسمهم في تقرير، أو وثيقة، أو شهادة.
إذ لا تزال السلطة، حتى اللحظة، تحتفظ بعينها نصف المغلقة. لا تفتح النار، لكنها تُبقي الكل في دائرة الترقب. فهي تدرك أن كشف المستور قد يفجّر الأوضاع، ويعرّي مئات الآلاف من الأسماء المرتبطة بها، أولئك الذين خدموا في الظل، وشوّهوا الحلم، وساعدوا الطاغية على الاستمرار.
بالفعل لايدري أحد ما الذي يدفع كائنًا كان يتغنّى بالثورة أو يدّعي المعارضة، أن يحزم حقائبه إلى دمشق، إلا الرغبة في غفران كاذب، أو حلم بمنصب؟ ما الذي يجعل المخبرين يهرولون، سوى إدراكهم أن التاريخ لا يرحم، وأن أرشيف آل الأسد لا يُمحى بسهولة؟ وهل تكون البلاد قد تحررت فعلًا، حين يصبح جلادو الأمس سادة المرحلة المقبلة؟
الزمن نفسه الذي أدار لهم ظهره، بات يلاحقهم الآن من كل زاوية. أما الناس الذين خُدعوا بهم، فقد كفّوا عن التصفيق. فالمخبرون – وإن بدّلوا أثوابهم – يبقون كما هم، يبيعون القصة نفسها، ويشترون الوهم عينه. وعلى حكومة الرئيس الشرع أن تنتبه
معتقل سابق لمدة خمس سنوات وكاتب سوري مواليد 1978 صاحب موقع-رؤية- الذي كان من المواقع الأنترنيتية الشاملة في عام 2003 وتم إغلاقه يكتب المقال السياسي والقصة شهادة جامعية في المعلوماتية