شاطئ الخوف: تأملات في ظل صمت البنادق

بوتان زيباري

ثمة همسٌ يرتفع في داخلي. ليس صراخًا، بل ارتجافةُ سؤالٍ يولد من رحم التردد: هل ما نعيشه اليوم نسيم سلامٍ حقيقي؟ أم أن خطواتنا تقترب من عاصفة تتنكر بهيئة هدوء؟ إعلان حزب العمال الكوردستاني عن إلقاء السلاح أثار فيّ مشاعر مختلطة، كما لو أن القلب يجرّب تصديق الضوء في غرفةٍ لم يغادرها الليل بعد.

في الشوارع، ثمّة ترقّبٌ شاحب، يلمع على وجوه الناس مثل ضوءٍ لا يعرف وجهته. البعض يهمس بامتعاض: “لماذا تتركون السلاح؟ هل تُعيدوننا إلى وحدتنا الأولى؟” والبعض الآخر، بصوتٍ متردّد، يهمس: “كفى، لقد تعبنا، ونستحق السلام.” بين هذا وذاك، يتأرجح السؤال الأكبر: هل هذه بداية نهاية الكابوس، أم مجرّد فاصل إعلاني قبل موسمٍ جديد من الألم؟

الوضوح لا يزال غائبًا. غياب الشفافية يحوّل المشهد إلى ضبابٍ كثيف، لا نرى عبره إلا ظلالًا خادعة. يوم قُرئ بيان عبد الله أوجلان في ساحة دياربكر، رأينا رؤوسًا تنحني وجموعًا تنسحب؛ لا فرحٌ ولا انتصار، بل شعورٌ مبهم، كأن شيئًا فُقِد ولم يُسمّ بعد. تدور الكلمات بين اتهام بالخيانة وتبريرٍ غامض: “ربما يعرف ما لا نعرفه.” لكن في السياسة، الغموض ليس حكمةً دائمًا، بل أحيانًا بداية الانحدار.

نعلم أن التشريعات ستُكتب قريبًا، وأن أوراقًا ستُقلَب على طاولة المفاوضات، لكن، ما جدوى القوانين إن لم تمنح الشعوب أمنًا حقيقيًا؟ لا تزال عقدة “الارتياب” قائمة: هل سيتحوّل السلام إلى سلاح رقابة جديد؟ حين يرتبك الشاب لرؤية شرطي، فإننا لم نبلغ السلام بعد. بل نعيش هدنةً خائفة، تنظر خلفها كل لحظة.

أشعر في داخلي بشيءٍ يرتجف: لو صدقت النوايا، فقد نشهد ولادة تضامنٍ هشّ، لكنه جميل، بين الكورد والأتراك. ولكن لو كانت هذه مجرّد مراوغة، فإن الثقة ستتهاوى كما تتهاوى القلاع المبنية من رمل. إنني أتمسّك بحلم أن تزول الأعذار، كما يتمسّك طفلٌ بلهيب شمعة، يخشى أن تنطفئ قبل أن يصل صوته إلى من يحبّ.

صدى تصريحات أردوغان، “اليوم أو غدًا”، يرنّ في أذني كساعةٍ بلا عقارب. الانتظار نفسه صار عبئًا، والثقة تتآكل في صمت. في الكواليس، تدور اتصالات، تخرج وتدخل من أوروبا دون أثر، كأشباحٍ تتحرّك بهدوءٍ مخيف. هل ننتظر مؤتمرًا صحفيًا، خطابًا تلفزيونيًا، أم بيانًا رسميًا باردًا لا يعرف كيف يربّت على جراحنا؟ الحقيقة تُقضم شيئًا فشيئًا، حتى تصبح مجرّد هيكل هشّ.

العملية السياسية الجديدة قد تحرّك جروحًا حسبناها التئمت. لم يكن اعتقال إمام أوغلو مجرد قرار قضائي، بل رمزية مؤلمة، تحرّض المخاوف من انهيار الحلم قبل أن يولد. وفي الأفق، تلوح خريطة ترامب–نتنياهو ككابوسٍ متجدد، يرسم حدودًا على حساب الأجساد، لا على الورق. أولئك الذين يقولون إن التفاصيل لا تهم، غالبًا ما يخفون أكبر مخاوفهم: أن يتوقّف المخطط لحظة، فينهار كل شيء.

لكن هل نتعلم؟ حوادث الماضي تُذكّرنا: سيارة مفخخة، حلمٌ مدمّى قادم من الجبال، كلها تقول إن الحذر لا يجب أن يغفو، حتى في حضرة الأمل. أي ظلّ سيهجم هذه المرّة؟ وأي خنجر ينتظر غفلة ظهرٍ جديد؟ الأسئلة تتوالى، والقلق يلتفّ حولنا مثل غطاءٍ لا يدفّئ.

ورغم كلّ هذا… تبقى هناك شرارة صغيرة، لا تزال تقاوم العدم. صمت البنادق، وإن كان مؤقتًا، قد يكون أول جسرٍ إلى ضوء نجهله. ومع ذلك، فإن حتى صرير الباب المفتوح نحو “السلام” يحمل نغمة قلقٍ خفي، كأنّ السؤال لا يزال معلّقًا: هل نسمع نشيد سلامٍ حقيقي؟ أم أننا نردّد لحنًا جنائزيًا آخر؟

القلوب تتراقص على هذا الحدّ الفاصل بين الرجاء والخوف. وفي داخلي، تتردّد أبيات شاعرٍ كُردي، لا أعرف هل هي تهويدة أم نواح:
تحت صمت البنادق، ثمّة حلمٌ يتكوّر،
فإمّا أن يُزهر، أو أن يُدفن دون جنازة
.”

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

بوتان زيباري   في قلب العاصفة التي تهزّ الشرق الأوسط، تلوح نيران المواجهة بين إيران وإسرائيل، حاملةً معها أسئلةً مصيرية عن مصير النظام الإيراني وتداعياته على سوريا المنهكة. ليست هذه مجرد ضربات عسكرية عابرة، بل هي معركة وجود تخوضها إيران بكل ما أوتيت من قوة، بينما تسعى إسرائيل وأمريكا إلى إعادة تشكيل خريطة المنطقة وفق رؤيتهما. فهل نحن أمام…

شكري بكر لا سقوط لأي نظام سياسي في المنطقة من تلقاء ذاته ، إلا فيما إذا شكلوا خطرا على الدول الإقليمية أو على العالم . كما لن تسقط الأنظمة لخلافات يمكن تجاوزها بالحوار . أعتقد أن تركيا تستوعب ما يدور حولها من أحداث ومتغيرات ، فأكيد لدى تركيا حسابات وملفات هامة تمسك بها تفتح أبوابا لعملية سلام التي تجتاح منطقة…

اكرم حسين   لم يكن “الفشل” الكردي عبر عقود ، نتاج لمؤامرات خارجية أو استهداف مستمر من قبل الأنظمة التي تسيطر على كردستان فقط ، بل هو، في جانب اخر، تعبيرعن أزمة عميقة في البنية الفكرية والاجتماعية والسياسية للكرد السوريين أنفسهم. ثمة خلل مركب في العلاقة بين الفكرة والممارسة، وبين المجتمع والسياسة، بين الثقافة والهوية، جعل من التكرار وإعادة إنتاج…

عبدالرحمن کورکی (مهابادي)*   صباح يوم 11 يونيو 2025، نفذ نظام الجمهورية الإسلامية في إيران، في إطار تصاعد غير مسبوق لعمليات الإعدام، حكم الإعدام بحق أحد أبناء الشعب الإيراني الشجعان، اسمه ”مجاهد كوركور“، في سجن شيبان بالأهواز. هذا الإعدام الإجرامي تم بأمر مباشر من علي خامنئي، ولي فقيه النظام. ووفقًا لتقارير موثوقة، فإن التهم الموجهة إلى هذا السجين السياسي البالغ…