الفدرالية بين الحقيقة والتشويه.

اكرم حسين 

اثار الأستاذ مهند الكاطع، بشعاره  “بمناسبة وبدونها أنا سوري ضد الفدرالية”، قضية جدلية تستحق وقفة نقدية عقلانية. هذا الشعار، رغم بساطته الظاهرة، ينطوي على اختزال شديد لقضية مركبة تتعلق بمستقبل الدولة السورية وهويتها وشكل نظامها السياسي.

أولاً: لا بد من التأكيّد أن الفدرالية ليست لعنة أو تهديداً، بل خياراً ديمقراطياً مُجرّباً في أعقد دول العالم تنوعاً.  كالهند، كندا، ألمانيا، سويسرا، والولايات المتحدة وغيرها، هذه الدول اعتمدت الفدرالية ليس لأن شعوبها أرادت التفكّك، بل لأنها وجدت فيها إطاراً عقلانياً لإدارة التعدد، وضمان الشراكة، وحماية الاستقرار.

فالفدرالية ليست تقسيماً، بل هي نقيضه ، وهي عقد سياسي بين مكونات المجتمع، يحفظ وحدة الدولة على أساس النديّة، لا التبعيّة، وعلى أساس الحقوق، لا الامتيازات ، ومن يرى في الفدرالية مشروعاً للانفصال، فليقرأ تجارب العالم، حيث كانت المركزية المفرطة، لا الفدرالية، هي بوابة الانفجارات والانفصالات.

ثانياً: من المؤسف أن يُستحضر شعار “ضد الفدرالية” وكأنه شهادة في الوطنية، وكأن من يطالب بها خائن أو انفصالي. من حق أي مكون وطني، مثل الكرد أو السريان أو حتى المكونات العربية في دير الزور أو السويداء، أو الساحل ، أن يطرح رؤيته لشكل الحكم الذي يراه ضامناً لحقوقه. بينما الرفض المسبق والاتهام التخويني لا يبني دولة، بل يعيد إنتاج عقلية الإقصاء التي فجّرت سوريا واوصلتها إلى حطام .

انَّ من ينادي بالفدرالية أو اللامركزية في سوريا لا يفعل ذلك رغبة في الانفصال، بل هرباً من تكرار مأساة الاستبداد المركزي . فعشرات السنين من تهميش المناطق، وإنكار الحقوق القومية، ومصادرة القرار من دمشق إلى سائر الجغرافيا السورية، كانت كافية ليطالب الناس بعقد سياسي جديد، لا بهدم الوطن.

ثالثاً: علينا أن نطرح هذا السؤال بصراحة: ما البديل؟ هل من المنطقي أن نعود إلى دولة مركزية تُهيمن فيها أجهزة الأمن على القرار، وتُدار البلاد من شخص واحد أو غرفة ضيقة لا ترى في التنوع السوري إلا تهديداً بالانفصال ؟ إذا لم يكن الحل في الفدرالية و اللامركزية والتشاركية ، فأين هو اذاً ؟ ما هو مشروع من يرددون شعارات رفض الفدرالية أو اللامركزية  لبناء دولة سورية تشعر فيها كل المكونات بالحقوق والكرامة والمواطنة المتساوية ؟

إنَّ رفض الفدرالية أو اللامركزية بالمطلق، ووصمها بالسوء والانفصال دون نقاش، هو في ذاته فكر إقصائي لا يختلف كثيراً عن عقلية الأنظمة التي أورثت سوريا الحروب والدمار. لكن الفدرالية ليست وصفة جاهزة، ويمكن تصميمها بما يناسب الخصوصية السورية. فما الذي يمنع من نقاش وطني حرّ ومسؤول حول شكلها، وضماناتها، ووظيفتها، بدل رجمها بالشعارات؟

الشعب السوري ليس  مضطراً لتكرار التجارب الفاشلة. فسوريا الجديدة يجب أن تُبنى على أساس الشراكة الحقيقية، والاعتراف بالحقوق، وتوزيع السلطة، لا على إعادة إنتاج الحكم المطلق تحت شعارات قومية أو دينية ، والفدرالية، أو اللامركزية  رغم كل ما يُثار ضدها، تبقى من أكثر الحلول عقلانية لضمان وحدة سوريا وعدالتها واستقرارها.

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

علي جزيري يُحكى أن (حسان) ابن رئيس «الجمهورية السورية» شكري القوتلي تأخر عشر دقائق عن الدوام المدرسي ذات يوم، بيد أن مدير المدرسة (جودت الهاشمي)، أنّبَهُ وأعطاه كتاباً ممهوراً بختم المدرسة، يطلب فيه ضرورة إحضار ولي أمره، ولبى حسان حينئذ أمر المدير، لكنه عاد إلى البيت مكسور الخاطر، فاستغربت والدته عودة ابنها الوحيد في ذاك الوقت المبكر، وحين…

صلاح بدرالدين مدخلالى جانب الانشغال اليومي بامور وشؤون الكرد السوريين كمهام لها الاولوية من خلال النضال في سبيل رفع الاضطهاد القومي، والاجتماعي، والسياسي عن كواهلهم، واستعادة حقوقهم القومية، والمساهمة في النضال الوطني العام من اجل الديمقراطية، والتقدم، ومواجهة الاستبداد، كان الهم القومي – الكردستاني – لم يفارق مشاعر جيلنا والذي من قبلنا، ليس كموقف سياسي عابر…

إبراهيم اليوسف الوطن في أرومته قبل الخريطة في حبرها أحدهم   لم يبدأ مشروع “الشرق الأوسط الكبير” من مقاعد البيت الأبيض، بل تسرّب ببطء من: غرف التفكير، مراكز البحوث، خرائط الجيوبوليتيك، وأقلام من ظنّوا أن المنطقة لا تستحق حدودًا ثابتة، وفق تصورات القطب الثاني الموازي بل المعادي للاتحاد السوفياتي السابق، كقطب قوي عملاق، قبل انهياره التاريخي. إذ إن…

شيرزاد هواري   تشهد منطقة الشرق الأوسط في المرحلة الراهنة تصعيدات عسكرية متسارعة تقودها إسرائيل، مدعومة من حلفائها التاريخيين، في مشهد يشي بتحولات استراتيجية عميقة. هذه التطورات لم تأتِ من فراغ، بل تبدو كحلقة متقدمة من مسار طويل ابتدأ منذ ما يزيد عن قرن، مع توقيع اتفاقية سايكس – بيكو التي قسّمت إرث الإمبراطورية العثمانية على أسس استعمارية، دون أدنى…