اكرم حسين
لاشك أن استبعاد ممثلي الشعب الكردي من أي حوار أو مؤتمر وطني سوري ليس مجرد هفوة أو إهمال عابر، بل سياسة مقصودة تُجسّد رفضاً مُضمراً للاعتراف بحقوق شعبٍ عريقٍ ساهمَ في تشكيل تاريخ سوريا وثقافتها. فالكرد، الذين يُشكّلون أحد أقدم المكونات الاجتماعية في المنطقة ، عانوا لعقود من سياسة التهميش المنظم ، بدءاً من حرمان الالاف من الجنسية بموجب “الاحصاء الاستثنائي” عام 1962، مروراً بحظر استخدام لغتهم وممارسة تقاليدهم، ووصولاً إلى إقصائهم من المشهد السياسي السوري حتى في ظل المحاولات الأخيرة لإعادة بناء سوريا الجديدة . هذا الإقصاء ليس خطأً تكتيكياً ، بل هو استمرار لنهج شوفيني رسخه النظام السوري البائد ، الذي تعاملَ مع التنوّع كمصدر تهديد لا كعامل غنى وثروة وطنية.
ولا تقتصر تداعيات هذه السياسات عن حرمان الكرد من حقوقهم فحسب، بل تُهدّد الآن تماسك سوريا ككيان موحد. تاريخياً، أدى إنكار الهويات الفرعية في دول مثل العراق ولبنان إلى تفجير صراعات طائفية وقومية طويلة ، وفي سوريا، يُغذّي الاستبعاد المتعمد للكرد مشاعر الإحباط والغضب ، مما قد يُعيد إنتاج العنف ، ويُعيق بناء دولة المواطنة المتساوية التي يطمح إليها السوريون بعد عهود طويلة من الاستبداد والاستعباد ، والأخطر من كل ذلك ، أن هذا النهج يُضعف أي جهد حقيقي لإرساء سلام دائم ، إذْ لا يمكن تحقيق المصالحة الوطنية دون الاعتراف بحقوق جميع المكونات، وعلى رأسهم الكرد الذين يعيشون ويتحكمون بمناطق جغرافية حيوية وتُشكّل هذه المناطق بوابة اقتصادية وسياسية للبلاد. من هنا تبرز المفارقة. ففي الوقت الذي يُعلن فيه التحالف الدولي عن دعمه لـقوات “سوريا الديمقراطية”، تتهاون في مواجهة سياسات الإقصاء والاعتداء التي تنتهجها بعض القوى الاقليمية على المناطق الكردية ، بل وتتواطأ أحياناً معها تحت ذرائع براغماتية .
واليوم يواجه الكرد تحديات داخلية تُعقّد من قدرتهم على المطالبة بحقوقهم والاستجابة لها ، أبرزها الانقسامات بين القوى السياسية مثل “حزب الاتحاد الديمقراطي” (PYD) و”المجلس الوطني الكردي (ENKS)، وهي انقسامات تعكس درجة الاختلاف في الرؤى والتحالفات الإقليمية. في الوقت الذي يتطلب بناء رؤية كردية جامعة ترتكز على الحد الأدنى المشترك : تحقيق لامركزية سياسية أو حكم ذاتي أو أي شكل اخر من الحكم في المناطق الكردية ضمن سوريا الموحدة ، مع ضمان الحقوق اللغوية والثقافية ، ومشاركة فعلية في صناعة القرار ، ما يستدعي تطوير خطاب سياسي متوازن ، يتجاوز الشعارات الضيقة ، ويربط بين المطالب الكردية وبين قضايا العدالة الاجتماعية والتحول الديمقراطي التي تهم كل السوريين . فالنضال الكردي ينبغي ألا يكون معزولاً عن المعركة الأوسع ضد الاستبداد والفساد، وبناء تحالفات جديدة مع قوى التغيير السورية.
لا يمكن فصل ملف الحقوق الكردية عن المصالح الجيوسياسية لسوريا والقوى الإقليمية والعالمية . فدول مثل تركيا تُعارض أي شكل من أشكال الحكم الذاتي أو التمثيل الكردي الوازن في دمشق ، بل وتشن حروباً على المناطق الكردية السورية تحت ذريعة “مكافحة ارهاب حزب العمال الكردستاني “. في المقابل، تتذبذب المواقف الدولية ، ففي حين تدعم دول مثل الولايات المتحدة وفرنسا “قوات سوريا الديمقراطية” كحليف عسكري ضد داعش، تتجاهل مطالبها السياسية خوفاً من إغضاب أنقرة.
ان هذا الموقف الازدواجي ينطوي على انتهازية مصلحية . ففي حين ترفع هذه الدول شعار الديمقراطية والحقوق ، لكنها تتغاضى عنه عندما يتعارض ذلك مع مصالحها. من هنا، يجب على الكرد تحويل الدعم الدولي من مجرد تعاون أمني لمحاربة داعش إلى ضغط حقيقي لإدراج الكرد كطرف أساسي في سوريا الجديدة . لأن الاعتراف الدستوري بالهوية الكردية حقٌ تاريخي وقانوني. فالدول التي نجحت في تجاوز إرث الصراعات، مثل – جنوب إفريقيا – بعد الفصل العنصري أدركت أن المصالحة الحقيقية تستوجب الاعتراف بالظلم وتعويض ضحاياه ، وفي سوريا، يجب أن يتجسّد هذا الاعتراف في إقرار اللامركزية السياسية للمناطق الكردية ، وإعادة الجنسية للمحرومين منها، وتمثيل الكرد بشكل عادل في مؤسسات الحكم.
هذه الخطوات ليست تنازلات، بل استثمار في مستقبل البلاد، حيث تُشكل المشاركة الكردية ضمانة ضد التطرف وتفكك الدولة. وسوريا الجديدة التي يحلم بها السوريون لن تولد الا من رحم عدالةٍ حقيقيةٍ ، وتصالحٍ بين تنوعها، لا عبر إقصاءٍ يُكرّس الأحقاد…!