لكن وتيرة التظاهر ـ رغم الخط البياني الصاعد ـ مازالت دون المستوى المطلوب بكل المقاييس في نظر المراقبين والمتابعين أو المحللين، نتيجة عوامل متعددة، ولعل القمع والقبضة الأمنية وانتهاكات حقوق الانسان من لدن النظام تأتي في مقدمتها، ناهيك عن كبح عزائم الشباب من قبل”بعض” أطراف المعارضة الكردية التقليدية، وتشرذم التنسيقيات الكردية، فضلاً عن ضعف الحراك العربي في مناطق الجوار(محافظات: الحسكة، الرقة و حلب).
العوامل الآنفة الذكر هي عوامل كابحة بكل تأكيد، ولا يمكن غض الطرف عنها لكل ذي بصيرة.
بَيْدَ أن هناك أسباباً أخرى في نظري تستدعي التأمل، ولعل العامل الأهم يكمن في ثنايا وحيثيات وفضاءات التاريخ (القريب منه والبعيد).
فالذاكرة الكردية، مازالت تستحضر السلوك المخيف لبعض المرتزقة في الأمس القريب(عام 2004م)، هذا السلوك الشبيه بسلوك ميليشيات جنجويد السودان التي ارتكبت المجازر في حق سكان دارفور، أو ميليشيا الهوتو في رَوَندا، ممن نهبوا المحلات التجارية الكردية في مدينتي القامشلي والحسكة، وهددوا الكرد تحت مسمع ومرأى السلطات وبضوء أخضر منها.
جدير ذكره ان المناطق الكردية قاطبة شهدت يومها انتفاضة عارمة، قمعتها السلطة، وسط حالة انتشاء أو صمت مشين للرأي العام السوري يندى له الجبين، خلا بعض المنددين العاملين في مجال حقوق الانسان أو المثقفين الأحرار، ممن لم يضللهم الاعلام الرسمي الممجوج والمجتر.
مما تسبب هذا الصمت /الموقف في اِحْداثِ شرخٍ عميق في النسيج الوطني، يضاف إلى الشرخ الذي أحدثه النظام نهاية السبعينات وبداية الثمانينات من القرن الماضي حين استفرد بأهالي حلب وحماه وادلب ونكل بهم؛ ولا أظن بأن الذكرى المريرة هذه سَتُمحى من ذاكرة الضحايا، أو أن هذا الجرح النازف سيطيب عاجلاً بعد أن خَلَّفَ دُمَلاً.
صار من النافل القول، إن المرء الذي يشعر بالمساواة والعدالة والحرية والكرامة في بلد آبائه وأجداده، يزيده هذا الشعور ولاءً وتعلقاً بالوطن والعكس صحيح، فانتفاء تلك القيم يُضعِفُ الحس الوطني على حد قول جان جاك روسو وينخره، ولايخفى أن البعث كان مسؤولاً عن هذا الدمار على مدى عقود.
فوراء الأكمة إذاً ما وراءها، هذا ما يجب أن يَعِيه البديل القادم وتَعيه المعارضة السورية بكل أطيافها، كي لاتُهدر دماء الشهداء سدى أو تذهب هباءً منثورا.
ومما زاد الطين بلة أن أحفاد (صلاح الدين الأيوبي ويوسف العظمة وابراهيم هنانو وسليمان الحلبي) الكرد، والذين استبسلوا في تحقيق الاستقلال الأول(17 نيسان 1946م)، أضحوا في ظل حكومات عهد ما بعد الاستقلال مواطنين من الدرجة الثانية، إن لم نقل من الثالثة أو الرابعة !، حيث مورست في حقهم ـ خصوصاً في حقبة البعث ـ سياسة شوفينية، تقوم على الصهر والقهر القومي، وتعريب البشر والحجر على حَدِّ وصف”سليم بركات” من جهة، والاقصاء أو التهميش عن سبق الاصرار والتصميم من جهة أخرى.
لكنَّ المفارقة التي تستدعي الانتباه ـ فيما يخص الشأن السوري ـ أن الأقليات (المسيحيون والعلويون والدروز)، بدأت تميل لأيديولوجية البعث الشمولية هذه، لأن أبناءها:”اصبحوا يأملون أن يساعدهم حزب البعث في تحرير أنفسهم من وضعهم كأقليات”(الصراع على السلطة في سوريا 1961ـ 1995 م/د.نيقولاوس فان دام ـ الصفحة41)، مما زاد هذا الوضع من تفاقم السياسات العنصرية حيال الكرد وحركتهم التحررية، خصوصاً بعد تأسيس أول تنظيم سياسي كردي عام 1957م.
وأعتقد أن نفس الأمل كان يراود الكرد والأرمن، حين استمالتهم الايديولوجيا الماركسية، وتماهوا معها، على عجرها وبجرها.
ولا يقتصر الأمر على ما سبق، بل تجاوزها إلى التسويق لـ”نظرية المؤامرة” واتهام الكرد بالتآمر والانفصالية تارة أو الاستقواء بالخارج تارة أخرى، بوحي من المنطلقات النظرية لحزب البعث وفي ظل أنساقها الثقافيه البائسة، التي تقوم على إستعداء العرب على أخوتهم الكرد وعدم الاعتراف بالحقوق القومية للشعب الكردي على أقل تقدير، ناهيك عن تغييب الحقائق التاريخية عن سبق الاصرار والتصميم، حتى نسي الناس مَنْ أطلق الرصاصة الأولى في وجه قوات الانتداب الفرنسي (المجاهد محو الكردي)، أو أول من رفع العلم السوري، وقد انطلت هذه السياسة على الكثيرين، مثلما أوقعت الكثير من النخب السياسية والثقافية والاجتماعية في الشباك المنصوبة.
حبذا لو آثر المؤرخون الصمت إزاء هذه الحقائق، لكنهم للأسف مارسوا الدّجل، وقدموا أنفسهم كشهود زور بأبخس الأثمان، فعلى سبيل المثال لا الحصر، رَوَّجَتْ كتُبُ التاريخ بأن صلاح الدين الأيوبي، الذي حرّر القدس من الفرنجة، بطلٌ عربي وقُل الشيء نفسه عن سليمان الحلبي، الكردي الأزهري الذي اغتال “كليبر”، وآخرين لايتسع المقال لذكرهم قديماً وحديثاً !.
لذا، ترانا نحن الكرد لانُقيمُ وزناً لهذا التاريخ الذي جيّرهُ البعث وفق ايديولوجيته القائمة على إقصاء الآخر، وحشا به عقول الناس؛ وندرك هذه المهزلة، أعني سياسة البعث المنتهجة في تجريد الكرد من كرديتهم أولاً، والأنساق الثقافية الممنهجة التي كانت تستهدف دق إسفين في جدار الوحدة الوطنية ثانياً.
فكيف لنا أن ننسى وقد أودع السجن في ستينيات القرن الماضي، كل مَنْ ردّد شعار: “عاشت الأخوة العربية ـ الكردية” من أبناء شعبنا في القامشلي !.
يضاف إلى كل ما سبق، موقف المعارضة السورية التقليدية من قضية الشعب الكردي في سوريا وحقوقه القومية المشروعة، هذا الموقف المخيف حقاً والمثير للجدل في الأوساط الكردية، والذي يتسم بعدم الشفافية على أقل تقدير، سيما وأن موقف المعارضة العراقية من القضية الكردية في العراق، وتحديداً مماطلتها في تنفيذ المادة(140)، مازال ماثلاً أمام أعيننا، هذا الموقف الذي أضحى بحق، موضعاً للاشمئزاز والسخرية ومادة للتندر في آن بعد سقوط الطاغية، وباعثاً في الوقت نفسه على إثارة الفزع في نفوس الكرد السوريين من البديل القادم، بدليل أن لسان حالهم بات يردد تلقائياً:” يجب ألاّ نلدغ من ذات الجحر مرة أخرى”.
العوامل السالفة الذكر، كانت من وراء القلق الذي يشوب الحراك الكردي بقناعتي، وهي ذاتها التي تحول دون بلوغ الحراك الشعبي المستوى المأمول منه، أعني زخم انتفاضة الكرد عام 2004م.
لكنْ ـ كي لا نجانب الصواب ـ يقتضي القول، إن كل هذه المسببات ليست تبريراً، ولاتعفينا من مسؤوليتنا التاريخية في المشاركة الجادة في ثورة الحرية والكرامة، لأننا ـ عرباً وكرداً ـ بتنا اليوم، بأمس الحاجة إلى ثقافة قادرة على قراءة الأسباب الحقيقية لاخفاقات الماضي، والتعرف على سبل النهوض وإعادة بناء سوريا ديمقراطية تعددية مدنية، وهذا يتطلب منا التحرر من تلك القناعات الهشة بتبرئة الذات، لئلا نستمر في الدوران في ذات المتاهة.
وقد آن الأوان لقراءة الماضي بشكل موضوعي واستشراف آفاق المستقبل، بدليل أن الجميع على قناعة بأن النظام هو المسبب في تسييد أنماط التفكير البالية، بغية تأجيج الخلافات الثانوية بين مكونات الشعب السوري وتضخيمها كي تحتل مركز الصدارة، وهو علة العلل في تقويض أركان المساواة والحرية بين هذه المكونات وتأليبها على بعضها البعض.
وإذْ يلحُّ عليَّ احساس بتقديم الحجة على هذا الصعيد، سأستوحي اسلوب (كليلة ودمنة) في السرد، حين كان طاغية الهند (دَبشليم) يأمر الحكيم (بَيْدَبا) بضرب مَثَلٍ في شأن ما، فيتلقف الأخير حكاية، مجيباً على تساؤله بشكل موارب، كالتي رواها(سلامة موسى) ذات يوم.
“كانت الطبقة الحاكمة النبيلة في الصين، تمارس عادات وتقاليد عفى عليها الزمن، ومنها على سبيل المثال ربط قَدَمَي الطفلة بأربطة وثيقة، حتى إذا شبّتْ، صارت مرشحة للزواج بقدميها الصغيرتين وتفاخرت بهما.
لكن ربط القدمين، كان يؤدي إلى ضمورهما، نتيجة الضغط على الشرايين والأوردة، فتعيش تلك الفتاة كسيحة سائر حياتها، لأنهما لن تقويا على حمل جسدها”.
وقد إتضح أن النظام الذي أهدر فُرَصَاً تاريخية، هو الذي تسبب بكل هذا الشلل والوهن والفرقة والغبن الذي نعانيه اليوم.
واعتقد بأن عدم الاكتراث بهذه الحقيقة، سيساهم بديمومة الطغيان بكل تأكيد، فلا يمكن تجاوز هذه الهُوَّة التي تعترضنا اليوم بقفزتين ونحن على حافتها، ينبغي علينا جميعاً إدراك هذه الحقيقة لرص الصفوف، بغية اسقاط هذا النظام، لئلا تقول عنّا أجيالنا القادمة: لقد هدرتم فرصة تاريخية.
ولابأس أن أنهي مقالتي هذه بمقولة (تروتسكي)، التي سَبَقَ له أن أنهى كتابه الذي تناول فيه جرائم الطاغية ستالين، أعني:” لن يغفر التاريخ بصدد أيّ نقطة دم مراقة لِـ (مولوخ) العَسف والامتيازات الجديد”.