ولا تقتصر هذه «الهجرة المعاكسة» على العودة الى ديار الأجداد والآباء، وإنما تحمل معها ايضاً الخصوصيات التراثية والاجتماعية من افكار قومية في إطار التسمية الشاملة الواحدة ( كلدان، أشوريون وسريان) واعتزازات لغوية وحقوق ذاتية أسوة بكل أعراق العراق، اضافة الى خبرات حضارية ومشاريع اقتصادية ورغبات في البقاء والاستقرار الدائم.
وتتعاون مؤسسات حكومة إقليم كردستان العراق ولجنة شؤون المسيحيين التي يشرف عليها وزير مال الإقليم آغا جان على تنظيم هذه العودة وتوفير متطلبات راحة (أفواجها المتواصلة)، وتأخذ في اعتبارها الإحصاء السكاني العراقي لعام 1957 الذي لا يزال الأفضل في أنحاء العراق لتحديد التوزيع الجغرافي والسكاني والقومي والديني.
كانتونات مسيحية
ويوضح نائب محافظ دهوك كوركيس شليمون خائي، موقف حكومة اقليم كردستان من هذه الموجة الكبيرة من العائدين والإجراءات الرسمية لمتطلباتها ويقول: «تصلنا توجيهات مستمرة من رئيس الإقليم مسعود البارزاني ورئيس مجلس وزرائه نيجرفان البارزاني لمعالجة الظلم الذي لحق بمسيحيي الإقليم خلال العهد السابق، وإعادة بلداتهم وقراهم الى هويتها السكانية والجغرافية الأصلية وتقديم أنواع الدعم اللازم لراحة العائدين منهم الى ديارهم وأعمالهم واستقرارهم فيها، وفي مقدم ذلك بناء المساكن لهم واتخاذ الإجراءات السريعة ليتصرفوا بأراضيهم وممتلكاتهم، إضافة الى توفير الكنائس والمراكز الثقافية والملاعب الرياضية وقاعات الاحتفالات».
ويضيف في حديث الى «الحياة» ان وزارة تربية الإقليم «تهتم بضمان التعليم في التجمعات الكلدانية الأشورية السريانية باللغة السريانية، وحالياً تدرس 29 مدرسة بين ابتدائية وثانوية في محافظة دهوك وحدها كل موادها باللغة السريانية، وسيتم فتح مدارس مماثلة اخرى قريباً بعد تدريب الكادر التعليمي اللازم لها نظراً الى ان التعليم بالسريانية بدأ من نقطة الصفر لأنه كان غير معمول به في ظل النظام العراقي السابق.
وتتحمل الجهات الحكومية في الإقليم كل نفقات هذه المدارس وطبع الكتب اللازمة لها.
وقبل ايام انتهت أعمال مؤتمر اللغة السريانية الذي عقد في بلدة عنكاوا المسيحية المجاورة لعاصمة الإقليم اربيل وشارك فيه فريق من المهتمين بهذه اللغة، واتخذ توصيات لتعزيز تعليمها والاهتمام بتراثها الإنساني والأدبي ونشر نتاجاتها الراهنة».
ويشير خائي الى ان حكومة الإقليم «تسعى الى تطبيق نظام إداري ذاتي متطور موحد شبيه بالكانتونات الأوروبية في كل بلدات المسيحيين وقراهم في الإقليم، وهو الأفضل الذي اقترحته اللجان الاختصاصية نظراً الى تباعد الكثير من هذه التجمعات السكانية عن بعضها بعضاً وعدم ترابطها في منطقة جغرافية محددة خاصة بها».
ويؤكد خائي «ان بناء مستقبل أي شعب بصورة ناجحة ودائمة ينبغي ان يتم بحسب خطوات مدروسة وفاعلة وواقعية متواصلة، وهو ما يجري تنفيذه وصولاً الى كيان مسيحي (كلداني، أشوري وسرياني) يتمتع بكل الحقوق الإنسانية والذاتية التي توفر استقراره الآمن الدائم ضمن أماكن وجوده في المنطقة الجغرافية لإقليم كردستان».
تدمير سابق وإعمار حالي
وتشير سجلات الكنائس المسيحية في محافظة دهوك الى ان النظام الحاكم بين 1968 و 2003 «اعتمد نهج التطهير العرقي ضد كل الأقوام العراقية غير العربية، وبدأ حملته هذه مع التجمعات السكانية المسيحية عام 1975 بتهديم او تغيير الطبيعة السكانية المتوارثة مع 174 بلدة وقرية مسيحية في المحافظة، وعمليات توطين العرب من وسط العراق وجنوبه كلياً أو جزئياً فيها، بينها قرى (فيشخابور، ديربون، قره غولا، صوريا، بخلوجة، باجده براف، آفزروك شنو، آفزروك حمو، شكفت دلي) الواقعة في أقصى الشطر الشمالي الغربي من العراق، وضمن مجال المثلث الحدودي العراقي مع كل من تركيا ( شمالاً) وسورية (غرباً) والتابعة لقضاء زاخو في محافظة دهوك.
ويقول روئيل داود، من أهالي قرية ديربون: «كانت قريتنا تتكون من حوالى أربعين منزلاً عند تدميرها وطرد سكانها وتوطين العرب فيها عام 1975، وبعد الانتفاضة الكردية عام 1991 غادرها المستوطنون العرب وسكنها الأكراد نتيجة المخاوف التي كانت تراود المسيحيين وتحول دون عودتهم بسبب تهديدات نظام صدام بالهجوم على المنطقة الكردية الآمنة دولياً، لكن بعد القضاء على ذلك النظام، بدأت هذه المخاوف بالزوال، خصوصاً إثر اتفاق حكومة كردستان مع الأكراد الذين سكنوها على مغادرتها لقاء تعويضات قدمتها لهم، وتولت حكومة الإقليم بناء 30 بيتاً وسلمتها هدية للسكان العائدين الى القرية، وكنت أنا أول العائدين عندما استلمت مفتاح أحد هذه المنازل، وعلمت قبل ايام بوجود موافقة حالية لإنشاء 20 منزلاً آخر».
ويضيف: «ثم شيدت لجنة من أهل الإقليم 74 منزلاً وسلمتها الى العائدين اضافة الى 50 منزلاً سيتم تسليمها قريباً، بينما شيد العائدون المتمكنون تسعة منازل لأنفسهم».
ويشير داود الى ان لجنة شؤون المسيحيين في الإقليم «تولت ايضاً ترميم كنيسة القرية وتوسيعها وبناء قاعة ثقافية اجتماعية، وإنشاء شبكة جديدة للماء والكهرباء، وتنظيم مجرى الماء الموجود بجوار القرية لري الحقول».
ويقول جونسون عيسى، من بلدة ديانا التي تقع على بعد 170 كيلومتراً، شمال شرقي مدينة اربيل «ان 160 عائلة مسيحية موجودة في البلدة، ويتوقع عودة المزيد من سكانها النازحين قريباً بعد موافقة الجهات المعنية في إقليم كردستان على تشييد المزيد من المنازل ومساعدة العائدين في إقامة مشاريع زراعية وتجارية وصناعية».
مساع للتجمع في كردستان العراق
وتسعى غالبية مسيحيي سهل نينوى وما جاوره شمالاً وشرقاً وغرباً الى التجمع في اقليم كردستان العراق وتغيير التبعية الإدارية لبلدات وقرى (بخديدا وكرمليس وبرطلة وتلكيف وباطنايا وباقوفا وتللسقف وشرفية والقوش وغيرها) التي يبلغ عدد سكانها حوالى 150 ألف نسمة، من محافظة نينوى التي لا تزال ضمنها بحسب ترتيبات العهد السابق، وذلك بانتقالها الى الإقليم.
ويوضح عضو برلمان إقليم كردستان روميو هكاري، ان هذا التغيير «سيضمن تجمع غالبية المسيحيين العراقيين في منطقة جغرافية وادارية، كما أنه سيجعل نسبتهم تزيد على 15 في المئة في الإقليم الذي يبلغ عدد سكانه بين 4 و 5 ملايين نسمة، وذلك على رغم أن نسبتهم تبلغ ما بين 3 و 4 في المئة ضمن العراق الذي يبلغ عدد سكانه حوالى 25 مليون نسمة».
ويضيف أن «تجمعهم في إقليم واحد سيوحد أنظمة شؤونهم في المجالات المختلفة، ويعزز أهمية صوتهم ويرسخ صمودهم ضد محاولات احتوائهم».
تطورات سريعة
تشكل قرية تللسقف الواقعة الى شمال الموصل، مثالاً لحال قرى (تلكيف وباطنايا وباقوفا وشرفية والقوش وبخديدا وكرمليس وبرطلة وعشرات غيرها) المسيحية التي فرض عليها النظام السابق العزلة عن شقيقاتها، بعدما قسم (لواء الموصل) الى محافظتي نينوى ودهوك.
ويقول باسم مرقس: «يمتد تاريخ قريتنا تللسقف، بحسب المدونات الأثرية، الى العهود الأشورية».
ويضيف: «لكن هذا التوارث لم يرق لنظام صدام في أيامه الأخيرة، فعمد الى مصادرة 400 قطعة من أراضي سكانها وتوزيعها على مواطنين من غلاة نظامه لتغيير هويتها والعبث بمقدرات سكانها».
ويؤكد ان أهالي القرية على علاقات طيبة وتعاون دائم منذ مئات السنين مع جيرانهم المسلمين من العرب والكرد «لكن المشكلة كانت في فرض اناس غير مرغوب بهم عليهم، وبعدد كبير وبوسيلة غير مسبوقة».
ويعرب مرقس عن تفاؤله بمستقبل القرى المسيحية الرابضة منذ القدم في شمال العراق، ويقول: «لقد تطورت تللسقف، كشقيقاتها في اقليم كردستان، حيث الأوضاع آمنة منذ زوال النظام العنصري من العراق، فقد كان عدد سكان القرية قبل ثلاث سنوات حوالى ستة آلاف نسمة وأصبح حالياً بحدود 14 ألف نسمة وهو في زيادة متواصلة، وانتعش اقتصادها بسرعة وفيها حالياً حوالى 160 محلاً تجارياً متنوعاً وثلاث عيادات طبية خاصة وصيدليتان (لم يكن فيها قبل سنتين طبيب او صيدلية) كما اتجه السكان الذين لديهم إمكانات مالية الى مشاريع انتاجية مثل معامل مواد البناء والمزارع وتربية النحل والدواجن والحيوانات».
ويوضح، ان تللسقف «اصبحت تملك مقومات المدينة ويتسوق أهلها كل حاجاتهم تقريباً من محالها، كما هي حال القرى الأخرى المجاورة لها، التي تتسارع متطلبات تقدمها الاقتصادي وبحسب ميزاتها الخاصة.
فمثلاً قرية شرفية، الواقعة الى شمال تللسقف بحوالى سبعة كيلومترات في منطقة متموجة تسمى (القند – الكند) تشهد حركة في مشاريع المطاعم والترفيه.
في قرية (بينداوية) ذات ينابيع المياه الوفيرة، تشهد تسابقاً في إنشاء المشاريع السياحية والسمكية، والأمر نفسه يلاحظ في القرى المسيحية الواقعة قرب دير مار متي (للسريان الارثوذكس) في صدر (جبل مقلوب) على مسافة حوالى ثلاثين كيلومتراً الى الشرق من القوش حيث تشهد المشاريع السياحية تطوراً واسعاً، في المباني وأماكن الراحة والسياحة، وازدحاماً بالوافدين إليها».
ويؤكد مرقس ان هذه النهضة السريعة «تعود الى توافر الأمن ورجوع أهل القرى الذين كانوا غادروها في السنين العجاف وتوظيف إمكاناتهم المالية وخبراتهم العملية فيها، اضافة الى الأرض الزراعية الخصبة والمياه الجارية والجوفية والمناخ المعتدل نسبياً صيفاً وشتاء ووجود الأماكن الأثرية والسياحة.
وكلها خصائص مشجعة للتقدم الحياتي للمناطق حالياً ومستقبلاً».