بين فرعون وطغاة اليوم

إبراهيم محمود
 
كثيراً ما يتم الربط في أحاديثنا اليومية، خصوصاً من قبل رجال الدين من المسلمين، بين مستبد: طاغية وفرعون.

إن العتوَّ الكبير يعني بلوغ درجة فرعونية في الظلم والتحكم بمصائر البشر.

وهو قياس خاطئ من أساسه، ليس من باب الدفاع عن فرعون، وإنما الدفاع عن تاريخ يجب التمييز الدقيق بين رموزه وأفعالهم على الأرض.

يشير فرعون في مقامه الاعتباري العالي إلى مرتبة حُكْمية مؤلَّهة، حيث نتذكر ملوك مصر القدماء منذ أكثر من خمسة آلاف عام وأهراماتهم.

إنه لقب في التملك أو السلطة بوجود الكهنة والحاشية الخاصة بهم  ومن حولهم.

إننا في قراءة التاريخ الفرعوني ذاك، نواجه ما يشبه العِقد الاجتماعي والسياسي بين فرعون وعامة الشعب..
نعم، كان هناك عسف وتضحية بالآلاف سنوياً تلبية لرغبات آلهة كما هو النظام السياسي في العالم القديم، لكن ذلك لا يحُول دون النظر في الحضارة التي لما تزل تُسمّي الفراعنة، إذ إن هؤلاء لا ينفصلون عن تلك الحضارة المصرية القديمة وألقها التاريخي، كما في بناء الأهرام اللافت: العالم الثقافي والاجتماعي والاعتقادي الذي لا ينفكُّ يثير إعجاب غالبية علماء الآثار وبحاثة التاريخ وحتى علماء الفلك والكيمياء، وليس ورود اسم فرعون في الكتب الدينية( في القرآن- مثلاً- نموذجاً)، إلا اعترافاً بهذا الجانب من العمران في التاريخ المدني والثقافي والعلمي، وتأكيداً على أن ثمة بعداً ملهماً في التاريخ هو ما تضمَّنه المثال الإلهي، يقرب من التفرد، وبالتالي فإن توصيف أي طاغية من طغاة اليوم وعبر عهود زمنية خلت بأنه فرعون يسيء إلى التاريخ بالذات، وفي الوقت ذاته فإنه يضفي على أي حاكم معروف بالقمع نوعاً من المشروعية في الحكم، كما لو أنه يسير على نسق قويم ما، يصله بآخرين هم أقرانه، وربما حكمة في عملية التواصل وحتى الإخلاص لمن كانوا قبله.
الطغيان: التجبر، إلى جانب معرفة دنيوية، وليس التخلف المادي، بالعكس: إنه نقد التجبر جرَّاء معرفة دنيوية لافتة، كما في هذا النظام الأمثولي في الفرعنة التي تستعاد بشكلها لا بمضمونها في حديثنا اليومي، وهذا خطأ!
في تاريخ العرب الحديث- في راهنه تماماً- ولحظة تبين الثورات العربية واحتجاجات الشارع العربي مشرقاً ومغرباً بملايينه، يتم استحضار اسم فرعون تذكيراً بفظائع الحاكم العربي في الدرجة الأولى، ومن قبل الذين يريدون تشهيراً به، دون أن يعلموا أنهم يؤكدون قدريَّة في التعاطي مع تاريخ خطَّي واحد ومديد جداً.
إن المأثرة الكبرى للحاكم العربي كما هو وجه طغيانه في شعبه: الرعية المجيَّرة، لا تتجاوز حدود السجون التي تزَّج فيها يومياً أعداد لا تحصى من عامة الناس وخاصتهم، وما في عملية الزج هذه من إلغاء للتفاوت بين إنسان عادي وآخر: عالم أو مفكر أو كاتب أو فنان أو سياسي معتبر، ليس إحقاقاً لمساواة تستحق تنويهاً، وإنما تعبيراً عن أن الجميع سواء لحظة شعور الطاغية العربي من خلال بطانته المأخوذة بهوى الطغيان، أنه في خطر، وأن ليس من شخص مستثنى من حشره في ظلمات زنزانة أو سجن تحت الأرض أو تصفيته، شعور بات مألوفاً لدى العادي والمتعلم من خلال العنف المبرمج، أنه مهدد من أي كان، وأن الاستمرار في فعل الاعتقال والتنكيل بهذا أو ذاك، يعني التأديب والترويض لشعور كل من يعتقد أنه أهل لأن يسمي انحرافاً في حاكمه وبطانته.
إنه التجبر على صعيد مركزة الذات إلى جانب التخلف المزري في العمران المدني والمنجَز العلمي…
نعم، ليس من تأليه بالاسم لهؤلاء الطغاة الذين يتساقطون تباعاً جرَّاء عنفهم الدامي عربياً، كما الحال مع فرعون، إنما ثمة ما هو أكثر تفعيلاً لفعل ألوهية على أرض الواقع عيانياً.

إن أي تصويب لأي خطأ يُرتكب من جهة هذا الحاكم العربي أو ذاك، وحتى لدى أصغر مسئول أمني، يعني التجديف، أي الوقوع في دائرة الكفر غالباً.
إن إمطار المحتجين المعبّرين عن حرية محرََّمة عليهم، بوابل من الرصاص واستعمال الهراوات، يترجم في الحال السلوك اليومي واللحظي وهو مريع لرمز البلاد والعباد، بقدر ما يعلمنا بدرجة الانزياح الكبرى له وهو ماض ٍفي غلوّه غير عابئ بما يجري، بقدر ما تتمثل أمامنا سلطة مطلقة تجعل البلاد محمية على مقاس رغباته.

ليس من إنجاز” وطني” يستحق التنويه عربياً على مر عقود طويلة تمثّلها مرحلة الاستقلال الوطني، إنما ثمة غلٌّ يمارس ضد بقع ضوء تاريخية سابقة غالباً، يعجز فيها الحاكم هذا أو ذاك عن بناء مجتمع مدني حقاً، وهو يحاول تغييب الماضي، واعتبار عهده ذهبياً بجلاء، ليكون لدينا الانجاز الوحيد الأوحد، ألا وهو تدشين المزيد من سجون ومعتقلات تتربص بالعباد في طول البلاد وعرضها، ولدينا في سلوك هؤلاء الذين ينكّلون بالثائرين والمحتجين يومياً ودون تمييز، البرهان الدامغ على ما تقدَّم، وليس من مثال حضاري يشفع له إن قورن بفرعون العظيم سالفاً، مهما جرى التعرُّض له باعتباره متكبراً، أو طاغية، وهو حامل أسس عمران، مدار مديح العصور كافة!

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

نارين عمر تعتبر المعارضة في أية دولة ولدى الشّعوب الطريق المستقيم الذي يهديهم إلى الإصلاح أو السّلام والطّمأنينة، لذلك يتماشى هذا الطّريق مع الطّريق الآخر المعاكس له وهو الموالاة. في فترات الحروب والأزمات تكون المعارضة لسان حال المستضعفين والمغلوبين على أمرهم والمظلومين، لذلك نجدها وفي معظم الأحيان تحقق الأهداف المرجوة، وتكون طرفاً لا يستهان به في إنهاء الحروب…

محمد زيتو مدينة كوباني، أو عين العرب، لم تعد مجرد نقطة على الخريطة السورية، بل تحولت إلى رمز عالمي للصمود والنضال. المدينة التي صمدت في وجه تنظيم داعش ودفعت ثمنًا غاليًا لاستعادة أمنها، تجد نفسها اليوم أمام تحدٍ جديد وأكثر تعقيدًا. فالتهديدات التركية المتزايدة بشن عملية عسكرية جديدة تهدد بإعادة إشعال الحرب في منطقة بالكاد تعافت من آثار النزاع، ما…

بوتان زيباري كوباني، تلك البقعة الصغيرة التي تحوّلت إلى أسطورة محفورة في الذاكرة الكردية والسورية على حد سواء، ليست مجرد مدينة عابرة في صفحات التاريخ، بل هي مرآة تعكس صمود الإنسان حين يشتد الظلام، وتجسيد حي لإرادة شعب اختار المواجهة بدلًا من الاستسلام. لم تكن معركة كوباني مجرد مواجهة عسكرية مع تنظيم إرهابي عابر، بل كانت ملحمة كونية أعادت…

إبراهيم اليوسف لقد شهدت البشرية تحوُّلاً جذرياً في طرق توثيقها للحياة والأحداث، حيث أصبحت الصورة والفيديو- ولأول وهلة- الوسيلتين الرئيسيتين لنقل الواقع وتخليده، على حساب الكلمة المكتوبة. يبدو أن هذا التحول يحمل في طياته نذر موت تدريجي للتوثيق الكتابي، الذي ظل لقرون طويلة الحاضن الأمين للمعرفة والأحداث والوجدان الإنساني. لكن، هل يمكننا التخلي عن الكتابة تماماً؟ هل يمكننا أن ننعيها،…