صلاح بدرالدين
من المفارقات المعبرة ذات المغزى والنادرة الحصول أن الكرد كانوا وما زالوا يناضلون ويبحثون أكثر من قرن من الزمن عن حل مناسب لقضيتهم القومية وينتظرون الآخر الحاكم والارادة الدولية – الخيرة ! – وبعبارة أدق سلطات القوميات السائدة ” العربية والتركية والفارسية ” لتقول كلمتها وتفصح عن موقفها تجاه مصيرهم نراهم الآن باقليم كردستان العراق الفدرالي في موقع سلطة قرار واقرار مصير الآخرين من الشعوب – وهذا مبعث الفخر والاعتزاز – ويتنكبون لانجاز مهامهم الوطنية والادارية والاقتصادية والمصيرية بما فيها التعامل مع تفاصيل قضايا القوميات الأخرى
من خلال طرح مشروع دستور اقليم كردستان – العراق للمناقشة كتجربة جديدة وفريدة في تاريخ الحركة القومية الكردية التي لامفر من ضرورة أن يكتب لها النجاح مهما تطلبت من جهود ثقافية في النقاش والتمحيص أو قانونية أومادية واجرائية في اطار الموضوعية والانفتاح والتسامح والمبادىء الديموقراطية ولابد من الاشارة الى أنني سأحاول في هذه العجالة التصدي لمحور القوميات الكردستانية دون غيره تاركا المحاور والجوانب الأخرى لذوي الاختصاص .
للوهلة الأولى ومن حيث المبدأ لايمكن للمرء الا أن يأخذ ازاء هذه المسألة جانب التفاؤل والثقة التامة من حسن وحكمة أداء سلطات الاقليم في انجازها بصورة عادلة ومتوازنة لأسباب يمكن ايجازها بالتالي :
أولا : توفر تراث متراكم في تاريخ المسيرة القومية التحررية لشعب كردستان العراق وفي مقدمتها موقع ودور بارزان والبارزانيين في مجال التجاوروتقاسم ظروف الحياة لعهود طويلة والتعايش الديني والانساني والوطني والقومي مع القوميات الكردستانية وبالأخص مع الكلدان والآشوريين في مختلف الظروف والأحوال ان كان خلال التكاتف والتضامن وتقديم التضحيات المشتركة في مراحل الثورات والانتفاضات وخاصة في ثورة ايلول 1961 حيث شاهدت بأم عيني خلال احدى الزيارات لقائد الثورة البارزاني الخالد قوات ومفارز البيشمةركة من ابناء القوميتين في طول الجبهة الممتدة من الحدود السورية وحتى مشارف بارزان ومنهم كانوا مقاتلين في الحرس الخاص لقائد الثورة كما التقيت حينها في منطقة بالك وفي احدى مواقع القيادة بعضو مجلس قيادة الثورة الأب البطريرك بولص بيداري أكبر رجال الدين الكلدان وقت ذاك وكذلك وفي ما بعد بالشهيد فرنسوا حريري ذلك المناضل الآشوري الجسور الذي أصبح مقربا من البارزاني الخالد وفي موقع المسؤولية والقرار ونشطاء آخرين لايتسع المجال لذكرهم الآن .
ثانيا : خصوصية وضع كردستان العراق الراهن الذي شكل طوال تاريخ العراق المعاصر موئلا للمعارضة الوطنية الديموقراطية بأجلى صورها التعددية ومركزا رئيسيا في خلع الأنظمة الدكتاتورية وتغيير الحكومات الفاسدة وبالتالي اكتساب شعبه خبرة متزايدة في موضوعات العمل من أجل الديموقراطية وحقوق الانسان والخلاص من الاستبداد وانتزاع حق تقرير المصير والشعور بقيم الحرية والكرامة الوطنية خاصة وأن تحرر الاقليم النهائي في بداية القرن تم بالتزامن مع حرية العراق وسقوط الدكتاتورية ومواجهة الارهاب الاصولي وتنامي عملية التغيير الديموقراطي الشاملة في المنطقة والعالم مما يضيف كل ذلك مسؤوليات حضارية والتزامات مستجدة على كاهل سلطات اقليم كردستان لتظهرلمواطنيها أولا وللعراقيين والعالم مدى حرصها على المبادىء التي طالما رفعها الشعب الكردي وطالب الآخرين بالالتزام بها خاصة المتعلقة منها بحق تقرير مصير الشعوب والقوميات ولتثبت أن تجربة كردستان العراق ستشكل نموذجا صالحا وعادلا في حل المسألة القومية داخل الاقليم لتتحول مثالا يحتذى به في الجوار وفي الدول المتعددة القوميات بمنطقة الشرق الأوسط .
ثالثا : بما أن مشروع الدستور وفر منذ البداية الأرضية السليمة لمعالجة المسألة ودشن المبدأ الأساسي وهو التسليم أولا بوجود القوميات الكردستانية من تركمان وكلدان وآشوريين وأرمن وعرب لدى التعريف بشعب كردستان في المادة السادسة وهو مدخل لابد منه لبحث مصير وحقوق أي شعب أو قومية , والقبول ثانيا وفي المادة ذاتها بكون هذه القوميات من السكان الأصليين وليست طارئة على ضوء ما يحدده القانون وتثبته الوقائع ( بعيدا عن أية مقارنة كاريكاتيرية بأنظمة الاستبداد أقول : نحن كرد سورية يبلغ تعدادنا قرابة الثلاث ملايين ونشكل 15% من السكان ولم نحصل بعد على الاعتراف الدستوري بوجودنا ناهيك عن الحقوق ) , والاعتراف ثالثا بتمتع هذه القوميات بحق تقرير المصير في الاطار العام الذي تحدد فيه هذا الحق لشعب كردستان مجتمعا بكل قومياته كما نص عليه مشروع الدستور في المادة الثامنة .
وهكذا نكون أمام حالة دستورية متقدمة تتوفر فيها المبادىء الأساسية والقاعدة الراسخة لاحترام التعددية وقبول الآخر القومي وتعزيز المجتمع المدني وتحقيق ما تصبو اليه أية قومية في الاقليم ليس فقط بما يتعلق بالحقوق القومية بل بمجمل الجوانب القانونية والادارية والاجتماعية والثقافية والحريات الأساسية والعامة وحقوق الانسان والمرأة والفرد والمعتقدات وحرية الاستثمارات والسوق والعمل الاقتصادي .
وفي ظل هذا الوضع المؤاتي والمناسب من واجب ممثلي المكونات القومية الكردستانية ومن حقهم أيضا التعبير عن ارادة الأغلبية في شكل ومضمون وصيغة المطالب التي يرونها لتحقيق طموحات من يمثلونهم لأنهم المعنييون بانجاز المهمة وعليهم أن لا ينتظروا الآخرين خاصة الجانب الكردي الذي لايرى أن تحديد حقوق ومطالب القوميات الكردستانية من صلب وظائفه هذا اذا لم يكن بالأساس تجاوزا على حقوق الآخر المقابل وتجسيدا لدور الوصي على شريك المصير مما لا يرتضيهما الكرد في أي حال من الأحوال .
تساؤلات لابد منها
بمناسبة طرح مشروع الدستور للمناقشة نشرت وسائل الاعلام بعضا من المواقف والمقالات والتصريحات معظمها من مثقفين كرد وقد شغلت أقلام مثقفي القوميات غير الكردية وبكل أسف مساحة ضيقة ومتواضعة هذا اذا لم نوصفها بنوع من الالتباس والتردد والغموض حيث بانت في مجملها مصطلحات وعبارات مثيرة للاستفهام والجدل على غرار : ” الهلال المسيحي ” و ” الشعب المسيحي ” و” القومية المسيحية ” و ” الشعب الكلداني الآشوري السرياني الأرمني ” وأحيانا بدون الأرمن و ” حقوق الأزيديين ” و ” حقوق الفيلية ” مما يستدعي الأمر التوقف عندها ومناقشتها :
مشروع دستور الاقليم يعترف بوجود الأديان والمذاهب والمعتقدات في كردستان وفي العراق وينص على حريتها واحترامها ولكن وفي الوقت ذاته لم يتطرق من قريب أو بعيد الى اقامة كيانات ذات الطابع الديني والمذهبي كما هو الحال نفسه في دستور العراق الفدرالي وبعبارة أخرى فان الصراع الناشب بسبب الأزمة الكردية منذ تشكل الدولة العراقية وما تخلله من عنف وأعمال ابادة ونشوب ثورات وانتفاضات كان وما يزال حول القضية القومية وحق تقرير المصير القومي وليس بسبب قضايا الأديان والمذاهب لذلك فان أية محاولة في تحوير طبيعة الصراع من القومي المنفتح الى ما قبل القومي بمثابة ضروب من الخيال والحراثة في البحر ليس الا والمرحلة الراهنة في كردستان بكل ما تحمله من ثقافة سياسية ومفاهيم ودستور وقوانين وماتجسده من قيم وما تفرزه من مؤسسات تشريعية وتنفيذية وادارية تحمل بوضوح عنوانا واحدا وهو كيفية انجاز الاستحقاقات القومية بمفهومها الديموقراطي الانساني ومن الجهة الأخرى وبنفس الدرجة من الوضوح والحسم ليس من وظيفة الدستور التطرق الى ما يطلق البعض عليه حسب خلط متعمد – حقوق قومية – لفئات كردية من معتنقي الديانة غير الاسلامية أو – حقوق قومية – لجماعات كردية من أصحاب لهجات غير الكرمانجية والسورانية فبما أن هؤلاء ينتمون الى القومية الكردية وحتى لوكان لهم أديانهم ومعتقداتهم ولهجاتهم الخاصة بهم فمصيرهم مرتبط بما يؤول اليه وضع المجموع القومي من أبناء الشعب الكردي .
عندما ينص مشروع الدستور على ذكر الكلدان والآشوريين بالاسم فهذا لا يعني أن المشرع يهدف الى تقسيم شعب أو كيان بقدر ما هو قراءة لواقع معاش واحترام لخيار الأغلبية الساحقة من أبناء الشعبين فالكل يعلم أن النقاش – الحامي – مازال دائرا بين نخب الشعبين حول أسئلة حائرة من قبيل : هل الآشوريين الآن من أحفاد الآشوريين القدامى ؟ هل الكلدان شعب مستقل أم عرب سامييون أم كرد مسيحييون ؟ هل السريان شعب أم لغة وهل هم عرب أم كرد مسيحييون ؟ هل تشكل المجموعات الثلاث ما يسمى بالشعب الآرامي ؟ وما هو الدليل العلمي والتاريخي والواقعي في اطلاق مصطلح الشعب المسيحي في كردستان ؟ واذا كان الأرمن شعبا مستقلا فكيف يوصفون بتسمية قومية أخرى ؟
لاشك أن العامل الجغرافي بعد البشري يلعب الدور الرئيسي في طبيعة ودرجة حقوق أية قومية كردستانية والتوزع الواسع للقوميات الكردستانية في مختلف المحافظات والمناطق هو بدون شك عامل من عوامل التعايش السلمي والوئام والانسجام ويستدعي البحث الجاد والموضوعي عن صيغة مناسبة في مجالات الادارة الذاتية اما على أساس ” الوحدات القومية ” أو ” الدوائر القومية ” تتمتع بمختلف السلطات المحلية والتشريعية والتنفيذية وتلبي حاجات كل الجماعات القومية التي حددها الدستور كتجسيد حي ومتطور لنوع من أنواع حق تقرير المصير الذي يقره في نهاية الأمر أبناء القوميات المعنية حسب ارادتهم الحرة .