نحو مؤتمر وطني كردي في سوريا

إسماعيل حمه

لعل من ابرز التحديات التي يواجهها الشعب الكردي في سوريا في هذه اللحظة التاريخية الإنعطافية هي مدى قدرة حركتنا السياسية على تجاوز إرث المرحلة السياسية الماضية الثقافي والسياسي والحزبوي, بكل آلامه وانكساراته, والتطلع نحو المستقبل بعقل منفتح يستوعب ما يجري ويحدد فيها موقعها ويشحذ الهمم لكل الاحتمالات التي يمكن أن يتطور إليها الوضع السوري.

فما يجري في سوريا هي ثورة بكل ما تحمله هذه العبارة من دلالات معرفية, ثورة تحاول أن تطيح ليس بالنظام الأمني الشمولي فحسب, بل بكل البنى المعرفية والمسلمات والمقدسات التي أسستها هذه المنظومة على مدى ما يقارب النصف قرن.

وبالتالي من مفترض أن يكون أول نتاجات هذه الثورة, كوننا جزء أصيل منها هو إعادة تشكيل وعينا السياسي عبر نسق معرفي جديد, تعكس مدى تفاعلنا مع معطياتها  ومدى تجسيدنا لهذه المعطيات في أدائنا وسلوكياتنا.
لا شك لدينا بأنه لم يعد مفيدأ وممكناً التعاطي مع هذه الثورة بالأدوات المعرفية والسلوكية السابقة, وإلا فإننا سنعيد إنتاج نفس الأزمة وإن كانت بصيغ جديدة.

ونحن نتلمس من بعض التصريحات والمواقف والآراء التي تختبئ خلف مفردات الثورة وكأنها محاولة جديدة لإعادة إنتاج ثقافة الاستبداد وثقافة التشفي والإقصاء والانتقام والثأرية بلباس جديد وتحت عناوين ثوروية, فهذا البعض وقبل أن يناقش دواعي عقد المؤتمر الكردي المزمع عقده الأهداف المتوخاة منه, والضرورات التي تستوجبه وتوفير المقدمات لنجاحه, بدأ يذهب إلى التبشير بفشل المؤتمر مسبقا لمجرد تصفية حسابات قديمة جديدة, بينما يذهب البعض الآخر إلى اشتراط الحصص وبدأ باستخدام مبضع البتر والتفتيت وسياسة الشطب والإقصاء بناء على معايير مزاجية تعطي امتيازات لبعض القوى وفعاليات مجتمعنا على حساب البعض الآخر, وكأن المؤتمر وظيفته توزيع الامتيازات وتثبيت الحصص, ويعلم الجميع بأننا في أحزاب الحركة الكردية لسنا كلنا في حجم ووزن واحد لا تنظيمياً ولا جماهيريا ومع ذلك حرص الجميع على عدم إثارة مثل هذه القضايا الثانوية, لان ما نحن مقبلون عليه اكبر واهم من هذه القضايا.
بغض النظر عن دور الأحزاب ماضيا وحاضرا على الساحة وبعيداً عن المزاج السلبي للبعض تجاه هذه الأحزاب لدواعي بعضها حقيقي وأغلبها مصطنع, فهذه الأحزاب هي وحدها القادرة على تحقيق الفكرة وإخراجها إلى حيز الوجود باعتبارها القوة المنظمة الوحيدة القادرة على تنفيذ الالتزامات, وكل من يشكك بدور الأساسي للحركة ويحلم بتجاوزها تحت هذه الذريعة, إنما يرغب في أن يذهب بالوضع الكردي إلى العدمية وإلى الفوضى والفراغ السياسي, لكي تذهب بعدها كل الجهود والتضحيات التي قدمت على مذبح القضية القومية الكردية على مدى نصف قرن هباءً منثورا.
 فإذا كان ثمة فشل من جانب أحزاب الحركة الكردية في المرحلة الماضية في تحقيق أي منجز سياسي فهذا الفشل يتحمله الجميع دون استثناء, ولا يستطيع احد التنصل من المسؤولية ولايجوز تحميل المسؤولية لطرف بعينه وتبرئة آخرين, ففي ذلك تسطيح للمشكلة, فالكل مشتركون في الفشل ويتقاسمون تداعياته, لأن العمل النضالي الكردي في كل مراحله كان عملاً تطوعياً اختياريا, وكانت الساحة السياسية الكردية مفتوحة للجميع ولكل المشاريع, وكان على هؤلاء إن كانوا صادقين فيما يدعون أن يحققوا ما عجزت الحركة عن تحقبقه.

 
نحن نعترف بأننا كحركة سياسية وثقافية عانينا في المرحلة الماضية مشكلات كبيرة كان جزء منها من صنع أيدينا, أي ذاتية تعكس حجم الأزمة التي عانى منها العقل الكردي والشخصية الكردية, ولكن هذه المشكلات لم تكن مقتصرة على جهة معينة بمفردها كما يطيب للبعض وصفها, ولكن الجزء الأكبر لها صلة بعوامل موضوعية فرضها علينا استبداد النظام الأمني والسياسة العنصرية على مدى أكثر من نصف قرن, وأعتقد أنه لم يكن بالإمكان فعل أكثر مما كان ضمن الشروط والمناخات السياسية التي أوجدها هذا النظام, وقد عمل بكل ما أوتي من إمكانات على هجر المجتمع السوري كله للعمل السياسي المعارض, الأمر الذي أدى بالنتيجة إلى انفضاض الجماهير حول الأحزاب, لأن العمل السياسي المعارض كان ينطوي على مخاطر كبيرة لذلك لم تجد الكثيرون ممن يجازفون بتحمل هذه المخاطر, ونحن لا نلوم أحد على ذلك, بينما الذين بقوا متشبثين في الميدان فهم كمن كانوا ينحتون في الصخر بالأظافر, ودفعوا ثمناً باهظاً من حياتهم وحرياتهم لايحق لأحد إنكارها أو الشطب عليها أوالإيحاء وكأن مسيرة النضال والمقاومة الكردية والتضحيات قد بدأت منذ بضعة أشهر .
إن حجم التحديات التي نواجهها اليوم كبيرة جداً, يستدعي مواجهتها بالروح الجماعية, فلا يحق لأية جهة بمفردها أن تدعي حيازة حق التصرف في تقرير مصير شعب ومجتمع, ومن الخطأ أن تتنطح جهة بمفردها لاتخاذ قرارات مصيرية تخص مستقبل هذا الشعب ومستقبل أجياله فهذه مسؤولية كبيرة وخطيرة في نفس الوقت, ولذلك جاءت فكرة الإسراع في عقد المؤتمر الوطني الكردي يحضره ممثلين عن جميع فعاليات المجتمع الكردي, أحزاب, وحركات شبابية, مثقفين, فعاليات مهنية واجتماعية واقتصادية, كحاجة ملحة وضرورة استثنائية, تكاد يلتقي حولها الجميع.

وقد بذلت جهود مشكورة وحثيثة من جهات مختلفة لإخراج الفكرة إلى حيز الوجود والعمل عليها كمشروع قابل للتحقيق, واتخذت أحزاب الحركة الوطنية الكردية وبالاستفادة من كل الأفكار عدد من القرارات في هذا السياق من أهمها أن يكون قوام حضور المؤتمر مناصفة بين الفعاليات المستقلة والفعاليات الحزبية, وهو إقرار من جانب أحزاب الحركة الكردية بأنها ليست الجهة الوحيدة التي تمثل الشعب الكردي في سوريا, وعلى أن يكون حضور المستقلين عبر الاختيار الحرً من قبلهم وضمن الآليات الانتخابية الممكنة والمتاحة في مثل هذه الظروف.


ينبغي أن لا ننظر إلى المؤتمر الوطني كمحفل استعراضي أو هدف بحد ذاته مثل مؤتمرات المعارضة التي تعقد هنا وهناك, بل يرجى منه التصدي لثلاثة مهام رئيسية هي:
 أولاً: تحقيق إجماع كردي وموقف موحد للتعاطي مع التحولات الكبرى التي تشهدها سوريا وتحديد دور الكرد فيها, والاستحقاقات المترتبة على عاتقهم.

وهذا يستدعي منا العمل على أن يستوعب هذا المؤتمر بالضرورة جميع الفعاليات الكردية حضوراً وآراءً ووجهات نظر دون استثناء ووفق معايير موحدة وعادلة قدر المستطاع.
 ثانياً: توحيد المشروع الكردي لحل القضية القومية الكردية والخروج من الصيغ العامة الغامضة إلى مشروع موحد يشكل قاعدة للتفاوض والحوار مع شركائنا في الوطن.

فليس ثمة مشروع واضح ومحدد المعالم  يجمع عليه الكرد في سوريا, فهناك كم من المشاريع المتباينة والمختلفة لحل القضية القومية تتنازعها الأحزاب والقوى السياسية الكردية, بعضها ترى هذا الحل عبر نظام لا مركزي سياسي (دستوري) يتمتع فيه الإقليم الكردي بعد توحيده من خلال تعديل التقسيمات الإدارية الراهنة, بحق تقرير شؤونه الإدارية والتشريعية والقضائية وفق الصلاحيات التي ينبغي أن  يقرها الدستور الجديد بالنسبة للحكومات والبرلمانات المحلية في عموم سوريا الموحدة, وقد تكون هذه الأقاليم في صيغة حكم ذاتي أو اتحاد فيدرالي, بينما هناك مشاريع تطرح مفهوم الإدارة الذاتية وهي صيغة مطورة من الإدارة المحلية  تبقي على هيكلية الإدارة المركزية في الحكم مع التوسيع في صلاحيات الأقاليم أو المحافظات في تقرير شؤونها الإدارية, وتعرف هذه الصيغة في القانون باللامركزية الإدارية وتقضي بتوزيع السلطات الإدارية بين المركز والأقاليم, وهي تختلف اختلاف جوهري عن اللامركزية السياسية أو (اللامركزية الدستورية) التي تعني توزيع الوحدات الدستورية وسلطات الدولة الثلاثة ( التشريعية والقضائية والإدارية) بين المركز والأقاليم, أي وجود حكومات وبرلمانات ودساتير محلية إلى جانب الدستور العام والبرلمان والحكومة المركزية .
وهناك من يرى بان يكون حل القضية الكردية عبر منح الحقوق الثقافية والسياسية الاجتماعية للشعب الكردي في سوريا وهو مشروع فضفاض غير واضح المعالم, ربما يعني مشاركة الكرد في سلطات الدولة المركزية بنسبة وجودهم إلى جانب تمتعهم بحقوقهم الثقافية التي تتصل باللغة  وإمكانية تعليمها وتعلمها في المدارس والمعاهد الحكومية بالإضافة إلى غير ذلك من أوجه النشاط الثقافي.
ثالثاً: تشكيل هيئات جديدة تنبثق عن المؤتمر مثل مجلس وطني وهيئات تنفيذية مفوضة بإدارة العملية السياسية والنضالية على الأرض وفق معطيات كل مرحلة من مراحل التي تبلغها التطورات التي تخلقها الانتفاضة أو الثورة, لكي يكون الأداء الكردي فعالاً ومميزاً يعكس الثقل السياسي النوعي للكرد في الخارطة السياسية والديمغرافية السورية, وخاصة أنهم الأكثر مراساً ومراناً في العمل التنظيمي والنضالي والسياسي.
إذا المهم أن نعمل جميعاً على توفير البيئة المناسبة لنجاح هذا المؤتمر وان نسرع في إنجازه وأن نخرج منه بتصور موحد عما يجري في سوريا واتجاهات تطور الإحداث, ومستقبل الشعب الكردي وقضيته القومية,  بينما الأقل أهمية أن نغرق في الأمور الثانوية والحصص الأحجام والامتيازات التي يريد البعض تعويمها قبل النظر في أهمية ما سينتج عنه سياسياً.
1/8/2011

·  سكرتير اللجنة المركزية لحزب يكيتي الكردي في سوريا

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

صلاح بدرالدين في البلدان المتحضرة التي يحترم حكامها شعوبهم ، وعلماؤهم ، ومفكروهم ، ومثقفوهم ، تولى مراكز الأبحاث ، والدراسات ، ومنصات الحوار الفكري ، والسياسي ، والثقافي ، أهمية خاصة ، وتخصص لها بشكل قانوني شفاف ميزانية خاصة تبلغ أحيانا من ١ الى ٢ ٪ من الميزانية العامة ، وتتابع مؤسسات الدولة ، بمافيها الرئاسات ، والوزارات الحكومية…

إبراهيم اليوسف لا ريب أنه عندما تتحول حقوق الإنسان إلى أولوية نضالية في عالم غارق بالصراعات والانتهاكات، فإن منظمات المجتمع المدني الجادة تبرز كحارس أمين على القيم الإنسانية. في هذا السياق، تحديداً، تأسست منظمة حقوق الإنسان في سوريا- ماف في مدينة قامشلي، عام 2004، كردّ فعل سلمي حضاري على انتهاكات صارخة شهدتها المنطقة، وبخاصة بعد انتفاضة آذار الكردية 2004. ومنذ…

عنايت ديكو   الوجه الأول: – أرى أن صفقة “بهچلي – أوجلان” هي عبارة عن اتفاقية ذات طابع أمني وجيوسياسي بحت، بدأت معالمها تتكشف بشكل واضح لكل من يتابع الوضع عن كثب، ويلاحظ توزيع الأدوار وتأثيراتها على مختلف الأصعدة السياسية، الأمنية، والاجتماعية داخل تركيا وخارجها. الهدف الرئيسي من هذه الصفقة هو ضمان الأمن القومي التركي وتعزيز الجبهة الداخلية بجميع تفاصيلها…

اكرم حسين العلمانيّة هي مبدأ سياسي وفلسفي يهدف إلى فصل الدين عن الدولة والمؤسسات الحكومية ، وتنظيم الشؤون العامة بما يعتمد على المنطق، والعقلانية، والقوانين الوضعية بدون تدخل ديني. يتضمن مبدأ العلمانيّة الحفاظ على حرية الدين والمعتقد للأفراد، وضمان عدم التمييز ضد أي شخص بسبب دينه أو اعتقاده. تاريخياً ظهرت العلمانية مع اندلاع الثورة الفرنسية حيث خرجت الطبقة البرجوازية…