النقاب والدولة المنقبة… الإسلاموية كقضية للسلطة لا للدولة

رستم محمود

في نهاية العام الدراسي الماضي (حزيران 2010 ) قامت الحكومة السورية بنقل 1200 مدرّسة منقّبة من وزارة التربية لصالح وزارة الإدارة المحلية، حيث اعتبرت الوزارة وقتها أن النقاب مناف للقيم التربوية المدنيّة!
لكن، مع بداية الأزمة والانتفاضة الشعبية الراهنة، أعيد هؤلاء المنقبات إلى وظائفهن السابقة، حيث علق الشيخ محمد سعيد رمضان البوطي على ذلك قائلا :”بعد التمحيص تبين أنهن بريئات” !
تبدو هذه الحادثة بكليتها، شكلا واضحا من فصام الدولة عن جهازها الرمزي والإداري البيروقراطي، وذلك بدلالة عدد من الملاحظات .
حين تم فصل المعلمات، كان الظاهر من الشأن، أن الدولة تريد أن تعيد الروح المدنية إلى أهم سلك لصناعة الذاكرة الجمعية والفكرية لأمة المواطنين، عبر سلك التربية .

لكن في نفس الحين، كان الشائع وقتها بأن الدولة (اقرأ السلطة السياسية الحاكمة) تتعرض لحملة ضغط سياسية وإعلامية من قبل الدول الغربية بسبب تماديها في فسح المجال العام السياسي والثقافي والاجتماعي أمام التيارات المحافظة والأصولية، بعيد حرب العراق وموقف سوريا الأقرب لتلك التيارات في الوسط الأصولي العراقي .


ثم حين تم إعادتهن إلى السلك التربوي، كان الظاهر في الشأن، إن ذلك تم لأن هؤلاء المعلمات برئن من التهم الموجهة إليهن (حسب الفقه البوطي، ولا يعلم حتى الآن ما هي تلك التهم ) .

لكن الأصيل في الشأن، أن الأمر جاء كخطوة تقاربية للجهات والتيارات الأكثر محافظة في ظل هذه الحالة الاستثنائية التي يحياها البلد السوري (اقرأ النظام السوري ) .
وفي الحالتين حين تم فصل المنقبات، لم يصدر القرار بملمح واضح ومعلل ومبين بسلطة الإعلام والقضاء .

بل تم في الخفاء وبالتوجيه الأمني .

وكل ما صدر عن الموضوع كان عبارة عن تسريبات إعلامية واعتراضات أمنية .

والشيء نفسه كان في عملية إعادتهن إلى وظائفهن .

وخصوصا أن الإعادة تمت في ظل غياب الحكومة (حكومة تصريف الأعمال التي كانت تحكم وقتها لم يكن يحق لها أن تعيد هذا العدد الكبير من موظفي الدولة بهذه السرعة حسب الأعراف الحكوماتية ؟!! ) .

وفي مجمل القضية فإن آلية الفصل لم تقع ضمن قانون واضح يخص كل من يتبع هذا السلوك، بل كان قرارا فرديا واستثنائيا، وكذلك عملية الإعادة لم تتم عبر قانون أو قرار قضائي .

أي أنه لا يوجد ما يمنع أن يتم إعادة فصلهم وفرزهم وإعادتهن مرة ثانية .
يصح المثال السابق كنموذج لفهم الطريقة التي يتم التعامل بها مع قضية بالغة التأثير والعمق في بنية مجتمعاتنا .

فالإسلاموية السياسية والمجتمعية التي اكتسحت الفضاء العام المنطقة منذ نصف قرن وإلى الآن، كان يعاني أساسا اختلالا في الجهة التي أوكلت إليها إدارته والتعامل معه .

بحيث أن التفاعل معها كان يجري من قبل الجهاز السلطوي (الأجهزة الأمنية، والشخصيات المركزية في النظام بالذات) لا من قبل مؤسسات الدولة المادية والرمزية ( الدستور والقانون واجهزة التربية والقضاء …الخ ) .


هذه العلاقة المختلة، أدت إلى بروز تشوهات في القضية الإسلاموية السياسية والمجتمعية .


أولا : لم يرتسم للقضية الإسلاموية مسار إصلاحي واضح، ففي أوقات شتى يتم اتخاذ مجموعة من الإجراءات التنفيذية والقانونية التي تساهم في تهميش الإسلامويين وتفكيك بنيتهم .

لكن بالمقابل، فإن ذلك لا يعني الاستمرار بنفس الوتيرة والاتجاه .

فما أن تتحول الظروف والمناخات السياسية الخارجية والداخلية بالاتجاه المغاير للظروف التي شاءت السلطة عبرها أن تهمش بنية ذلك التيار، تعود من جديد لتقويته .

لذلك فان حضور الإسلاموية ودورها وعمقها يبدو دائريا .

فخفوتها لا يعني قرب تحللها، وبالمقابل فإن حضورها البالغ لا يعني قرب اكتساحها .

الشيء الذي يحول الظاهرة بذاتها إلى موقع ما فوق سياسي وما فوق مجتمعي .

فجل الحركة المجتمعية والسياسية لا تشكل تراكما تاريخيا فعالا .

كما كان يجب أن يجري، لو كانت الظاهرة الإسلاموية محكمة بالمؤسسات الدولاتية لا السلطوية .


ثانيا : بممارسة هذا الشكل من العلاقة، تتحول القضية الإسلاموية من ظاهرة طارئة وعابرة ناتجة عن تكاثف جملة من الظروف والمناخات التي تراكمت على مجتمعات منطقتنا .

تتحول من ذلك الشكل، إلى شكل من التصارع الاجتماعي/الاجتماعي من جهة، وإلى التصارع الاجتماعي/السلطوي من جهة اخرى .

فصعودها وحجرها يتعلق بلعبة التصارع الاجتماعي الاقتصادي السياسي ورغبة ومصالح السلطة في رفع وخفض إحدى الطبقات والمجموعات ضد الأخرى، وفي مرات كثيرة، تتحول إلى أداة بيد تلك السلطات للابتزاز والتخويف المجتمعي، لتمتين صلتها وسلطتها العضوية على الطبقات الأخرى .


ثالثا : حينما تكون الإسلاموية قضية السلطة لا الدولة، فإنها تحجب عن المعارضات الجزئية الصغيرة، كالمسرح والسينما والموسيقى والكتابة والبحث ثقتها بنفسها لمواجهة هذه الظاهرة، لأنها لا تكون بحماية الدولة الرسمية المادية والرمزية .

لذا تنجح الإسلاموية بـ”تشيم” تلك المبادرات المعارضة والمفككة لها قبل خلقها بالذات .

هذا إن لم نقل، إن السلطة والإسلاموية كانا ومازلا يشتركان بـ”تشيم” نفس تلك المظاهر المعترضة عليهما .


الدولة أمنا كلنا، وللأم عدالة غريزية لا يشك بها، أمّا السلطة، فربما تكون إحدى أخواتنا، هذا لو كانت ديمقراطية، أما لو لم تكن كذلك، فربما تكون ابنة الضرة، أو أكثر قسوة علينا .

عن موقع الأوان .

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

ماجد ع محمد بعد أن كرَّر الوالدُ تلاوة قصة الخريطة المرسومة على الجريدة لأولاده، شارحاً لهم كيف أعادَ الطفلُ بكل سهولة تشكيل الصورة الممزقة، وبما أن مشاهِدَ القصف والتدمير والتدخلات الدولية واستقدام المرتزقة من دول العالم ومجيء الجيوش الأجنبية والاقليمية كانت كفيلة بتعريف أولاده وكل أبناء وبنات البلد بالمناطق النائية والمنسية من بلدهم وكأنَّهم في درسٍ دائمٍ لمادة الجغرافيا، وبما…

صلاح بدرالدين لاتحتاج الحالة الكردية السورية الراهنة الى إضفاء المزيد من التعقيدات اليها ، ولاتتحمل هذا الكم الهائل من الاخذ والرد اللذان لايستندان الى القراءة العلمية الموضوعية ، بل يعتمد بعضها نوعا من السخرية الهزلية وكأن الموضوع لايتعلق بمصير شعب بكامله ، وبقدسية قضية مشروعة ، فالخيارات واضحة وضوح الشمس ، ولن تمر بعد اليوم وبعبارة أوضح بعد سقوط الاستبداد…

المهندس باسل قس نصر الله أتكلم عن سورية .. عن مزهرية جميلة تضمُّ أنواعاً من الزهور فياسمين السنّة، ونرجس المسيحية، وليلكة الدروز، وأقحوان الإسماعيلية، وحبَق العلوية، ووردة اليزيدية، وفلّ الزرادشتية، وغيرها مزهرية تضم أطيافاً من الأكراد والآشوريين والعرب والأرمن والمكوِّنات الأخرى مزهرية كانت تضم الكثير من الحب اليوم تغيّر المشهد والمخرج والممثلون .. وبقي المسرح والمشاهدون. أصبح للوزراء لِحى…

د. آمال موسى أغلب الظن أن التاريخ لن يتمكن من طي هذه السنة بسهولة. هي سنة ستكون مرتبطة بالسنوات القادمة، الأمر الذي يجعل استحضارها مستمراً. في هذه السنة التي نستعد لتوديعها خلال بضعة أيام لأن كان هناك ازدحام من الأحداث المصيرية المؤدية لتحول عميق في المنطقة العربية والإسلامية. بالتأكيد لم تكن سنة عادية ولن يمر عليها التاريخ والمؤرخون مرور الكرام،…