سورية: ارحل! قالتها عامودة المدينة الرمز

عبدالباسط سيدا

وخرجت عامودة وفية لتاريخها، لقيمها، لإبائها.

خرجت باسرها، بتواصلها وتلاحمها.

خرجت على الرغم من ضراوة السياسة الانتقامية التي تستهدفها منذ عقود؛ تلك السياسة التي بلغت الذروة في مرحلة ما بعد تحطيم الصنم (آذار2011).

خرجت عامودة صوتاً واحداً لتقول مع كل السوريين ارحل.

قالتها وتقولها عامودة في كل يوم عبارة صريحة، بلغة بسيطة قوية واضحة، عصيّة على اي تأويل يتناقض مع تطلعات ثورة الكرامة السورية؛ أو تتعارض مع سمو الشهداء الأبرار ودمائهم الطاهرة.
عامودة كانت – وما زالت- معقل الفكر والفعل القومي الديمقراطي الكردي، والإنتماء الوطني السوري.

كانت – وما زالت- مركز المعرفة والثقافة في الجزيرة العليا السورية.

مدينة تعتز بأبنائها من المقيمين والمهاجرين؛ وهم جميعاً يعتزون بها، ويتفاخرون بها، خاصة في الأيام المباركة هذه.
عامودة تعيش قحطاً طبيعياً، وتعاني اهمالاً ونهباً رسمياً.

شبابها يهاجرون مرغمين، يبحثون عن فرص تمكّنهم من استعادة قواهم، ليعودوا من جديد إلى عزيزتهم عامودة، يسيرون في شوارعها وأزقتها؛ يتذكرون الأيام السعيدة الغابرة، ويرنون نحو مستقبل مشرق قادم، تفصلهم عنها حقبة سوداء استمرت أكثر مما ينبغي، حقبة بلغت زمنياً ضعف مرحلة الاستعمار الفرنسي.
أبناء عامودة الذين قُدر عليهم أن يكونوا الرمز في مقارعة الاستعمار الخارجي، والاستبداد الداخلي.

قاومت المدينة الاستعمار الفرنسي الذي قصفها بالطائرات، واشعل فيها النيران؛ فقتل من قتل، وتشرد اهلها ولم تستسلم، وخرج الفرنسيون.
وها هم الأحفاد، وابناء الأحفاد، وأحفاد الأحفاد، يلتزمون خطى الأجداد، ويقولون ما قاله المختار للطليان: نحن لا نستسلم.

إما ننتصر أو نموت.
لقد أعلنها الاستبداد سياسة انتقامية ضد عامودة ثأراً من تحطيم الصنم.

وكم من صديق زارها بعد انتفاضة 2004 وعاد ليرثي حالها، والألم يعتصر القلوب.
لكن عامودة كانت – وستكون-  كما عهدناها، تمتلك طاقة كامنة لا يعرف ماهيتها سوى أهلها، هؤلاء الذين يعتزون بمدينتهم، يتألمون لحالها، غير أنهم لا يتنازلون، لا يستسلمون، مهما اشتدت وطأة الظلم، ومهما كانت المعاناة قاسية مؤلمة.
عامودة مدينة تتواصل مع سائر مدن الجزيرة، بل مع سائر المدن السورية، بل منتشرة في العالم باسره؛ أبناؤها في كل مكان، يساهمون بفعالية واستمرارية في عملية السعي من أجل حقوق شعبهم، ورفع الظلم عنه.

يلتزمون واجباتهم الوطنية، ويحلمون دائما بالعودة إلى مدينة الأنفة والمعرفة.
الغصة المريرة التي تعمق الألم في أفئدة أبناء المدينة في راهن الأيام، تتمثل في بروز مجموعة صغيرة صغيرة جدا من أبنائها؛ مجموعة كانت قد ارتبطت بالاستبداد لغايات مصلحية.

هكذا كانت تسوغ لنفسها؛ ويبدو أنها أرغمت في الآونة الأخيرة على التحرك بمعية عناصر خارجية، عناصر لاتنتمي إلى المدينة، وتجهل طبيعة المعادلات فيها.

عناصر جلبتها أدوات الاستبداد، وارادت أن تسير بهم في وسط عامودة، رغبة في إهانة المدينة، وإحداث فتنة.

لكن المدينة الأبية لفظتهم، رفضتهم، وارغمتهم على الخروج.

وهنا لا بد أن نتوجه بالشكر إلى لجنة السلم الأهلي في المدينة، التي قامت بواجبها، وأقنعت المغلوبين على أمرهم بضرورة الانسحاب.

أما الحفنة الصغيرة من أبناء المدينة الذين ارتضوا لأنفسهم أن يكونوا مطايا الاستبداد كما كانوا دائماً، فقد قرر ابناء عامودة التشهير بهم، والكشف عن اسمائهم في لائحة العار التي ساروا بهم في المدينة، وذلك حتى يكونوا عبرة لغيرهم.

إنها خطوة ابداعية حقاً؛ تؤكد أن هاجس الخوف قد تلاشى، وأن زمن المجاملات الخاوية قد ولّى، وأن العزل الإجتماعي سيكون العقوبة العادلة التي ستنتظر كل من ربط مصيره بمصير الاستبداد، واراد أن يكون برغياً في ماكينة الاستبداد.
إنها خطوة سليمة ابدعتها عامودة، وستكون من دون شك موضع تقدير واقتداء من المدن السورية الأخرى؛ حتى يستوعب ضعاف النفوس الدرس، ويفهموا أن التسلق على آلام وعذابات الآخرين من ابناء شعبهم وأهلهم لن يكون من دون محاسبة؛ وقد أعلنتها عامودة محاسبة حضارية معبّرة، محاسبة تتمثل في العزل الاجتماعي حتى يعود هؤلاء إلى رشدهم، ويعترفوا بضلال سبيلهم، ويقدموا الاعتذار بصدق وشفافية، ويعلنوا توبتهم أمام الله والذات والشعب.

تحية تقدير وشكر إلى جميع أبناء عامودة الأعزاء، والأمل كل الأمل أن نلتقي قريبا في رحاب المدينة التي تبقى دائما في العقل والقلب.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

إبراهيم اليوسف لا ريب أنه عندما تتحول حقوق الإنسان إلى أولوية نضالية في عالم غارق بالصراعات والانتهاكات، فإن منظمات المجتمع المدني الجادة تبرز كحارس أمين على القيم الإنسانية. في هذا السياق، تحديداً، تأسست منظمة حقوق الإنسان في سوريا- ماف في مدينة قامشلي، عام 2004، كردّ فعل سلمي حضاري على انتهاكات صارخة شهدتها المنطقة، وبخاصة بعد انتفاضة آذار الكردية 2004. ومنذ…

عنايت ديكو   الوجه الأول: – أرى أن صفقة “بهچلي – أوجلان” هي عبارة عن اتفاقية ذات طابع أمني وجيوسياسي بحت، بدأت معالمها تتكشف بشكل واضح لكل من يتابع الوضع عن كثب، ويلاحظ توزيع الأدوار وتأثيراتها على مختلف الأصعدة السياسية، الأمنية، والاجتماعية داخل تركيا وخارجها. الهدف الرئيسي من هذه الصفقة هو ضمان الأمن القومي التركي وتعزيز الجبهة الداخلية بجميع تفاصيلها…

اكرم حسين العلمانيّة هي مبدأ سياسي وفلسفي يهدف إلى فصل الدين عن الدولة والمؤسسات الحكومية ، وتنظيم الشؤون العامة بما يعتمد على المنطق، والعقلانية، والقوانين الوضعية بدون تدخل ديني. يتضمن مبدأ العلمانيّة الحفاظ على حرية الدين والمعتقد للأفراد، وضمان عدم التمييز ضد أي شخص بسبب دينه أو اعتقاده. تاريخياً ظهرت العلمانية مع اندلاع الثورة الفرنسية حيث خرجت الطبقة البرجوازية…

اننا في الفيدرالية السورية لحقوق الانسان والمنظمات والهيئات المدافعة عن حقوق الإنسان في سورية، وبالمشاركة مع أطفال العالم وجميع المدافعين عن حقوق الطفل وحقوق المرأة وحقوق الانسان، نحيي احتفال العالم بالذكرى السنوية الثلاثين لاتفاقية حقوق الطفل، التي تؤكد على الحقوق الأساسية للطفل في كل مكان وزمان. وقد نالت هذه الاتفاقية التصديق عليها في معظم أنحاء العالم، بعد أن أقرتها الجمعية…