د . عماد الدين رشيد*
مع ارتفاع صوت هدير الدبابات التي كسرت صمت سهول حوران سكت صرصار الحقل الذي كان يؤنس الفلاحين فحين كانوا يسمعون صوته يستبشرون بدخول الربيع، وأعلنت هذه الدبابات وفاة ما يسمى بـ: “الحوار الوطني“. واكتملت مراسم الجنازة بأصوات الرشاشات التي كانت بمثابة تراتيل صلاة الجنازة، ولكنه مع ذلك كله كانت هذه الأصوات المرعبة إعلاناً عن ربيع جديد قد طالما انتظرته حوران وسورية كلها.
لم تكن مشكلة سورية أن أطفالاً من درعا أصابهم عدوى “فيروس الحرية” من مصر، فكتبوا على جدران مدرستهم شعارات تدعو إلى إسقاط النظام، فاعتقلتهم قوات الأمن ونزعت أظافر بعضهم.
ولم تكن المشكلة في تراكمات القهر الذي ساس به “حزب البعث” الشعب السوري منذ قريب من نصف قرن.
إن مشكلة سورية هي مشكلة العقل العربي الذي تدجن لصالح القهر، وفلسف للظلم، وجعل الدكتاتورية جزءاً من الثقافة السياسية العربية.
لقد بدأت المشكلة حين انهزم المثقف العربي أمام السلطان الذي صادر المرجعية لصالحه منذ حوالي ثلاثة عشر قرناً، حيث بدأ تراجع المثقف العربي إلى أن وصل إلى الارتماء في حضن القصور، والتنظير لحكمها، وإسبال أثواب القداسة عليها.
وللإنصاف لم تكن هذه الحالة موضع استسلام لكل المثقفين في التاريخ العربي، فقد حفل ذلك التاريخ بمواقف رافضة لاستيلاء السلطان وفكره على فكر الأمة.
إن هذه السباحة في عمق الذاكرة العربية تمكن المتابعين من رصد مسار الربيع العربي الراهن، ومعرفة قدرته على حل جذور المشكلة التي لا تتعلق ببلد عربي بعينه، بل بالخارطة العربية جمعاء.
كما أن هذا التحليل البسيط يضع المثقفين العرب أمام مسؤوليات صعبة، تفرض عليهم أن يعيدوا النظر بالبنى الفكرية التي طالما نظَّرت للدكتاتورية؛ لأن القضية ليست استبدال وجه بوجه، ولا نظام بنظام، بل هي تغيير جذري في العقل العربي الراهن، ليقبل بغيره كما هو من غير وصاية ولا انتقاص، فهذه هي القضية التي افتقدها المثقف العربي اليوم الذي لا يستطيع أن يرى الآخر إلا من خلال إيديولوجيته، وبناءً عليها يفرض مسافة للقرب أو البعد عنه.
إن الثورة على الظلم والقهر عموماً يجب أن تترافق بأمرين، تغيير النظام، وتغيير الفكر الذي أدى إلى تقبل الدكتاتورية في العقل العربي، كي لا يتحول الثوار إلى دكتاتوريين جدد، وهذا الأخير هو واجب المثقفين العرب في زمان العولمة.
ولو رجعنا إلى الحالة السورية فسنجد من المنطقي جداً – حسب الدكتاتورية التاريخية للعقل العربي – أن يقوم النظام بتجاهل كل صوت يذكره باستبداده، سواء كان من الشعب الذي لم يوجه النظام إليه أي خطاب حقيقي، فضلاً عن أن يراه على الخارطة السياسية، أو كان من أصدقائه الذين يسدون إليه خالص النصيحة. ولاشك يعود ذلك إلى أن النظام لا يرى غير نفسه، فهو الوطن وهو الدولة وهو الجمهورية؛ ومن هذه الزاوية يمكن أن نفهم التماهي الشديد فيما بين الوطن والرئيس والدولة والحزب في دستور عام 1973، حيث صار الحزب هو يقود الدولة، وصار الرئيس صاحب صلاحيات مطلقة، فهو رأس السلطة التنفيذية، ويحل البرلمان متى أراد، وتصبح الكثير من قراراته تشريعات ملزمة، وهو رئيس مجلس القضاء الأعلى، وبذلك تختلط السلطات الثلاث وتجتمع في شخصه. لقد فلسف مثقفو البعث الدكتاتورية، وشرعنوها في الدستور، فكيف يمكن أن تنزع هذه المكاسب من النظام؟!
إنني بقدر ما أرى أن النظام ومؤسسته الأمنية يحملان مسؤولية العنف، أرى أن المثقفين السوريين المطبلين للنظام يحملون قدراً من المسؤولية لا ينقص عما يحمله النظام، ودماء الطفل الشهيد “حمزة الخطيب” لا يحمل مسؤوليتها قاتلوه ومعذبوه وحدهم، بل يشاركهم المثقفون الذين باعوا أقلامهم للنظام، وصاروا يقتلون بأقلامهم وألسنتهم وأفكارهم، وضحايا هؤلاء من العسير حصرهم لكثرتهم.
إن من هذا الفريق من لا يزال حتى الآن ينظِّر للعنف على شاشات التلفزة السورية، ويصفق لموت الضحايا الذين يسقطون كل يوم من غير أن يحسوا بأدنى مسؤولية.
ولعل السؤال الذي ينتظره الشارع السوري الذي لا يهمه الكثير من تفلسفي وتنظيري هو: كيف الخروج من الأزمة التي زج النظام فيها الشعب السوري، بعد أن انصرف النظام عن حماية الشعب السوري إلى حماية نفسه من الشعب السوري، ودجَّن في سبيل ذلك كل فعاليات الدولة، حتى صار الشعب يحسّ بأنه يحيى في حالة غياب الدولة، أو ربما انعدامها؟
إن هذه الحالة تشبه إلى حد كبير حالة جلاء المستعمر الفرنسي عن سورية، حيث وجد الشعب السوري نفسه
بلا دولة، فتداعت القوى الوطنية يومذاك إلى مؤتمر تأسيسي، فشكلت حواراتُ السوريين لبنةَ الجمهورية السورية التي نحيا اليوم في كنفها، ونحس بأننا لا نملك اليوم مؤسسة أغلى منها، بل ربما لا نجد اليوم في سورية أية مؤسسة على وجه الحقيقة باستثناء مؤسسة الجمهورية، فلا الرئاسة مؤسسة، ولا الوزارة مؤسسة، ولا الأمن مؤسسة، ولا البرلمان مؤسسة، بل هي مزارع يتعامل أصحابها معها على أنها أملاك خاصة.
وليس من البعد أن نقول إذا استمرت تصرفات النظام على ما هي عليه من تسليط الحل الأمني على رقاب السوريين فسيؤدي ذلك إلى سقوط الجمهورية – لا قدر الله – وهي المؤسسة الوحيدة التي ورثها السوريون عن أسلافهم بعد الاستقلال عام 1946.
ولم تكن المشكلة في تراكمات القهر الذي ساس به “حزب البعث” الشعب السوري منذ قريب من نصف قرن.
إن مشكلة سورية هي مشكلة العقل العربي الذي تدجن لصالح القهر، وفلسف للظلم، وجعل الدكتاتورية جزءاً من الثقافة السياسية العربية.
لقد بدأت المشكلة حين انهزم المثقف العربي أمام السلطان الذي صادر المرجعية لصالحه منذ حوالي ثلاثة عشر قرناً، حيث بدأ تراجع المثقف العربي إلى أن وصل إلى الارتماء في حضن القصور، والتنظير لحكمها، وإسبال أثواب القداسة عليها.
وللإنصاف لم تكن هذه الحالة موضع استسلام لكل المثقفين في التاريخ العربي، فقد حفل ذلك التاريخ بمواقف رافضة لاستيلاء السلطان وفكره على فكر الأمة.
إن هذه السباحة في عمق الذاكرة العربية تمكن المتابعين من رصد مسار الربيع العربي الراهن، ومعرفة قدرته على حل جذور المشكلة التي لا تتعلق ببلد عربي بعينه، بل بالخارطة العربية جمعاء.
كما أن هذا التحليل البسيط يضع المثقفين العرب أمام مسؤوليات صعبة، تفرض عليهم أن يعيدوا النظر بالبنى الفكرية التي طالما نظَّرت للدكتاتورية؛ لأن القضية ليست استبدال وجه بوجه، ولا نظام بنظام، بل هي تغيير جذري في العقل العربي الراهن، ليقبل بغيره كما هو من غير وصاية ولا انتقاص، فهذه هي القضية التي افتقدها المثقف العربي اليوم الذي لا يستطيع أن يرى الآخر إلا من خلال إيديولوجيته، وبناءً عليها يفرض مسافة للقرب أو البعد عنه.
إن الثورة على الظلم والقهر عموماً يجب أن تترافق بأمرين، تغيير النظام، وتغيير الفكر الذي أدى إلى تقبل الدكتاتورية في العقل العربي، كي لا يتحول الثوار إلى دكتاتوريين جدد، وهذا الأخير هو واجب المثقفين العرب في زمان العولمة.
ولو رجعنا إلى الحالة السورية فسنجد من المنطقي جداً – حسب الدكتاتورية التاريخية للعقل العربي – أن يقوم النظام بتجاهل كل صوت يذكره باستبداده، سواء كان من الشعب الذي لم يوجه النظام إليه أي خطاب حقيقي، فضلاً عن أن يراه على الخارطة السياسية، أو كان من أصدقائه الذين يسدون إليه خالص النصيحة. ولاشك يعود ذلك إلى أن النظام لا يرى غير نفسه، فهو الوطن وهو الدولة وهو الجمهورية؛ ومن هذه الزاوية يمكن أن نفهم التماهي الشديد فيما بين الوطن والرئيس والدولة والحزب في دستور عام 1973، حيث صار الحزب هو يقود الدولة، وصار الرئيس صاحب صلاحيات مطلقة، فهو رأس السلطة التنفيذية، ويحل البرلمان متى أراد، وتصبح الكثير من قراراته تشريعات ملزمة، وهو رئيس مجلس القضاء الأعلى، وبذلك تختلط السلطات الثلاث وتجتمع في شخصه. لقد فلسف مثقفو البعث الدكتاتورية، وشرعنوها في الدستور، فكيف يمكن أن تنزع هذه المكاسب من النظام؟!
إنني بقدر ما أرى أن النظام ومؤسسته الأمنية يحملان مسؤولية العنف، أرى أن المثقفين السوريين المطبلين للنظام يحملون قدراً من المسؤولية لا ينقص عما يحمله النظام، ودماء الطفل الشهيد “حمزة الخطيب” لا يحمل مسؤوليتها قاتلوه ومعذبوه وحدهم، بل يشاركهم المثقفون الذين باعوا أقلامهم للنظام، وصاروا يقتلون بأقلامهم وألسنتهم وأفكارهم، وضحايا هؤلاء من العسير حصرهم لكثرتهم.
إن من هذا الفريق من لا يزال حتى الآن ينظِّر للعنف على شاشات التلفزة السورية، ويصفق لموت الضحايا الذين يسقطون كل يوم من غير أن يحسوا بأدنى مسؤولية.
ولعل السؤال الذي ينتظره الشارع السوري الذي لا يهمه الكثير من تفلسفي وتنظيري هو: كيف الخروج من الأزمة التي زج النظام فيها الشعب السوري، بعد أن انصرف النظام عن حماية الشعب السوري إلى حماية نفسه من الشعب السوري، ودجَّن في سبيل ذلك كل فعاليات الدولة، حتى صار الشعب يحسّ بأنه يحيى في حالة غياب الدولة، أو ربما انعدامها؟
إن هذه الحالة تشبه إلى حد كبير حالة جلاء المستعمر الفرنسي عن سورية، حيث وجد الشعب السوري نفسه
بلا دولة، فتداعت القوى الوطنية يومذاك إلى مؤتمر تأسيسي، فشكلت حواراتُ السوريين لبنةَ الجمهورية السورية التي نحيا اليوم في كنفها، ونحس بأننا لا نملك اليوم مؤسسة أغلى منها، بل ربما لا نجد اليوم في سورية أية مؤسسة على وجه الحقيقة باستثناء مؤسسة الجمهورية، فلا الرئاسة مؤسسة، ولا الوزارة مؤسسة، ولا الأمن مؤسسة، ولا البرلمان مؤسسة، بل هي مزارع يتعامل أصحابها معها على أنها أملاك خاصة.
وليس من البعد أن نقول إذا استمرت تصرفات النظام على ما هي عليه من تسليط الحل الأمني على رقاب السوريين فسيؤدي ذلك إلى سقوط الجمهورية – لا قدر الله – وهي المؤسسة الوحيدة التي ورثها السوريون عن أسلافهم بعد الاستقلال عام 1946.
ومن أجل ذلك كله لا بد من التداعي إلى مؤتمر إنقاذ وطني في سورية يحضره السوريون بمختلف ألوانهم وأطيافهم، ليحموا مؤسسة الجمهورية من السقوط الذي يدفع إليه النظام من حيث يدري أو لا يدري، وليضعوا ملامح عهد جديد تكون فيه سورية دولة مدنية ديمقراطية، تسود فيها قيم المواطنة والعدل والحرية، وتحكمها حقوق وواجبات متساوية لكل أبنائها. بدلاً من أصوات الدبابات ومعزوفات الموت من أفواه البنادق والرشاشات، كل ذلك من أجل ألا يموت الربيع.
*- دكتوراه في الشريعة الاسلامية (حديث) عام 1998
– دكتوراه في الشريعة الاسلامية (أصول الفقه) دمشق عام 1999
– رئيس قسم علوم القران و السنة في جامعة دمشق سابقاً
– مدرس في كلية الاداب جامعة دمشق سابقاً
– رئيس قسم الدراسات العليا (نيجيريا سابقاً)
– باحث ومدير مركز الدراسات الأكاديمية (دمشق – نيجيريا) سابقاً