هذه الممارسة العنيفة في السياسة ، من جانب تلك الأنظمة التي استمرت عدة عقود ، أنتجت حالة من التأزم السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي ، وخلقت طبقات شعبية فقيرة لا حول لها ولا قوة ، عاشت على هامش التقدم العلمي والتطور الاجتماعي ، وأهدرت كراماتها وسحقت في أفكارها وآرائها ، وتركت فريسة للفقر والجهل ونمت عندها فكرة الانتقام والثأر والتي استثمرت جزئيا من جانب القوى والمنظمات الإرهابية في فرض واقع متأزم بعيد عن صيرورة الحياة الطبيعية لهذه الشعوب.
هذا ما أفرزته سياسات هذه الأنظمة الاستبدادية مع كل الإدعاءات القومية من جانبها ، في التحرير والسيادة الوطنية دون أن تحرر شيئا ، أو تحافظ على السيادة الوطنية .
لهذه الأسباب انتشرت الثورات على امتداد الساحات العربية في شمال أفريقيا والشرق الأوسط كانتشار النار في الهشيم مكتسحا أمامها قلاع الظلم والتسلط ، وسقطت بعض الأنظمة ، وتنتظر الأخرى مصيرها المحتوم أمام غضبة الشعوب الثائرة لتدخل المنطقة في عصر الحريات والديموقراطية ، وتستعيد الشعوب كراماتها ومصيرها ومستقبلها بيدها .
كان لا بد من هذه المقدمة من أجل فهم أفضل لما يجري على امتداد ساحة المنطقة ، ولماذا تصر الناس بصدورها العارية على مواجهة آلة القمع والقتل ، وتدعوا إلى التغيير الدموقراطي ؟
لا شك أن حكم الاستبداد والتسلط طوال هذه العقود ، قد سحق الناس سحقا ، وفتح جروحا عميقة في ضمير ووجدان الجماهير المسحوقة والمقموعة ، وما كان من وسيلة للخلاص إلا بانتفاضة ثائرة وأصيلة خرقت حواجز الاضطهاد والقمع التي مارسته الأنظمة عبر السنين .
وحيث أن الوضع في بلدنا سوريا ، قد وصل إلى ما وصل إليه من تعقيد وتأزم ووضع اقتصادي منهار وبطالة متصاعدة ، ومستوى عال من الفردية والاستئثار السياسي بالقرار من جانب حزب البعث ، وثقافته العنصرية ، وإقصائه لكل من خالفه الرأي ، فإن امكانيات الإصلاح قد فات عليه الزمن ، وأصبح الحل الوحيد بالتغيير الديموقراطي الحقيقي ، وتداول السلطة ، ويناء الدولة الوطنية .
فسوريا دولة متعددة القوميات وتتشكل بالأخص من القوميتين الرئيسيتين العربية والكردية ، إلا أن الحكم كان فرديا ومن طرف واحد ، وهذا الطرف انتهج نهجا عنصريا شوفينيا تجاه الشعب الكردي وأقصى حركته السياسية من المشاركة في السلطة والقرار ، وفرض مشهدا وحيدا على كل مكونات الشعب السوري الذي بات أسير الفكر الشمولي المفروض بقوة الأجهزة الأمنية المتعددة والاعتقال والسجون ، ومن طالب بإصلاح الحالة المأزومة ودعا إلى الديموقراطية والحريات العامة للشعب ، زج في السجون وعوقب بأحكام جائرة وصلت إلى أكثر من عشر سنوات .
وهكذا تحول الوضع مع مرور الأيام إلى شكل رتيب من الممارسة السياسية يكرر نفسه باستمرار ، واقتصاد ضعيف وبطالة متفشية ، وتعاطي سياسي باهت ليس فيه إلا وجهة نظر وحيدة غير مفيدة وعقيمة ، ومعارضة لا حول لها ولا قوة بسبب شدة ضغوطات الفكر الشمولي الذي حرم البلاد من وجود نخبة سياسية أصيلة تتفاعل فيما بينها وتؤكد وجودها بحرية واطمئنان .
واستند النظام أو استفاد في استمرار بقائه على وضع دولي كان يرى فيه عامل استقرار بالنسبة لبعض مشاكل المنطقة ، وكان يحتاج إليه لهذا السبب ، رغم انتهاكات النظام لحقوق الإنسان الفردية والجماعية ، ورغم كونه نظاما غير ديموقراطي .
إن أهداف النظام تنحصر الآن في بضع خطوات من أجل احتواء الوضع المتفجر والسيطرة من جديد ، وإطالة عمره مستفيدا من محدودية الانتفاضة وضعف الحراك الشعبي المقموع بالقوة ، ومن ضعف الموقف الدولي غير الحاسم حتى الآن :
1- استعمال القوة المفرطة ضد الثورة الشعبية غير المنظمة حتى الآن ، عن طريق إنزال الجيش واستعمال الدبابات والقتل الواسع للناس واعتقال المئات يوميا ، وفرض الخوف ، رغم الطابع السلمي للمظاهرات الشعبية .
2- إجراء حوارات في المحافظات لا طعم لها ولا لون – رغم عدم جدواها – بهدف إلهاء الناس وإطالة مدة الحوار عسى أن تستجد ظروف طارئة تأتي لمصلحة النظام ويقوي من معنوياته .
3- إجراء إصلاحات لا تمس جوهر النظام السياسي بسبب فقدانه لمقومات الإصلاح أصلا ، بل تطال مجالات أخرى ليس لها أي تأثير في الحياة الاجتماعية والسياسية على مستوى ساحة الوطن .
4- إرسال إشارات الطاعة للقوى الدولية والتفاهم معها ، وأنه مازال عند حسن ظنها ، ولو على حساب الشعب السوري وحياته الكريمة المنشودة .
بهذه العقلية تتعامل السلطات مع الوضع الداخلي الحالي ، وهي لم تقتنع ولم تخرج حتى الآن من شموليته والنظر بعقلانية إلى ما يجري ، ولذلك فإن كل خطواته احتوائية ليس إلا .
وإذا أراد النظام أن يجري حوارا حقيقيا يؤدي إلى الاستقرار والسلم الأهلي ، فعليه أولا أن يقبل بحوار صادق وجدي ، على قاعدة التغيير الديموقراطي الحقيقي المؤدي إلى تداول السلطة ، وصولا إلى الدولة الوطنية التي تحفظ حقوق الجميع في العيش المشترك والحياة الحرة الكريمة .
وعلى هذا الأساس يجب اتخاذ الخطوات الآتية :
1- توفير أرضية الحوار ، وذلك بوقف القتل والاعتقال ، وسحب الجيش والقوى الأمنية ، حتى يرتاح الوضع أولا ، وتعتقد الناس بجدية التوجه درءا للأخطار المحدقة ، والخراب المتزايد .
2- إطلاق سراح كافة المعتقلين السياسيين والحقوقيين وأصحاب الرأي والضمير ، ومن شاركوا في المظاهرات السلمية في الفترة الأخيرة ، ووقف الاعتقال السياسي نهائيا ، وتعديل الدستور بالاعتراف بكل مكونات الشعب السوري وخصوصا الشعب الكردي كثاني قومية في البلاد ، وأن سورية لكل أبنائها .
3- أن تكون مدة الحوار محدودا بزمن ، وسقف الحوار مفتوحا ، حتى لا تبدو أنها لعبة إلهاء ، وسرقة وقت ، انتظارا لظرف أفضل للنظام .
4- المعارضة هي التي تحدد أشخاصها ، وتتخذ فيه القرارات التنفيذية والملزمة للطرفين .
5- يدعى إلى مؤتمر وطني تشارك فيه كافة القوى السياسية والفعاليات الاجتماعية والنقابية وهيئات المجتمع المدني والمثقفون ومنظمات حقوق الإنسان ، يعلن فيه قرارات هيئة الحوار الوطني لتكتسب المشروعية والضمانة الوطنية ، والثقة والمصداقية .
6- لا بد أن يكون الوضع الكردي أحد مواضيع البحث ، والاقتناع بأن قضية الشعب الكردي هي قضية وطنية لا يجوز تأجيلها ، أو النظر إليها كموضوع من مواضيع الديموقراطية ، بل هي قضية قومية تخص ملايين الكرد الذين يعيشون على أرضهم التاريخية ، وليسوا مهاجرين قادمين ، أو مستوطنين جددا .
وعلى هذا الأساس ستستقر الأوضاع حتما ، وستتحول سورية دولة لكل أبنائها ، دولة الحق والقانون ، والتعددية السياسية والثقافية ، دولة الحرية والديموقراطية والدستور الجديد المعبر عن المكونات الأساسية للشعب السوري ، والسيادة الوطنية وحفظ حقوق الجميع .
وما يمكن أن يعزز من شروط الحوار عند حزبنا حزب آزادي الكردي في سورية والحركة الكردية ، هو تجذير موقفهما وتحسين مسار التعاطي مع الحالة الراهنة ، والاتفاق فيما بينها على موقف موحد في عملية الحوار على مستوى طموحات شعبنا ، حيث مازالت الحركة الكردية تستجيب لضغوطات السلطة أكثر من مساندتها للحراك الجماهيري والسياسي الداعي إلى التغيير الديموقراطي ، وهذا أمر يثير اللغط لدى قوى المعارضة العربية والجماهير الكردية على السواء .
فمن المؤكد أن المرحلة خطيرة وحاسمة وأي موقف سياسي كردي في الوقت الراهن يخرج عن طموحات شعبنا ويجانب حركة الشارع ، سيكون محل السخرية والاشمئزاز ، لأن النظام كان دائما – وعلى منوال متصاعد – يرفع من وتيرة الاضطهاد القومي ضد شعبنا ، وأي محاولة من جانبه الآن لإظهار حسن نواياه ، أو طلب لقاء مع الأحزاب الكردية ، ليس إلا محاولة يائسة لا معنى له ، وتهدف إلى فصل الحركة الكردية عن القوى العربية ، وعن مسار الانتفاضة والحراك الشعبي المتصاعد على مستوى البلاد .
***
بكل الفخر والاعتزاز ، أقدم شكري وامتناني إلى أهل كوباني (عين العرب) الكرام ، وإلى أهلي وأقربائي الذين قاسوا من أجلي الضغوط والقلق ، وتحياتي الحارة خصوصا إلى رفاقي المناضلين في حزب آزادي العظيم ، وإلى الرفاق في كافة أحزاب الحركة الكردية الذين شاركوا في استقبالنا ، وإلى كل الذين تجشموا مشاق السفر الطويل من معظم المحافظات والمناطق كردا وعربا متضامنين ومحبين – بعد خروجي من السجن إلى الحرية – وإلى الذين اتصلوا تلفونيا من الخارج .
إلى هؤلاء جميعا أرفع أسمى آيات المحبة والتقدير ، عرفانا منهم لمسيرتنا في الدفاع عن الحق والعدالة والديموقراطية وحقوق الإنسان ، والالتزام بالقضية القومية الكردية ، في هذا البلد الحبيب الذي أنكر نظامه السياسي الاستبدادي على كل أبناء الشعب السوري بعربه وكرده وسائر أقلياته ، هذه الحقوق المشروعة .
وشكرا للجميع.
6/6/2011
مصطفى جمعة