الرئيس يطلب العفو

إبراهيم اليوسف
elyousef@gmail.com

إذا كان الرئيس المصري المخلوع حسني مبارك، قد ألقى ثلاث خطب، على أبناء مصر- شنف بها آذانهم، وكانت ثالثتها الأخيرة، شأن خطب زين العابدين بن علي، الثلاث، شريكه، والسابق عليه، خلعاً في بلده، والأول عربياً ممن لاقي المصير المنتظر منذ زمان، بهذا الشكل المزري، في عصر ربيع الشباب الثائر الذي لا يحاول كثيرون فهمه، فإن مبارك كان يتحدث، خلالها، بروح عالية، وثقة لا تتزعزع، يستدرّ مشاعر كثيرين، متحدياً أن يديه نظيفتان من الفساد، وهو لم يسمح لنفسه بالاستسلام، طوال حياته، أمام غواية جاه أو مال، أو منفعة شخصية، وغير ذلك من متلازمة خطابه.
ومؤكّد أن أهل مصر أدرى بشعابها، وهم أكثر مقدرة على  تقويم الرجل، الذي يكفي الحكم على إقرار عقيلته سوزان بتلك المبالغ الهائلة من ثروتها الشخصية التي -تصدّقت- بها لجياع بلدها، أثناء السجن، والتحقيقات، التي أجريت معها، وهذا مؤشر، بل اعتراف كبير، على فساد تلك الأسرة التي ستكشف التحقيقات عن أرقام مالية، ووقائع أخرى، لا تزال طي التحقيق والكتمان.”
 
“مأثرة”مبارك –وأحترم مشاعر من تأذى بسببه، من أبناء بلده، هي ك “مأثرة” سلفه بن علي، لأنهما أمام خياري: “صدام حسين وشاه إيران”- وتسجل للطاغية معمر القذافي نبوءة تعرض الحكام العرب لمصير توأمه في الاستبداد صدام مستثنياً نفسه طبعاً وذلك في أحد مؤتمرات القمة العربية- أنهما اختارا طريقة شاه إيران الذي ضاقت به الأرض، بعد الثورة عليه، فيمّم وجهه إلى مصر، تاركاً عرش فارس، حيث أن كل هؤلاء- من تركوا كرسي السلطة في الوقت المناسب من الثورة عليهم- لأنهم عندما أدركوا جميعاً أن الشعب سينجر إلى مزيد من الدماء، لأنه يرفض استمرار إذلاله، وليس هناك من “عقد إلهي” مبرم يقضي بأن يكون هؤلاء خلفاءه في بلدانهم، وإن وجودهم على سدّة الحكم تمّ عن طريق الاستبداد، والعنف، وتزوير إرادة الشعب، وأصواته لتصل نسبة التصويت في صناديق الانتخابات إلى99و99 بالمئة الرقم الذي لو رشح نبينا محمد “ص” نفسه في أحد الجوامع، لما حصل عليه، وهذا ما دفع به، وبابن علي، إلى أن يتركا عرشيهما الذهبيين، بل إن أكثر ما يسجل لمبارك هو أنه -وأسرته- لم يختاروا أرضاً غير مصر، بالرغم من توجيه الدعوات إليهم للإقامة في أكثر من بلد.

وإذا كان الفساد والاستبداد، درجاتٍ، فإنّه للإنصاف فقد استطاع الشعب المصري أن يكرّس تقاليده الاحتجاجية، بالرغم من السجون والمعتقلات، ولعلّ معرفة أن عمر حركة -كفاية- هو عشر سنوات، وإن هذه الحركة علمت الشارع المصري على الخروج إلى الشارع، إلا أن خطأ مبارك كان يكمن في عدم التقاط هذا التذمّر من أبناء شعبه، من أجل نهاية مناسبة له، أو من أجل تلبية إرادة الشعب، وهذا ما دفع بطمعه في أن يورّث نجله جمالاً الحكم، من دون ثمانين مليون مصري -من بينه تسعة وسبعون مليون مصري في أقل تقدير أجدر منه- وهو ما أدى إلى إشعال فتيل الثورة عليه، حتى وإن عدل عن ذلك في وقت سابق.

كما أن مبارك لم يختر النهاية الذهبية له، والتي كان يمكنه القيام بها، ليعفو الشعب عما ارتكبه من انتهاكات فظيعة، يندى لها الجبين في عهده.
ومادام أن الاستبداد درجات، فإنني لأتذكر –أثناء زيارتي إلى القاهرة في العام 2008 في شأن حقوقي ذي علاقة بالإعلام، بأن منظمات حقوق الإنسان فيها كانت مرخصة، ولها صوتها، وإن من بيننا -كسوريين- حين كان يشير-بخوف- إلى الفساد لدى الرموز الكبيرة في العالم العربي، كان يشير إلى حالة مصر، وحكومتها، بل ورئيسها، ونحن في قلب القاهرة، وللطرافة فإن السيدة بثينة شعبان ترافق حضورها معنا، في الفندق الذي نزلنا به “وهو فندق شبرّت”- فرفضت الجلوس على طاولتها في كافتريا الفندق، عندما هرع إليها بعض زملائنا، ومنهم من كان يعمل في الصحف السورية الرسمية، أو المسموح بها، وكان ممن هرعوا نحوها زوجة معارض عتيق – التقيته في مؤتمر باريس2004- ترك البلد منذ 35 عاماً، وإن كان زوجها قد وبّخها على ذلك، كما روى لي ذلك صديقي المناضل عمار قربي، بل وكان ممكناً السخرية من مبارك نفسه في الصحافة المصرية -كما روى لي أحد أبنائي – بأن صحيفة مصرية نشرت أثناء تواجده في مصر خبراً، بالخط العريض، في أعلى أول صفحة منها، يقول بتهكم عال: يا عالم ليه ماتصدقوش الرئيس حي يرزق- وغير ذلك جدّ كثير، ويعرفه غيري أكثر مني، بل ولعلّ الصورة الأروع -مصرياً- أن معارضتها استطاعت أن  تؤمن للمتظاهرين أن يخرجوا إلى الساحات- من دون أن تتم محاصرتهم، إلا بقطع “الإنترنت” لبعض من الوقت- وليس الماء، والطعام، والأدوية، وعدم مقدرة نقل الجريح الذي يئنّ في الشارع إلى أي بيت قريب، لئلا يلحق به – ولا أن يتمّ محاسبة من يقدم الصندويتش للممتظاهرين بالسجن، وكان جمّالو الوقعة/ العار، أنبل من شبيحة سوريا، ويمتطي الأطفال الدبابات، ويلاعبهم العسكر، ويقدمون لهم السكاكر والورد، وهم يرددون هتافاتهم، لا أن يحصد الرصاص روح من يهجم على الدبابة، وهو في سن الثامنة، كما حدث مع ابن المعتقل خالد عوض العمر، الذي صرخ، وهو أعزل، في وجه العسكر ودباباتهم، التي تحاصر بلدته “نمر” في درعا، احتجاجاً على اعتقال أبيه وأعمامه، فسربل رعاة الطفولة والبراءة جسده بالرصاص.
إن آخر ما صدر عن مبارك -كما تناقلت ذلك وسائل الإعلام -هو أن “رجا” بالسماح له بأن يلقي كلمة – من سجنه الذي يخيل لي فيه أنه يتناول فيه  الكشّري الذي هجره منذ نصف قرن- على الشعب المصري، يستميحه العفو على ما ارتكبه بحقه من فساد، وإفساد، وما نسب إليه من تحريض على القتل للأبرياء، أصحاب الرأي، والموقف، بعد أن كان يظنّ بأن مصر حظيرة له، وهو شعور تمّ- بالرغم من التعاطف الإنساني من قبلي الآن معه كما قد أفعله مع من سيقتلني وأنا أراه في لحظة إذلال يستحقها- في غير زمانه ومكانه، وكان عليه أن يتمّ من قبله، مع أولى صفعة من قبل جلاد أمني، مرتزق، على خد مواطن، شريف، معارض، وطالب حق، أو مع أنين أي طفل جائع تهدهده أمه، لينام ليلته في مقبرة، من دون غطاء وكسرة خبز، ولن أسترسل في سرد الكثير من المعاناة والمظالم التي لقيها أبناء مصر الأباة، الذين لا يفتؤون عن كتابة تاريخهم الجديد بأقلام شبابهم، بدلاً من التاريخ الزائف الذي طالما ألزم طلاب المدارس على تلقيه في مدارس التدجين.
 
ولقد أظهر الشريط الإخباري –أمس- في إحدى الفضائيات أن هناك قراراً مصرياً صدر بإزالة “آثار” مبارك، وعقيلته، ونجليه المعتقلين، عن كل الشوارع، والأماكن، التي كانت “تخلدهم” وتبين مكرماتهم، وأياديهم “البيضاء” على الشعب الذي لا يعجبه العجب، ولا يستحق كل هذه الرعاية والإحسان والحب من قائده، وسيدته الأولى، وولي عهد بلده، لأن الخلود الحقيقي، لأي حاكم، تتم بعد تنحيه، ورحيله، وموته، وزوال شوكته وسطوته، لا أن تتم تحت  سطوة قبضة استبداد مخابراته.

إن معضلة الحاكم العربي تكمن في أنه يريد أن يصدق جوقة المنتفعين والموالين له، بل يصدقها في قرارته…..

ليعزز ذلك عبر آلته الأمنية، ويعتبر أن الشعب جزء من إقطاعيته العظمى – وعظمة آبائه وجدوده الأباطرة، على أنه مغاير، ولعلّه يرفض أن يعترف في قرارته بأن مكانته الإنسانية –كما هي الحقيقة مع أي منا- لاتتعدى مكانة ماسح الأحذية نفسه، وليس بأفضل مقاماً عند الله والعباد، منه أو من أحد، في درجة الإنسانية والوطنية، وإن هيبته مكرّسة بالنار والحديد، بل وسيظل أقلّ شأناً من مقام ماسح الأحذية في ما لو أخلّ بواجبه الوظيفي، وهي وظيفة -ليست إلا..- وإن كان وفاءه لوظيفته  سيرفع من مقامه، ويجعله موظفاً أميناً في بلده، كما أن أهميته هذه لن ترتقي إلى مستوى من يفتح صدره للرصاص، على حدود الوطن، ليصد الغزاة، أياً كانوا.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

صلاح بدرالدين في البلدان المتحضرة التي يحترم حكامها شعوبهم ، وعلماؤهم ، ومفكروهم ، ومثقفوهم ، تولى مراكز الأبحاث ، والدراسات ، ومنصات الحوار الفكري ، والسياسي ، والثقافي ، أهمية خاصة ، وتخصص لها بشكل قانوني شفاف ميزانية خاصة تبلغ أحيانا من ١ الى ٢ ٪ من الميزانية العامة ، وتتابع مؤسسات الدولة ، بمافيها الرئاسات ، والوزارات الحكومية…

إبراهيم اليوسف لا ريب أنه عندما تتحول حقوق الإنسان إلى أولوية نضالية في عالم غارق بالصراعات والانتهاكات، فإن منظمات المجتمع المدني الجادة تبرز كحارس أمين على القيم الإنسانية. في هذا السياق، تحديداً، تأسست منظمة حقوق الإنسان في سوريا- ماف في مدينة قامشلي، عام 2004، كردّ فعل سلمي حضاري على انتهاكات صارخة شهدتها المنطقة، وبخاصة بعد انتفاضة آذار الكردية 2004. ومنذ…

عنايت ديكو   الوجه الأول: – أرى أن صفقة “بهچلي – أوجلان” هي عبارة عن اتفاقية ذات طابع أمني وجيوسياسي بحت، بدأت معالمها تتكشف بشكل واضح لكل من يتابع الوضع عن كثب، ويلاحظ توزيع الأدوار وتأثيراتها على مختلف الأصعدة السياسية، الأمنية، والاجتماعية داخل تركيا وخارجها. الهدف الرئيسي من هذه الصفقة هو ضمان الأمن القومي التركي وتعزيز الجبهة الداخلية بجميع تفاصيلها…

اكرم حسين العلمانيّة هي مبدأ سياسي وفلسفي يهدف إلى فصل الدين عن الدولة والمؤسسات الحكومية ، وتنظيم الشؤون العامة بما يعتمد على المنطق، والعقلانية، والقوانين الوضعية بدون تدخل ديني. يتضمن مبدأ العلمانيّة الحفاظ على حرية الدين والمعتقد للأفراد، وضمان عدم التمييز ضد أي شخص بسبب دينه أو اعتقاده. تاريخياً ظهرت العلمانية مع اندلاع الثورة الفرنسية حيث خرجت الطبقة البرجوازية…