إن ما شجعهم على تجاوز شرط التعارف أولاً، هو حرمانهم التاريخي من التعبير عن واقع يعنيهم، وفي هذا ربما يجد عالم الاجتماع والمحلل السياسي وحتى الاثنوغرافي، على الأقل، ما لم يكن ساري المفعول في عالمهم البحثي المشترك: الحدس الاستباقي في كهانة اُعتمدت في زمن سالف، مقابل ما هو معروف هنا وهناك في لغة الشعوذة بـ” ضرب الرمل”،
إنه حرج المسكون بأجهزة المراقبة والمرافقين الفعليين أكثر من هذه الدسيسة الصاعدة بقواها المقلقة له، وهي تسمّي عالماً كاملاً من المقهورين في مجالات كثيرة، وكأن الفيسبوك هذا كان المنتظََر منذ زمان طويل كما هو وضع إمامته الكاريزمية.
ليس لدى الفيسبوكي إلا ما يتصوره أو يتخيله من خلال الفسحة المرئية، وهو إذ يفعل ذلك، فلأن الذي يعزّز موقفه هو إيمانه بأن داخل الفسحة المرئية مجالاً واسعاً، حيث تتنوع الأصوات التي تستجيب له، أو يمكنه مخاطبتها.
هنا يسهل الحديث عن ورود الأصوات الغاضبة وهي تشكل مجتمعها الفيسبوكي، تجمعها إرادة تحدٍّ واحدة، هي توجهها من خلال توزعها في نقاط متباعدة إلى درجة أنها تتعدى حدوداً وأقاليم جغرافية، هي كيفية التأثير في المجتمع الذي يعنيها معاً، تحت ضغط واجب ٍتعتبره في سلَّم الأولويات، وهو التأريخ للحظة التي يتوقف عندها تاريخ وينبني تاريخ آخر، إنه تاريخ أصواتهم الغاضبة أو الساخطة كما لو أن ثمة أرضاً موعودة تنتظر ظهورهم واستقرارهم فيها، مندفعين بسريان فعل مشاعر وأحاسيس ورموز تصل ما بينهم من خلال تراسل انترنتي، وما يدخل في حُمَّى التراسل من تعميق للفكرة التي تتشكل بصيغ شتى.
إنهم بذلك يعبّرون عن تاريخ ماضٍ لم يكن يعبأ بهم، سواء كانوا هم أنفسهم أو أولئك الذين أسلسوا لهم القياد الفيسبوكي ليكون لساناً ناطقاً باسمهم، وليبرز هذا التسريع في وتائر الخطي تعبيراً عن كبت جمعي ما، عندما ينظَر في البنية التركيبية أو التأليفية لما يشددون عليه، وربما مع أقل مراعاة لما يمكن أن يحصل على أرض الواقع، منطلقين من عدم تكافؤ القوى القائمة، وحتى أنهم لا يخفون شعورهم المأسوي بوقوع الضحايا مسبقاً، تقديراً للأمل الذي يكثف فيهم طاقاتهم، وانطلاقاً من المواقع النوعية: ما يبثونه من صيغ نداءات تدعو إلى تجييش وعي شارعي، وجمهرة الآخرين، وتأثير ذلك في ذوات الذين لم يعهدوا سماع أو قراءات صيغ استنهاضية كهذه، وتبلبل وعيهم لحظة تبين التفاعل الممتد في مساحات تغطي جهات مختلفة، دون معرفة نوعية القوة المعدة للنزال، مقابل ما يمكن لهؤلاء الذين يمثلون السلطة أو جبهة مواجهة رسمية أن يعتبرونه حربهم ضد الإرهاب أو التخريب المتعدد في مغذياته وروافده.
إن الفيسبوك يظهر فعلَ تحريض على وضع قائم مزمن، وتطهير مما هو انتكاسي، وتثوير لجملة إرادات متلاحمة، وما فيها من أخلاقية الصدمة، وإيذان بضرورة تحويل مسار النظر في تاريخ خطّي!
في أخلاقية الفيسبوك لا مجال إطلاقاً للغة الإملاءات، ثمة نوع من المشاعية في القوى التي تعرض سلعها الرمزية: الكلمات والصور الفعلية والمركَّبة، حيث ترتد مقولات مثل النزاهة وأدبيات الحشمة والمصداقية والورع والعُرف الاجتماعي…الخ، ليس إلى الوراء فقط، وإنما لا يعود لها من حضور.
إن ما تؤذن بحلوله المجتمع الفيسبوكي هو وضع النسبيات والمتحولات بالتالي في كل شيء، فلا إمكان لأن يطرح أي كان نفسه باعتباره المتقدم على الآخر، لأن ثمة اعتباراً عشائرياً أو وجاهياً له يبرر له ما يريد التفوه به.
ثمة لغة واحدة هي التي تخلق مجتمعها اللامرئي، هي مدى قدرة الفيسبوكي على لملمة همم الذين يعيشون كبتهم، أو ما لم يستطيعوا إظهاره إلى الملأ، وبعثرة القوى التي تسمّي سلطتها الواحدية، اعتماداً على سلطة الخفاء، وكأن رهان الذي يتمسك بموقعه السلطوي أو نفوذه السياسي، هو مدى تمثله للحقيقة التي تزكّيه لدى نظيره وقد أحيط بكم وافر من الصور أو العبارات.
ثمة شهادة حسن سلوك رحالة، يروّج لها الفيسبوك بحق أي كان، وهي شهادة قد تتلون برغبات سوقية، ولكنها لا تعدم أهميتها، حتى لو غُض الطرف عنها.
الفيسبوك مجتمع المشهدية التي لا تترك أحداً يعيش مطمئناً في بيته، طالما أنه يشعر أن ثمة ما يخرجه من صمته، أو يرصده في حركاته.
إن الفيسبوكية وإن لم تتمكن من إقلاق راحة المتنفذ إلا أنها لا تدعه وشأنه، نظراً لفعلها السحري في استنطاق الصامت المغيب.
من يحرج من إذاً؟ الفيسبوكي المغامر لا يملك إلا روح المغامرة إزاء المثقَل بما هو دنيوي وشهوي سلطوي!
لا يتعلق الحديث إذاً، بعدَّاد اجتماعي أو إنساني عام، يصنَّف فيه هؤلاء الذين أخرجهم الفيسبوك من ظلمة لا يخطئها الملاحظ الاجتماعي والرقيب الاجتماعي الصارم، والقيّم على أخلاقية القطيع…الخ، إلى نور المجاهرة بمطالب يجري الاستعداد لها بعد حين مباشرة.
ثمة علاقات نسَب كثيرة بينهم، من إقصاء واستخفاف بهم، ولامبالاة تجاههم، والعبث بقواهم وحتى احتقارهم والنيل منهم تبعاً للمواقف القائمة، يلتقي في هذا النطاق من لا يحسن كتابة جملة مفيدة في الواقع، لأنه مصاب بخرس اجتماعي لعلة عنف موجَّهة، ولكنه يمتلك حساً مأهولاً بأكثر من معنى بما هو منهوب فيه، ومن يحسن التنميق في الكلام، ومن لديه باع طويل في نسج خطابات لا تخفي طابعها التعبوي أو التجييشي لبشر أُفقِروا وزُج بهم في زوايا ميتة، وانتظروا قيامة ما تأخذهم صوب مواقع تليق بهم، محرجين الذين بًوصَلوا مجتمعاً كاملاً بلغة التعتيم والتصريف القسري بقواه الحية.
إن ما يجري هنا هو محاولة توصيف لهذه القيامة الفيسبوكية عربياً قبل كل شيء، والإنذار الموجَّه إلى الذين آثروا طويلاً احتكار البلاد والعباد، عبر وضع قواعد وأجهزة مختلفة في خدمتهم، كما هو الممكن تلمسه في حراك فيسبوكيينا، وهم يقلبون القاعدة المعتادة، كما لو أنهم يقولون بصوت واحد: لم يعد الجاري في المجتمع ممكناً.
لا بد من التغيير إذاً!
العزلة بمفهومها العتيق تلاشت،على الأقل، لحظة النظر في اندفاع هؤلاء المحكومين بالعزلة القسرية أو الاضطرارية إلى واجهة الأحداث، وما لا تخطئه العين الميدية في ألوانها الفعلية وزلزلة اليقينيات الكبرى.
إن العنف الملحوظ من الأعلى هو الذي يشي بقوة المارد الفيسبوكي!