المسافة بين النظام والشارع في سوريا تتسع يوماً بعد آخر، وهي كالمسافة بين شفرتي المقص، كلما اتسعت كلما ازدادت خطورة…كل خطوة يتخذها النظام لاحتواء الموقف ووقف التدهور، تزداد هذه الفجوة اتساعاً، وتضيف إلى قائمة المدن والقرى المنتفضة، قرى ومدن جديدة…كل خطوة يخطوها النظام، ترفع من سقف المطالب والشعارات التي يرفعها المتظاهرون…آخر نماذج هذه السباق، محسوم النتائج سلفاً، ما حصل بالأمس، في يوم الجمعة العظيمة، حيث ثبت أن كل ما أقدمت عليه السلطات، لم ينجح في وقف هذا السباق….تظاهرات سوريا بدأت بشعار “الحرية” و”الشعب السوري ما بنذل”، وهي تطورت أمس إلى شعار “الشعب يريد إسقاط النظام”
لكن مع ذلك، فإن التغيير الشامل في سوريا لا يبدو وشيكا، وقد لا يكون قليل الكلفة، نظراً لتركيبة البلاد والعباد…مع أن من يتتبع شعارات الشارع السوري المنتفض، يلحظ وعياً متزايداً لأهمية الحفاظ على الوحدة الوطنية وصيانة النسيج الاجتماعي السوري المركب…بهذا المعنى، تبدو التجربة السورية مختلفة عن التجربة المصرية، وهي بهذا المعنى، ستكون تجربة متفرّدة.
الحدث السوري، بخلاف ما حدث في عدد من الدول العربية، مثير للارتباك، إقليمياً ودولياً..هنا لا توجد أجوبة قاطعة على أسئلة الحدث الأساسية…هنا السؤال يستنسخ أسئلة بدل أن يستدعي إجابات شافية….الغرب بزعامة الولايات المتحدة، يكتفي بالتحذير من الاستخدام المفرط للقوة ويحث على الأصلاح، لم يقل أحدٌ بعد أنه يريد رحيل النظام أو يدعوه للرحيل…في المقابل، لا أحد يستمسك أو سيستمسك بأهداف النظام الذي طالما نُظر إليه، كواحد من دول “محور الشر” أو “الدول المارقة”.
عرب الاعتدال بزعامة السعودية، حائرون، فهم يريدون تغيير النظام على أمل انفراط عقد حلف طهران ومحورها، ولكنهم لا يعروفون من سيخلفه، وما إذا كان التغيير في سوريا سيخدم هذه المعسكر أم سيزيد في عزلته وتأزمه….هذا المعسكر منقسم على نفسه، البعض يعتقد أن رحيل النظام في مصلحة، بل ويبدو ضالعاً في تحريك قوى مناهضة للنظام السوري، لكن أطرافاً أخرى، تخشى تداعيات “مبدأ الدومينو” وتتحسب لما يمكن أن تكون عليه صورة سوريا ومستقبلها….حتى قطر التي ارتبطت بعلاقة مميزة مع سوريا، وضعت نفسها على مسافة واضحة منها في الأسابيع الأخيرة.
إسرائيل التي استنفرت دفاعا عن نظام مبارك، ومبارك شخصياً، حتى آخر لحظة وقطرة…ترقب المشهد السوري عن كثب، محللوها يقولون بالحرف الواحد: “شيطان عرفناه، خير من شيطان لا نعرفه”…دبلوماسيتها لن تُستنفر كما فعلت زمن ثورة 25 يناير المصرية، ولكنها لا تكف عن التحذير من المخاطر الناجمة عن “قفزة سورية في المجهول”.
إيران قلقة للغاية على مصائر الوضع السوري…دمشق كانت العاصمة العربية الوحيدة التي احتفظت بعلاقة استراتيجية مع طهران طوال العقود الثلاث الأخيرة…حتى عندما وقفت جميع الدول العربية ضد إيران / الثورة، كانت سوريا تقيم علاقة تحالف معها…العلاقات السورية الإيرانية تطورات في عهد الرئيس بشار الأسد، وإيران اكتسبت دوراً متزايداً في الشرق الأوسط بفعل هذه العلاقة، ومن دون سوريا الحليفة، سوف يتراجع دور إيران وأصدقائها في لبنان…إيران ستكون في صدارة الخاسرين من التغيير في سوريا، إن وقع.
تركيا المتطلعة لدور كبير في المنطقة، عبر البوابة السورية، قطعت مع نظام الأسد، الأب والابن، أشواطاً طويلة على طريق التعاون الاستراتيجي متعدد المجالات والميادين، تركيا تخشى انعكاسات التغيير على “تفاهماتها” السياسية والأمنية مع النظام دمشق، تخشى انعكاسات التغيير على مصائر المسألة الكردية والنزاعات المائية والحدودية بين الجانبين، فضلا عن المخاوف من انعكاسات التغيير في سوريا على مستقبل الدور الشرق أوسطي لأنقرة.
خارج إطار الدول والمحاور والمعسكرات، هناك حركات فاعلة، ترقب عن كثب مجريات الوضع السوري الداخلي، بالأخص حزب الله وحركة حماس….حماس بلا شك خبرت التعامل مع نظام الرئيس الأسد، وهي مرتاحة للتعامل معه، وربما تفضل بقاءه، بيد أنها تعرف تمام المعرفة، أن النظام القادم في سوريا، إن حصل التغيير، لن يكون بعيداً جداً عن المكوّن الإخواني، النظام الجديد قد يأتي أيضاً بحلفاء لحماس واصدقاء لها من نفس طينتها السياسية والفكرية، لذا أحسب أن قلق الحركة محدود، بخلاف الحال مع حزب الله، الذي سيكون على الأرجح، أكبر الخاسرين برحيل نظام الأسد، ومعه مروحة واسعة من الشخصيات والمجاميع الصغيرة التي تدور في الفلك الدمشقي.
التغيير في سوريا عند حصوله، ستكون له تداعياته الكبيرة على دول الجوار…من العراق إلى لبنان، مروراً بفلسطين والأردن…فدمشق كالقاهرة وبغداد، من العواصم التي إن نهضت نهض جوارها، وإن كبت كان لكبوتها انعكاس مباشر على مروحة من دول الجوار…حمى الله سوريا.