عبد الرحمن آلوجي
منذ ربع قرن كنا في اجتماع يضم نخبة من كوادر البارتي في قيادة التنظيم , في وقت كان الصراع يشتد حول مفاهيم تتمحور حول أدلجة البارتي وربطه بقيم ومفاهيم غلب عليها طابع الفكر اليساري ( الجدلية , حتمية الحل التاريخي , دكتاتورية البروليتارية , النفي ونفي النفي والإثراء , نظرية هيكل ومفاهيم الاقتصاد الانكليزي , ومصادر الاشتراكية العلمية …) ومدى كل ذلك في رفد البارتي بمنطلقات وثوابت نظرية , وسرعة عجيبة في تقبل المفاهيم وإسقاطها على واقعنا النضالي
أذكر تماما ذلك الجدل المحتدم , ومدى ارتباط ذلك بخصوصيتنا القومية وتراثنا الثقافي والنضالي , وما يمكن أن يلعبه من دور في أدلجة الفكر القومي , والاستفادة من معايير هذا التراث , وعلى رأسه تراث البارزاني الخالد كعصارة لفكر تحرري كوردستاني يبدأ ﺑ (سيد طه النهري) ويمر عبر ( الشيخ سعيد بيران ) وينتهي عند ( القاضي محمد ) الذي سلم الراية الكوردستانية للبارزاني مصطفى , والذي استطاع عبر نضال دام ومرير أن يمضي بتلك الراية مرفوعة ساخنة مدوية في الآفاق , مع أزيز الرصاص وهو يمتشق دفاعا عن حق مسلوب وإرادة كوردستانية مقهورة …
احتدم الجدل بيننا حول مفهوم النهج ومدى انطباقه على ما خلفه البارزاني الخالد من ملاحم بطولية على مدى متصل وفي بقاع مختلفة من كوردستان , حيث أنكر بعض المتثاقفين ( المتطرفين من سذج الحركة ) أن يكون للقائد الأسطورة نهج واضح , وفلسفة ذات رؤية متماسكة يمكن أن تترجم إلى نهج نضالي محدد , وقد كان محور النقاش يدور حول ضرورة تحديد المعنى من هذا المصطلح ومدى انطباقه على تاريخ نضالي حافل للأسطورة الخارقة التي تمثل في صلابة منقطعة النظير ..
وعلى الرغم من احتدام الجدل حينذاك تماسكت خطوط التعابير , وانفض الاجتماع عن رؤية واضحة تجسد مفهوم النهج الذي يرتد بطبيعته إلى مفهوم لغوي يعني السبيل والطريق , وقد سلك البارزاني الخالد طريقا وعرة وشائكة أولا , كما أدرك بحسه الرهيف معالم هذا الطريق بداية ومنتهى , كما أبصر بحنكة القائد الملهم أهدافه وغاياته , وهو يسلك هذا السبيل بأدق مفرداته وأكثر التفاصيل شفافية ووضوحا , فهو لا يقاتل من أجل القتال ولا حبا به بل يسلك إليه مختلف السبل ليتجنب خوضه ويلتمس السبل الواضحة إلى كل مقومات السلم وإقرار الحقوق العادلة مدركا أبعد التفاصيل فيما يريده, يقول دانا شميدث :” كان البارزاني مصطفى يخرج بقرارات مكثفة تعجز عنها كبريات المؤتمرات …”
وهو إذ ينشد السلام يفرق بدقة متناهية بين وعد معسول وآخر موثق ومكتوب, مدركا مبلغ غدر من يقابله من الحكومات المتعاقبة ومدى استهانتها بما تعد , ولكنه بحس فطري بالغ العبقرية كان يحتفظ بكل وثيقة لتكون شاهدا على التاريخ النضالي لقائد يمثل أمة معذبة عريقة , احترمت مواثيقها ووعودها وحافظت على أسراها , وخاضت قتالا مشرفا بقيادته مثلت نصاعة ثورة نظيفة وبراءتها المطلقة من الدماء البريئة , رجالا ونساء وأطفالا , على الرغم من شراسة وحقد من يقابلهم في ميادين القتال وحول منصات التفاوض .
لقد كان ذا نهج واضح الفلسفة , بعيد النظر, عميق التوجه يؤمن بالديمقراطية للعراق والمنطقة ويرى من خلال هذه الفلسفة الإنسانية العريقة ضمان حقوق شعبه وهو ما حدث بالفعل بعد أربعين عاما من إطلاقه شعار: ( الديمقراطية للعراق والحكم الذاتي لكوردستان ) .
ولقد تجلى في هذا النهج بكل أبعاده ومفاهيمه و منعطفاته أسلوب حياتي متنور ومتفهم لفلسفة العصر , ومدارك سياسته , وأبعاد السلام وما في الثورة التحررية من مفاهيم وتطبيقات يمكن أن تكون أساسا للوئام بين الشعوب ومنطلقا لبناء الثقة , ومنعرجا إلى حياة مستقرة تتجلى في احترام حقوق الإنسان والبعد عن إلحاق الأذى بغير المقاتلين , وتوثيق عرى الجيرة بين مكونات وأطياف الشعب العراقي بصيانة أرواحهم وممتلكاتهم ومزارعهم وتقديم العون للمنقطعين منهم في أعماق كوردستان , مما أضفى على ثورته طابعا عراقيا شاملا حيث سقط عشرات البيشمركة شهداء من العرب والآشور والكلدان , مما تنضح بعبقهم وأريج دمائهم صفحات هذا النهج الخالد مما لا يمكن أن نحيط به على عجالة ليدحض مزاعم أولئك السذج ممن لم يدركوا عمق هذا التاريخ الحافل ولم يستطيعوا أن يلموا بتفاصيله والتي رمز بها إلى السلام في مركز السلام في واشنطن بعد أن اختير هذا الاسم اللامع من بين ثلاث وثلاثين شخصية عالمية مرشحة لأكبر الديمقراطيين في العالم , حائزا بذلك وبعد وفاته بعقود من الزمن على أرفع وسام يخلد هذا النهج الذي يمكن أن يكون حكما عادلا ومنصفا للحركة الكوردية في كافة أجزاء كوردستان سلما ومدنية وديمقراطية واعتدالا ورمزا نضاليا شامخا , وعلما يهتدى به في مدلهمات الأمور ونوائب الدهر حينما تشتد الحاجة إلى منقذين طاهرين أبرار يقفون في هامة الشموخ النضالي ليكون للبارتي في سوريا منبر إلهام , وذخيرة نضال وشعلة مضيئة يستنار بها في أعماق الدجنة , وسراديب الاضطراب الفكري والسياسي داحضا بذلك مزاعم لا تزال قائمة حيث يجد بعض الساسة فيه بعدا عن الواقعية, أو خوضا في الشعاراتية أو بعضا من اللبس وانعدام الوضوح والافتقار إلى المنهجية والدقة العلمية مما يفرض على المنصفين من الباحثين أن يدققوا في طوايا هذا التاريخ الحافل , لجلال هذا النهج وعظمة امتداده في ثوابت الفكر الكوردي المعاصر, ووصوله مخترقا حواجز الزمان والمكان إلى جزر العالم وما وراء محيطاته , ليكون هذا النهج العملي الواقعي المرن في يقظته ووضوحه بالغ الدقة , شديد الرهافة ليكون مرجعا أساسيا وحكما عادلا في بلورة مسيرتنا النضالية , ومد ّ الجسور بين الشعب الكوردي وقواه المخلصة والواثقة بخطها النضالي المتميز , ليخترق فواصل الحدود الكوردستانية ويقف شاهدا حيا على عصر يتميز بالديمقراطية والعدل والحرية معالم في درب شامخ سلكه البارزاني الخالد بما ملك من كامل الطاقة حتى آخر لحظة في حياته المديدة العامرة والتي امتدت لتدخل سفر الخالدين .