المسالة الكردية في سوريا ليست مشكلة أحصاء بل قضية شعب وارض

د.إسماعيل حصاف
 

   تشكل القضية الكردية في سوريا واحدة من أبرز الملفات الساخنة والمزمنة التي تواجه البلاد منذ ظهور سوريا الحديثة في اعقاب الحرب العالمية الثانية وخروج الفرنسيين .

فقد توارثت الأنظمة المتعاقبة التي وصلت سدة الحكم هذا الملف ، وبدلا من أن تلجا الحكومات السورية إلى حل المسالة القومية الكردية تعزيزا للوحدة الوطنية وسد الثغرات أمام التدخلات الخارجية ،شهد الملف الكردي تعقيدا على يد الطغم الشوفينية العربية من العسكرتاريا والبرجوازية القومية الرجعية التي جعلت من قضية العروبة قميص عثمان حرصا منها على الحفاظ على كراسيها السلطوية التي بلغتها عن طريق الإنقلابات العسكرية .

وتجلى ذلك في بداية الأمر بتغيير إسم البلاد من الجمهورية السورية إلى الجمهورية العربية السورية وجاء ذلك في الدستور المؤقت الذي تمت صياغة مسودته بعد إنهيار الجمهورية العربية المتحدة في عام 1961 ، أطلق على سورية لأول مرة إسم الجمهورية العربية السورية ، أي أن إضافة الصفة العربية إلى الإسم يعني إنكار وجود الإتنيات الأخرى غير العربية في البلاد وفي المقدمة الكورد كثاني قومية في سوريا .

إضافة إلى ذلك قيام السلطات السورية بإعتقال قادة الحركة السياسية الكوردية .

ومن ثم جاء الإحصاء الإستثنائي لمحافظة الجزيرة إثر صدور المرسوم الجمهوري رقم (93) بتاريخ 23 آب 1962 والذي تقرر بموجبه إجراء إحصاء سكاني حصرا في  محافظة (الجزيرة) دون غيرها من المحافظات السورية.

وتم هذا الأحصاء في 5 تشرين الأول 1962 وكان من نتائجه تجريد أكثر من/ 120 / ألف كردي ويبلغ عددهم اليوم أكثر من 300 ألف مواطن كردي، أن هذه المسرحية المحبوكة جيدا لم تأخذ سوى بضعة ساعات .

ومن المدهش أنه كان من بين المجردين من الجنسية الأخوان: عبدالباقي نظام الدين الذي كان سياسيا في التيار السائد ووزيرا بين 1949 و1957 ، وتوفيق نظام الدين الذي شغل منصب رئيس أركان القوات المسلحة في عام 1956 – 1957،  ومن ثم جاء صدور كتاب الملازم الأول للأمن السياسي في الحسكة محمد طلب هلال الذي دعا فيه إلى إقامة مستوطنات في المناطق الكردية على غرار المستوطنات اليهودية .

أي أن المواقف السياسية للسلطات السورية تجاه الشعب الكردي في سوريا ، إرتبطت بتطور الأحداث في كردستان العراق .

    
      إن الدعوة إلى الوحدة العربية وتصعيد الشعور القومي العربي ، لم تترك فسحة كبيرة للأقليات غير العربية ضمن الترتيب السياسي ، وفي حقيقة الأمر أن إستلام حزب البعث بإنقلاب عسكري الحكم في العراق قد غير بصورة جذرية وضع حزب البعث في سوريا أيضا.

ففي الثامن من آذار 1963 إستولى حزب البعث على السلطة بإنقلاب عسكري في سوريا بعد شهر من إستلام بعث العراق السلطة في بغداد في 8 شباط .

وقد شهدت الشوفينية العربية صعودا في سوريا كما هو في العراق لمواجهة الحركة التحررية القومية الكردية في البلدين لاسيما بعد إندلاع ثورة أيلول  التحررية عام1961 ، ومما صعدت من ذلك هو أن السلطة الفعلية كانت بيد الجيش وكان الضباط الشبان يبنون عقيدة شوفينية قصيرة النظر ومعروفة بعدائها للكورد ، وفي هذا الإطار فإن الحركة الإنقلابية لحزب البعث في سوريا تجاوبت مع الروحية الشوفينية العربية التي كانت في صعود مستمر وإشتدت عودها وبتوجيه مباشر من أوساط البورجوازية القومية الحاكمة ، ووضعت البلاد أمام مرحلة تاريخية جديدة ، تركت آثارا سلبية على تقدم المجتمع السوري ، ووجهت ضربات مسمومة إلى الحركة القومية الكردية في سوريا ، حيث بدأت السلطات الحاكمة بوضع مخططات عنصرية تستهدف الوجود الكردي من خلال عمليات التعريب المنظمة ، ومعاداة الثورة الكردية في كردستان الجنوبية مما أجهضت بالتالي عملية التطور الطبيعي الديمقراطي في البلاد.


   تأسس حزب البعث في عام 1943 بإسم ” حركة البعث العربي ” ، وفي مؤتمره التأسيسي الأول في نيسان عام 1947 حدد إتجاه الحزب على أنه حزب عربي قومي وفي عام 1953 توحد البعث مع الحزب العربي الاشتراكي بقيادة اكرم الحوراني فأصبح إسم الحزب ” البعث العربي الاشتراكي وحسب المبدأ الأول من برنامج الحزب ، الفقرة الثانية – الأمة العربية وحدة ثقافية والفقرة الثالثة – الوطن العربي للعرب ولهم وحدهم حق التصرف بشؤونه وثرواته .


أما المادة (15) – من المنهاج – سياسة الحزب الداخلية تقول : ((الرابطة القومية هي الرابطة الوحيدة القائمة التي تكفل الإنسجام بين المواطنين وإنصهارهم في بوتقة واحدة وتكافح سائر العصبيات المذهبية والطائفية والقبلية والعرقية والإقليمية.

يتمحور سياسة حزب البعث حول صهر جميع الإتنيات القومية في العالم العربي ضمن القومية العربية ، ولتحقيق هذا الهدف جاءت المخططات الشوفينية لحزب البعث السوري ضد الشعب الكردي منذ توليه للسلطة مباشرة .
 ويعد مشروع الملازم الأول محمد طلب هلال رئيس الشعبة السياسية في الحسكة – الجزيرة تحت عنوان ” دراسة عن محافظة الجزيرة من النواحي السياسية – الاجتماعية – القومية ” والتي كانت تتكون من (165 صفحة) حين ظهورها ، من أخطر المشاريع العنصرية التي لم تسبق له مثيل في العالم كله ، لأن هذا المشروع الذي قدمه محمد طلب هلال بتاريخ 12 / 11 / 1963 إلى الجهات العليا بدمشق رسميا أعتمدت كوثيقة أساسية وبرنامج عمل من جانب الحكومات السورية المتعاقبة على دست الحكم ويؤخذ به ويطبق حرفيا وليومنا هذا ، كشكل من أشكال التطهير العرقي (الجينوسايد) ضد الشعب الكردي الأصيل وفق “سياسة ” الموت البطئ “.


     ويبدو أن حكومة البعث ومنذ إنتزاعه للسلطة في دمشق فكرت منذ اليوم الأول بوضع هكذا
مشروع ، وكلف محمد طلب هلال بإعداده ولهذا الغرض تم تنصيبه رئيسا للشعبة السياسية بالحسكة – محافظة الجزيرة.

أي أنه كلف بهذه المهمة بعد ثلاثة أشهر فقط من مجئ البعث السوري وكان محمد طلب هلال آنذاك عضوا في القيادة القطرية لحزب البعث ، وساعده وبإعترافه محافظ الحسكة السئ الصيت آنذاك سعيد السيد والذي لعب دورا سلبيا في إطار إثارة النعرات العنصرية في المنطقة ومعاداته للكورد.


 تهدف وثيقة هلال إلى خلق وهم كبير حول المسألة الكردية في عقلية الشوفينية والرجعية العربية لإثارتهم ضد الحركة السياسية الكردية في كل من سورية والعراق .


   تبنى البعث منذ إستلامه الحكم في سورية في 8 آذار 1963 سياسة الحزام العربي في المناطق الكردية وبدأ بتنفيذها تحت إسم الإشتراكية (العربية) والإصلاح الزراعي ، وأصدر البعث القانون رقم (88) في 3 حزيران من العام ذاته.

إنتهج حزب البعث قولا وفعلا سياسة قومية شوفينية ضيقة ضد الكورد السوريين وحركته السياسية ، قائمة على التمييز العنصري والإضطهاد القومي وتطبيق المزيد من المشاريع والإجراءات العنصرية بحق أبناء الشعب الكردي وبث الإرهاب والخوف بين صفوفه وملاحقة أعضاء وقادة البارتي ” حيث إشتدت وتيرة الحكم الدكتاتوري وتحول البارتي إلى العمل السري كغيره من الأحزاب الديمقراطية والتقدمية في البلاد.

وفي هذا الإطار وفي عام 1974 جئ بألوف العرب من محافظتي حلب والرقة وتم  توطينهم في المناطق الكردية واقامت السلطات لهم قرى نموذجية تزيد عن اربعين مستوطنة مزودة بكافة المستلزمات الضرورية.
     وبالتالي نرى أن مسالة “الأجانب” ، لم تكن سوى عملية شوفينية مصطنعة ، خلقتها النظام السياسي آنذاك ، فالطفل الذي ولد في يوم الإحصاء يكون عمره اليوم 48 عاما اي أنه قد امضى ثلثي عمره غريبا في وطنه مجردا من كافة حقوق المواطنة وحقوق الإنسان الإعتيادية ، علما أن هؤلاء الناس هم من سكان المنطقة ابا عن جد أنتزعت منهم المواطنة والسؤال هل يحتاج حل هذه المسالة الإنسانية إلى تشكيل لجان من قبل الحكومة السورية ؟ وهل تكمن المسألة الكردية ياترى في عملية التجنيس التي سحبت منهم منذ مايناهز نصف قرن؟!!.
     أن قضية التجريد بحق الكرد في سوريا يدخل في عداد القضايا الجنائية ، لاتجد لها مثيلا في جميع أنحاء المعمورة ، وقد حاولت السلطات السورية حصر القضية الكردية في سوريا بقضية التجنيس ، وإذا كانت هناك خطة لحلحلة هذه المشكلة المصطنعة اصلا فيجب أن تتم بقرار رئاسي ينص على إلغاء نتائج الإحصاء الإستثنائي لعام 1962 وإعادة الجنسية لجميع المواطنين الكرد الذين تم تجريدهم في حينه ليس إلا وإعادة المغمورين إلى ديارهم حيث أتو وإسترجاع الأراضي لأصحابها الأصليين وتعويضهم على الفور .
        فالقضية الكردية في سوريا قضية شعب يعيش على أرضه ، وبالتالي فإن المسالة الكردية في سوريا سوف لن تحل بالترقيعات وإنما بالإعتراف الدستوري بالشعب الكردي كثاني قومية في البلاد ومنحه حقوقه القومية المشروعة في إطار سوريا الموحدة، وبإلغاء جميع القوانين الإستثنائية بحق الشعب الكردي وفي مقدمتها إلغاء مشروع الحزام العربي العنصري وتطوير المناطق الكردية وفتح المجال فيها أمام التطوروتاسيس جامعة في قامشلو أسوة بالمناطق الأخرى في البلاد وإلا فسوف لن تستقر الأوضاع في كردستان سوريا مادامت ابنائها مشردين وملاحقين في الداخل والخارج .


    ومن الضروري أن تتزامن تحقيق هذه الخطوات مع التحول اليمقراطي الشامل في البلاد بدمقرطة النظام السياسي وبناء الحياة البرلمانية وإلغاء قانون الطوارئ وعدم تبديلها بتسميات جديدة وإلغاء المادة الثامنة والدعوة إلى إنتخابات دستورية مبكرة ودمقرطة الحياة السياسية تزامنا مع التحولات الثورية الجذرية التي تشهدها بلدان الشرق الأوسط.

فسوريا جزء من العالم ولايمكن للشعب السوري القبول بأقل من ذلك .


       ولكن السؤال هل أن نظام البعث في سوريا مؤهل لعملية الإصلاح الديمقراطي ؟ ، وإذا كان الجواب بلا ، حينها تبقى الإنتفاضة الشعبية في عموم سوريا العلاج الشافي لإزالة نظام الإستبداد والإتيان بالبديل الديمقراطي الإئتلافي الحر.

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

شادي حاجي القضية الكردية في سوريا ليست قضية إدارية تتعلق بتدني مستوى الخدمات وبالفساد الإداري وإعادة توزيع الوظائف الادارية بين المركز وإدارات المناطق المحلية فإذا كان الأمر كذلك لقلنا مع من قال أن المشكلة إدارية والحل يجب أن يكون إدارياً وبالتالي حلها اللامركزية الادارية فالقضية الكردية أعقد من ذلك بكثير فهي قضية شعب يزيد تعداده على ثلاثة ملايين ونصف تقريباً…

اننا في الفيدرالية السورية لحقوق الانسان والمنظمات والهيئات المدافعة عن حقوق الإنسان في سورية ومع مناصري ثقافة التسامح واحترام حقوق الانسان ومع أنصار السلم والحرية، نقف مع السوريين ضد الانتهاكات الجسيمة والاعتداءات الصريحة والمستترة على حقوق الانسان الفردية والجماعية، وسياسات التمييز ضد المرأة والطفل، وضد الأقليات، وضد الحرب وضد العنف والتعصب وثقافة الغاء الاخر وتهميشه، وتدمير المختلف، والقيام بكل ما…

نحن، المنظمات الحقوقية الكردية في سوريا، نهنئ الشعب السوري، بجميع مكوناته وأطيافه، على إسقاط نظام الاستبداد، إذ تمثل هذه الخطوة التاريخية ثمرة نضال طويل وتكاتف الشعب السوري ضد آلة القمع، وهي بلا شك نقطة انطلاق نحو بناء سوريا المنشودة. إن سوريا الجديدة، بعد إسقاط النظام البائد، تدخل مرحلة حاسمة، وهي مرحلة البناء والسلام والصفح. لذا، ينبغي أن تسود فيها العدالة…

خليل مصطفى بتاريخ 22/2/1958 (شهر شباط) تم التوقيع على اتفاقية الوحدة (بين مصر وسوريا)، حينها تنازل رئيس الجمهورية السُّورية شكري القوتلي عن الرئاسة (حكم سوريا) للرئيس المصري جمال عبد الناصر (طوعاً)، وقال لـ (جمال عبدالناصر): (مبروك عليك السُّوريون، يعتقد كل واحد منهُم نفسهُ سياسياً، وواحد من اثنين يعتبر نفسهُ قائداً وطنياً، وواحد من أربعة يعتقد بأنهُ نبي، وواحد من عشرة…