كردستان وليدة الشرعية الديمقراطية


كفاح محمود كريم

   أثار البيان الذي اعلنته جماعة التغيير في اقليم كردستان تساؤلات كثيرة ربما في مقدمتها هل ستأخذ كردستان تسلسلا في قائمة الدول التي تتعرض لانتفاضات شعبية مصحوبة بالفوضى والتخريب، متناسية ان الوضع في كردستان لم يكن حصيلة انقلاب عسكري او استحواذ على السلطات، بل ان الاقليم كيان فيدرالي يتمتع بنظام حكم ديمقراطي منتخب بشكل مباشر وحر من قبل الأهالي المؤيدين والمعارضين، وربما هناك الكثير من تلك التساؤلات ولكن يبقى السؤال الأهم لماذا هذا البيان وما الغاية منه في مثل هذه الظروف، خصوصا اذا ما علمنا ان السلطات الثلاث لم تأت بانقلاب عسكري او تسلط انفرادي دونما دور للآخرين ومن ضمنهم أصحاب البيان الذين شاركوا بشكل فعال في كل الأحداث منذ أولى ساعات الانتفاضة في ربيع 1991م وحتى يومنا هذه سواء كانت تلك الأحداث مما يعتز ويفتخر بها المواطن او يأسف لها ويخجل من ذكراها!؟

    وبعيدا عن التاريخ والجغرافيا وكيف ومتى واين، وصولا الى الحال بعد سنوات طوال في اول ربيع 1991م حينما بدأ الزمن يسجل ولادة كيان وملاذ للسلم والامان، تعبقه ارادة السكان ومن يمثلهم بعيدا عن السطوة والتسلط والنفوذ، حيث اختار الثوار والاهالي معا قانون الديمقراطية وقبول الآخر لحياة جديدة في الاقليم، ومن أجل ذلك كانت اول انتخابات حرة شفافة على هذا الجزء من دولة العراق بعيدا عن الدكتاتورية والاستبداد وذلك منتصف عام 1992م، ومنها انبثق اول برلمان كردستاني مثلت فيه جميع طوائف وفعاليات ومكونات الاقليم كل حسب استحقاقه الانتخابي بشهادة دولية معروفة آنذاك، لتنطلق أول حكومة كردستانية يمنحها البرلمان ثقته لتقود الإقليم الى آفاق التقدم والازدهار.

   لم تكن التجربة سهلة خصوصا اذا ما علمنا الإرث الثقيل من تراكم التخلف في كل مناحي الحياة في المدن والأرياف، بعد ان حطمت الحروب طيلة عقود من الزمان البنية التحتية للمنطقة تماما، فقد كانت المنطقة محاصرة بشكل مزدوج من قبل الأمم المتحدة والنظام العراقي بعد غزو الكويت، وتعرضت الى ضغوط هائلة من مختلف دول الجوار حتى ادت الى نشوب الحرب الأهلية التي كادت ان تدمر البلاد برمتها، لولا نداء العقل والروح الوطنية لدى كل المتخاصمين الذين ايقنوا ان مركبهم ان غرق فانهم سيغرقون جميعا دون استثناء، ففي كل هذه الأحداث صغيرها وكبيرها كانت كل الأطراف تشترك كل حسب حجمه وتأثيره سلبا او ايجابا بما فيهم اصحاب البيان الذي يدعو الى استقالة الحكومة والبرلمان الذي يتمتعون فيه بعدد غير قليل من الكراسي المؤثرة.

   لقد نجحت كل الأحزاب والحركات السياسية في انجاز السلام الاجتماعي والامن الداخلي من خلال توافقها ونضالها ومؤسساتها الأمنية والعسكرية، وهيأت نفسها واقليمها للدخول الى حقبة ما بعد صدام حسين، وقيام الدولة العراقية الاتحادية الديمقراطية التعددية، لتساهم بشكل جدي ومؤثر في حياة العراق السياسية والاقتصادية الذي ابعدت عنه لعقود طويلة، ولكي تنجح في توحيد الإدارتين في إدارة واحدة اندمجت فيها وما زالت تندمج كل المؤسسات والوزارات وخاصة المؤسسة العسكرية والأمنية.

   واليوم وبعد ان افرزت الانتخابات الاخيرة في الاقليم هذا البرلمان الذي تستحوذ فيه المعارضة التي تتبلور الآن، على أكثر من ثلث المقاعد بما فيهم جماعة التغيير التي حققت بفضل نجاح التجربة الديمقراطية انتصارت مهمة جدا في الانتخابات التي وصفها المراقبون الدوليون بانها واحدة من الانتخابات النظيفة ضمن قياسات دولية واوربية متداولة، وهي بالتالي أي هذه الجماعة وغيرها من الفعاليات الكردستانية اشتركت وساهمت في كل عمليات النجاح والتقدم التي حصلت في الاقليم وفي ذات الوقت لها حصتها ايضا من التلكؤ والاخطاء والفساد والافساد اينما كان ومهما كان وحسب حجمها وتأثيرها.

   ان مؤسسات الاقليم كما قلت ويعرف الجميع لم تأت بانقلاب كولينيالي او بأجندة اجنبية، بل جاءت نتيجة مخاض جماهيري في عملية تحول من شرعية الثورة الى الشرعية القانونية والدستورية اشتركت فيها كل الاحزاب والحركات الوطنية الكردستانية، وساهمت بكل ما جرى من احداث وتطورات منذ انتفاضة الربيع عام 1991م ولحد يومنا هذا، سواء ما كان منها ايجابيا او سلبيا، وليس هناك عنصر واحد من خطوط المسؤولين المتقدمين في الدولة اعتبارا من رئيس الاقليم ونزولا الى رؤساء الوحدات الادارية والحزبية لم يمتد تاريخه النضالي الى سنوات طويلة في القتال من اجل حرية ومستقبل كردستان، كما انه لا احد ينكر وجود فساد في المال والادارة، ولا احد يتعالى على نقاط الخلل والاخطاء او ينكرها هنا وهناك، ويكذب من يدعي ايضا اننا واحة سويسرية او اوربية كما يحاول بعض المتفائلين جدا ان يخلطوا بين الحلم والحقيقة، كما انه ليس هناك عاقل يستطيع ان يقول اننا انجزنا شعار الانسان المناسب في المكان المناسب، او يدعي بعدم شيوع المنسوبية والمحسوبية والعشائرية في نظامنا الاجتماعي والسياسي، او ان نظامنا الاداري او المالي او الاقتصادي او حتى الاجتماعي خال من عيوب كثيرة ربما تصل في بعضها الى الجرم الخارق للقانون؟

     لكننا في ذات الوقت انجزنا انتخابات عامة تميزت بالايجابية والشفافية العالية حسب توصيفها من قبل معظم المراقبين الدوليين، واولهم الهيئة المستقلة للانتخابات العراقية وممثلي الاتحاد الاوربي والامم المتحدة والجامعة العربية، رغم ما حصل من خروقات هنا وهناك، الا انها كانت في حدود قياساتها الدولية في افضل بلدان العالم ديمقراطية، هذه الانتخابات انتجت برلمانا شرعيا ضم لأول مرة اعداد ليست قليلة ومهمة جدا من المعارضين للحزبين الرئيسيين، ومن ثم انجزت كابينة حكومية نالت ثقة غالبية اعضاء البرلمان واعترض عليها من اعترض ايضا، وفي نفس السياق تم انتخاب رئيس الاقليم من عدة مرشحين ونال السيد بارزاني ما يقرب من 70% من اصوات الناخبين، لقد انجزنا جميعا خلال عقد من الزمان فقط ما لم تنجزه الدولة العراقية منذ تأسيسها في اوائل القرن الماضي وحتى سقوطها في نيسان 2003م من مشاريع وطرق وجامعات ومدارس واعمار مدن وقرى وتحديث للبنى الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.

    اذن مؤسسات اقليم كردستان لم تكن مصنوعة في دهاليز الحزب الواحد او ان رئيسها قاد انقلاب عسكري ليأتي الى قصر الرئاسة، وكذا حال حكومتها وكثير من المؤسسات الاخرى، فهي نتاج شرعية قانونية فرضتها نتائج الانتخابات العامة الأخيرة وهي بالتالي اتفاق بين كل الكتل والأحزاب والمكونات ومن ثم فهي تعكس اختيارات الاهالي في الاستفتاء الأخير، ولذلك لا اعتقد ان هناك أي فرصة لنجاح تمرد خارج عن القانون والدستور، فشعب كردستان يدرك جيدا إن كل ما موجود في الاقليم من برلمان وحكومة وقضاء وصحافة واعلام واجهزة امنية وعسكرية انما جاءت وليدة نضال دؤوب اشتركت وساهمت فيه كل القوى العاملة اليوم دون استثناء وكل حسب حجمه وقوته من اجل ذات الهدف التاريخي الوطني والقومي، ومن ثم فهي وليدة تجربة ديمقراطية امتدت منذ مطلع التسعينات من القرن الماضي، وتمثل عصارة نضال هذا الشعب طيلة تاريخه المعاصر، في كل اجزاء الوطن وتمثل بحق أمل الشعب الكردستاني برمته، انها ليست ملك فرد ما او حزب بعينه او طبقة محددة بل هو ملك كل الأمة شبابا وشيبا نساءً ورجالا، وان كان هناك إخفاق ما او نجاح معين  او رأي مختلف فقراءته وتقييمه إنما يكون تحت قبة البرلمان وعلى سلم القانون والدستور، وكل هذه المؤسسات هي المرجع والمحك وغيرها يرفضه الشارع ويعتبره خروجا عن الشرعية وانتهاكا لتقاليد النضال المشترك من اجل ذات الأهداف المقدسة.

    كردستان وليدة شرعية ديمقراطية، ومؤسساتها الرئاسية والبرلمانية والحكومية بكل أشكالها نتاج تجربة دستورية وقانونية اشتركت فيها كل الأطراف المؤيدة والمعارضة، وهي تمثل عصارة نضال أجيال من الفلاحين والعمال وكل طبقات المجتمع ومكوناته العرقية والدينية والمذهبية، وهي بالتالي حلم الملايين من ابناء هذا الشعب عبر التاريخ وحري على الجميع احترام هذا الانجاز والاعتزاز به والعمل من اجل تطويره وتقليل مساحة الخلل والفساد من خلال الآليات المعمول بها في كل الديمقراطيات الحقيقية في العالم للوصول الى الهدف المرتجى لدى كل القوى بما فيها المعارضة التي تبلور واقعا جديدا نفتخر به جميعا لو نجحت  في انجاز معارضة وطنية تخدم وتعمل من اجل المصالح العليا لشعب اقليم كردستان ومنجزاته التاريخية.

 

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

إبراهيم اليوسف منذ سقوط النظام المجرم في 8 كانون الأول 2024 وتحول السلطة إلى السيد أحمد الشرع، بات السوريون، سواء أكان ذلك في العاصمة دمشق أو المدن الكبرى والصغرى، يتطلعون إلى مرحلة جديدة يتخلصون فيها من الظلم والاستبداد. حيث سنوات طويلة من مكابدات المعذبين في سجون الطاغية الأسد وأبيه كانت كفيلة بتدمير أرواح مئات الآلاف. بعض السجناء أمضوا…

شكري بكر هذا الموضوع مطروح للمناقشة قد يؤدي بنا للوصول إلى إقامة نظام يختلف عما سبقونا من سلاطين وحكام وممالك وما نحن عليه الآن حيث التشتت والإنقسام وتبعثر الجهود الفكرية والسياسية والإقتصادية والعمل نحو إقامة مجتمع خال من كل أشكال الصراع وإلغاء العسكرة أرضا وفضاءا التي تهدر 80% من الإقتصاد العالمي ، إن تغلبنا على هذا التسلح يمكن…

إياد أبو شقرا عودة إلى الموضوع السوري، لا بد من القول، إن قلة منا كانت تتوقّع قبل شهر ما نحن فيه اليوم. إذ إن طيّ صفحة 54 سنة خلال أقل من أسبوعين إنجازٌ ضخم بكل ما في الكلمة من معنى. سهولة إسقاط نظام الأسد، وسرعة تداعيه، أدهشتا حتماً حتى أكثر المتفائلين بالتغيير المرجوّ. إلا أنني أزعم، بعدما تولّت قيادة العمليات…

طارق الحميد منذ فرار بشار الأسد، في 8 ديسمبر (كانون الأول)، إلى روسيا، وهناك سيل من النقد والمطالبات للحكام الجدد، وتحديداً أحمد الشرع. والقصة ليست بجدوى ذلك من عدمه، بل إن جل تلك الانتقادات لا تستند إلى حقائق. وسأناقش بعضاً منها هنا، وهي «غيض من فيض». مثلاً، كان يقال إن لا حل عسكرياً بسوريا، بينما سقط الأسد في 12 يوماً…