إنه ميدان التحرير يا صاحبي.. والتاريخ لا يلعب مع الصغار

عمر كوجري

استطاعت الشعوب العربية التي بدأت تنتفض، وتثور على حكَّامها وظلَّامها أن تزيل غبار السنين الكثيرة من المهانة والمذلة والرضوخ الأعمى للحكام، وهاهي الجماهير الغفيرة تعلن عن غضبها، وخاصة في تونس ومصر العظيمة التي لم تنم على ضيم طيلة حياتها، وكرة الثلج التي تعشق التدحرج مرشحة لأن تغادر حدود المغرب العربي ومصر، وتتوجه في أي بلد يشكو مواطنوه التظلم والبؤس والفقر وهضم الحريات الشخصية وانتهاك الحرمات والحرمان، وهاهو المارد العربي يخرج من سجنه الطويل ليعلن أنه صادق الوعد إذا واتته الظروف، وإذا لم تواته فإنه يصنع ظروفه الموضوعية بنفسه، ويشعل وقود الثورة حتى ولو من دمائه الزكية، هكذا يخبرنا التاريخ..
 والتاريخ رغم أنه كتب، وحُرّف كثيراً على أيدي الطغاة والمجرمين، لكنه في لحظة الصدق لا يكذب، ولا ينافق، و« يصفُّ» مع الشعب المظلوم في نهاية المطاف، خاصة إذا قرر الشعب أن ينتفض، ويثور على القتلة الذين يريدون أن يحوّلوا أرض الله إلى قفر الأرض، وجدبها وخوائها، ويزوّروا أوراق التاريخ ليكتبوا بأحرف من دماء انتصاراتهم الأسطورية على الأعداء الخائبين دوماً والمهزومين ببراعة بأقلام الشعراء، وكتاب السلاطين.

  وكان من الطبيعي أن يثور الشباب على الطاغية السفاك بن علي بعدما حوّل تونس الخضراء إلى أرض الفقر والهجرة، وحول كل خيراتها إلى حاشيته وأهل زوجته، ونجحت هذه الثورة التي علمت الناس درساً بليغاً في المقاومة والنضال، وصار على ثوار العالم أن يقتدوا بها وبمنجزاتها التي لم تكن لتتحقق لولا الدماء الغزيرة التي أهرقت على مذبحة الحرية، ويعرف الشعب التونسي جيداً أن الحقوق لا تستجدى، بل الأمر بحاجة إلى بذل الغالي من أجل كرامة الوطن.
وبالفعل وفي فترة قياسية فاز الشعب التونسي بحريته رغم علمه بأن قطف ثمار الثورة ما زال في المخاض لكنها تتشكل كل يوم ليكون الشعب سيّدَ نفسِه بعيداً عن الدكتاتورية والاستئثار بالسلطة لعقود طويلة.
أما في مصر، فحدّث دون تسويف، فمنذ أكثر من ثلاثة عقود ونظام حسني مبارك يجثم على صدور الشعب المصري، وأصبح هذا النظام وحزبه المأفون وأفراد عائلته وأولاده يأخذون كل شيء، وتتزايد ملياراتهم في البنوك الأجنبية، حيث تقدر ثروة عائلة مبارك أكثر من 53 مليار دولار، ونصف مرابح الشركات العاملة في مصر تذهب إلى جيوب جمال وعلاء وبقية العائلة” غير الكريمة” في حين أن عامة الشعب وغالبيته تعاني حالة مزرية من الفقر والحاجة، ورغم كل انتفاضات الخبز وانتفاضات حركة “كفاية” الشعبية، والنقابات وغيرها إلا أن النظام ظل على عناده، ولم يسمع لتأوهات المساجين في الزنزانات، ولم يرق قلبه لمناظر الأطفال وهي تعمل وتكدح، وتستغل أبشع استغلال للظفر بكسرة خبز، ولم يأخذ العبرة من قطارات الموت وعبارات وسفن الموت ومصر الموت، ومقابر الموت، والتهميش المتعمد لقطاعات واسعة من الشعب الذي هام على وجهه في كل مكان، وأصبح كلُّ مكان أرضه وبلده ما عدا بلده الكبير والجميل مصر الأهرامات والنيل والجيزة وشرم الشيخ التي تحولت إلى منتجع لتسكين آلام ظهر الطاغية العجوز ومفاصله وو، ومكاناً ليستعيد فيه شبابه الذي لن يعود.
  فسجل الحريات وحقوق الإنسان في عهد الطاغية كان مشبعاً بالانتهاكات على مدى العقود الثلاثة الأخيرة، ومؤخراً جرى تزوير الانتخابات لمصلحة الحزب الوطني الحاكم، وهذا ما يمثل “أبرز ملامح عهده، وجاءت الانتخابات بمجلس شعب يمثل الحزب الوطني 95% من نوابه، ومنع أي تيار معارض من الوصول لقبة البرلمان”
 كما تميّز عهد مبارك بالاعتقالات السياسية لجميع الاتجاهات حتى وصل عدد المعتقلين السياسيين إلى ثلاثين ألف معتقل خلال حقبته”.
  ألا تكفي كل هذه الآلام لإشعال ثورة الشباب المصري؟؟ وهي ستحقق أهدافها السامية، لأن ما تطالب به من ترحيل كل زبانية العهد القديم هو الصحيح عينه، المسألة مسألة وقت، وهذه رسالة كبيرة وشفافة وواضحة للآخرين، ” اليوم صرح الرئيس اليمني أنه لن يرشح نفسه للانتخابات القادمة ولن يمهد الطريق لتوريث ابنه الرئاسة من بعده!!!”
 ورغم أن النظام مازال يتحرّك، ورغم أنه البارحة أرعد، وأزبد، وهدد مبطناً شباب ساحة التحرير، وزعَمَ أنه لن يرشح نفسه مرة أخرى، ولا يطمح بغير هذه الأشهر السبعة العجاف، ويقول: باي باي للحكم بعد أكثر من ثلاثين سنة قضاها فيه، إلا أنه يلعب في الوقت الضائع.

 والنكتة قوله أمس إنه لم يكن طامحاً لا في حكم ولا جاه، ولم يكن يقصد غير خدمة مصر وأبنائها، وتمنى الموت على أرضها  لكن الشلل أصابه، والتخبط والتجلط تلاحقانه إلى حين المغادرة، والخيار أيضاً بأيدي المنتفضين في ساحة التحرير، ليقرروا مصير الدكتاتور، وعلى الأغلب أنهم لن يعودوا إلى بيوتهم، ولن يخلوا الساحة طالما أن اللامبارك في الحكم، وسيتحتم عليه القبول بحكم الشعب..

والشعب إن غضب!!

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

خليل مصطفى مِنْ أقوال الشيخ الدكتور أحمد عبده عوض (أُستاذ جامعي وداعية إسلامي): ( الطَّلَبُ يحتاجُ إلى طَالِب ، والطَّالِبُ يحتاجُ إلى إرادة قادرة على تحقيق حاجات كثيرة ). مقدمة: 1 ــ لا يختلف عاقلان على أن شعوب الأُمَّة السُّورية قد لاقت من حكام دولتهم (طيلة 70 عاماً الماضية) من مرارات الظلم والجور والتَّعسف والحرمان، ما لم تتلقاه شعوب أية…

أحمد خليف الشباب السوري اليوم يحمل على عاتقه مسؤولية بناء المستقبل، بعد أن أصبح الوطن على أعتاب مرحلة جديدة من التغيير والإصلاح. جيل الثورة، الذي واجه تحديات الحرب وتحمل أعباءها، ليس مجرد شاهد على الأحداث، بل هو شريك أساسي في صنع هذا المستقبل، سواء في السياسة أو في الاقتصاد. الحكومة الجديدة، التي تسعى جاهدة لفتح أبواب التغيير وإعادة بناء الوطن…

إبراهيم اليوسف إنَّ إشكالية العقل الأحادي تكمن في تجزئته للحقائق، وتعامله بانتقائية تخدم مصالحه الضيقة، متجاهلاً التعقيدات التي تصوغ واقع الشعوب. هذه الإشكالية تطفو على السطح بجلاء في الموقف من الكرد، حيث يُطلب من الكرد السوريين إدانة حزب العمال الكردستاني (ب ك ك) وكأنهم هم من جاؤوا به، أو أنهم هم من تبنوه بإجماع مطلق. الحقيقة أن “ب ك ك”…

شيروان شاهين سوريا، الدولة ذات ال 104 أعوام البلد الذي كان يومًا حلمًا للفكر العلماني والليبرالي، أصبح اليوم ملعبًا للمحتلين من كل حدب وصوب، من إيران إلى تركيا، مرورًا بكل تنظيم إرهابي يمكن أن يخطر على البال. فبشار الأسد، الذي صدع رؤوسنا بعروبته الزائفة، لم يكتفِ بتحويل بلاده إلى جسر عبور للنفوذ الإيراني، بل سلمها بكل طيبة خاطر…