رشيد
، ثم سلّطت على رقابها أنظمة حكم فاسدة ومتخلفة ومتوحشة (أمينة على حماية مصالح تلك القوى التي نصبتها)، ودججتها بكل وسائل القمع والتنكيل، وشحنتها بمختلف الأفكار والأيديولوجيات الشوفينية والشمولية البغيضة، وزودتها بكافة الخبرات والتقنيات التي تثبّت سلطاتها وتبرّر استبدادها وفسادها..،
، وحواضناً للقلاقل والاضطرابات..
، ومنابعاً للإرهاب والاغتصاب..
، ومياديناً للحروب والكوارث..ومواطناً للجهل والتخلف والعنف والفقروالتبعية..
ولم تفلح أغلب أنظمتها في وضع دساتير وطنية دائمة في بلدانها، والتي من شأنها ارساء ركائز الحرية والمساواة والعدالة، ولم تبن مؤسسات انتاجية وخدمية وإدارية وقضائية..
قادرة على تأمين الأمن والسلام والرفاهية لمواطنيها، وفشلت في ترسيخ التلاحم الوطني والتعايش السلمي والتقدم الاجتماعي..، والنهوض بالبلاد علمياً وعملياً لتواكب تطورات العصر في جميع المجالات والأصعدة، بل اقتصرت جهودها داخلياً في تقوية وتطويرالأجهزة الأمنية والقمعية لتمارس بفعالية وكفاءة الفتك والسلب والنهب والتجويع والتهجير…وسخّرت جلّ قدراتها ومساعيها خارجياً لتوفير الشرعية والدعم من الدول العظمى لتحافظ على عروشها، دون النظر في حجم المساومات والتنازلات عن ثوابت ومقدرات السيادة الوطنية من مادية أو معنوية أو روحية…
ولأجل البقاء في سدة حكمها ارتكبت جميعها حماقات خطيرة وجرائم كبيرة بحق شعوبها (وبنسب متفاوتة فيما بينها في الشكل والحجم والأسلوب والنوعية..)، لطخت بها تاريخ الانسانية بوحشيتها ومآسيها وفظاعتها، وصلت بها إلى مرحلة التطهيرالعرقي والابادة الجماعية، كما جرت في كوسوفو ضد ألبانها، والعراق ضد كوردها، والسودان ضد جنوبييها ودارفورييها، وتركيا ضد أرمنييها وكوردها، وأندونيسيا ضد تيمورييها، وكذلك في ايران ورواندا وكونغو وشيشان وتيمور الشرقية وكشمير….إلخ، استخدمت في ذلك أبشع الوسائل والسبل وأعتى الطغاة والوحوش البشرية التي تربّت وتدرّبت خصيصاً لتنفيذها …
إن تلك الحماقات التي حدثت تحت أنظار ومسامع القوى العظمى بشركاتها الضخمة ومؤسساتها المتعددة وأجهزتها المتخصصة…حصلت على الذرائع والمبررات لممارسة المزيد من الضغوطات عليها، والتدخل في شؤونها تحت شعارات الدفاع عن الشعوب المضطهدة وحماية حقوق الانسان…، محاولة منها استحواذ المزيد من التنازلات عن الثوابت الوطنية، لتحقيق المزيد من المكاسب والاستثمارات والمشاريع…التي تخدم مصالحها الاستراتيجية وأمن بلدانها القومي على حساب معاناة وشقاء ومآسي وحرمان..
شعوب تلك الدول التي تحكم بالحديد والنار من قبل أنظمتها.
وفي ظل نظام العولمة بتقنياتها الحديثة والضخمة، وخاصة في مجال الأعلام والاتصالات، التي حولت الكرة الأرضية إلى قرية صغيرة، لم تعد الأنظمة الحاكمة قادرة على فرض الكتم والاخفاء والتمويه على حقيقة سياساتها الفاشلة والمدمرة، واخفاقاتها وحماقاتها في إدارة أمورها ومعالجة قضاياها (الاقتصادية والاجتماعية والسياسية..
على كافة الأصعدة الداخلية والخارجية) عن الرأي العام المحلي والعالمي.
وما الحروب المدمرة والأحداث الأليمة في أفغانستان وباكستان والصومال واليمن والنيجر وساحل العاج وجورجيا … وباقي مناطق التوتر والنزاع في العالم، إلا مؤشر واضح وبليغ على الارتباك والضعف والفشل والخلل والخوف والتهرب ..في ذهنية وكيفية تناول التحديات والقضايا الوطنية الداخلية، من قبل أنظمة تلك الدول، وطريقة التعامل معها.
وما احتضان بعض الأنظمة لجماعات ارهابية وتكفيرية تحت اسم المعارضة أوالمقاومة، وتقديمها الدعم والمساندة لها من أجل استغلالها تكتيكياً في فرض شروط أو ظروف وقتية على خصومها، وتصفية حساباتها معها، إلا ضرباً من الجنون والمغامرة، لأن الارهاب آفة عالمية تشكل خطراً على البشرية جمعاء، فلا دين له ولا موطن ولاعهد ولالون ولا قانون..وغايته خلط الأوراق والحسابات، وارباك الخطط والمشاريع، وتهديد التجمعات والكيانات كلها بدون استثناءعاجلاً أم آجلاً، وزعزعة الأمن والاستقرار، منفذة أجندة قوى عالمية كبيرة، هدفها النهائي السيطرة الكاملة على منابع الثروة والقوة في العالم .
فالوقت قصير والتحدي كبير أمام أنظمة هذه الدول(الكرة في ملعبها)، التي تجلس على جبال من المشاكل المزمنة والقضايا المؤجلة القابلة للانفجارفي أية لحظة، وحينها ستدمرالجميع قاصياً كان أودانياً، وخاصة الظالمة والفاسدة والشوفينية والتوليتارية منها، وإن كان صانعوا القرار الكبار في العالم يغطون سابقاً على فواحشها وجرائمها من السلب والنهب والقتل والتدمير..، ويحمونها من السقوط، فالوقت قد تغير، وتغيرت قواعد اللعبة أيضاً، فمحاكمة المجرمين صدام في العراق وميلوزوفيتش في صربيا راسخة في الأذهان، وسيناريوهات إنهاء البشير في السودان وباغبو في كوتديفوار ماثل للأعيان، فمصالحها الاسترتيجية من جهة، وضغوط المدافعين عن حقوق الإنسان ودعاة الديموقراطية والمجتمع المدني وأنصارالسلم في الدول الديموقراطية والمتقدمة لم تعد مهملة إزاء ما يجري من انتهاكات وخروقات للقوانين والمواثيق الدولية بحق الشعوب والبلدان.
ولعل أهم وأخطرالقضايا التي تعترض سبيل التطور والانماء والاستقراروالاستقلال..
ووحدة الأراضي وحماية ثرواتها الوطنية..
في تلك الدول هي قضية الأقليات العرقية والدينية، لأن الأنظمة المتعاقبة على حكمها فشلت في تثبيت الوطنية والمواطنة على أساس التنوع والتوافق والتكافؤ والمساواة في الحقوق والواجبات أم القانون، لا بل تركت إرثاً ثقيلاً من المعضلات والأزمات والكوارث..
التي تحتاج إلى حلول جدية وجذرية وسريعة..
فتجربة السودان جارية على قدم وساق، وأراضيه آيلة للانقسام والتشظي ابتداء من انفصال جنوبه الذي سيحسمه الاستفتاء حتماً في غضون الأيام القليلة القادمة، والعراق سيحذو حذوه مالم يتم الالتزام بالدستورالدائم المؤسس على نظام الحكم الفدرالي الديموقراطي، والقائم على التعدد العرقي والتنوع الديني والمذهبي، وإن تجربتيهما متشابهتان في الأسباب وإن اختلف الظروف زماناً ومكاناً، ففي السودان العربي الاسلامي (الهوية الرسمية للدولة ؟!) كان يعتبر كل من يعيش ضمن حدودها خاضعاً وملتزماً بقوانينها وقواعدها (شاء أم أبى !!)، واستخدم العنف والقوة في فرض الديانة والجنسية وما يرتبط بهما من لغة وثقافة وتعاليم ..(علماً بأن المعترضين كانوا كثراً وأشدهم سوريا على قبول السودان في جامعة الدول العربية كون شعبها غير عربي، وكذلك في العراق حيث كان يعتبر كل عراقي يجب أن يكون عربياً وبعثياً، وإلا فمصيره مجهول، إما يدفن حياً في المقابر الجماعية، أو يخنق ويحرق ويذاب بالكيماويات، أويتضرج بدمه في المقاصل والمذابح الكثيرة والكبيرة المخصصة لذلك، وبالمحصلةً زهق الباطل المتمثل بالدكتاتور الطاغية وعصاباته الاجرامية، وثبت الحق المتمثل باستحالة تحطيم شعب مهما بلغت بأس وجبروت القتلة المجرمين.
أما تركيا العثمانية سابقاً والكمالية لاحقاً، التي مارست القتل والتدمير والتهجير وسياسة التتريك بحق الشعوب المنضوية تحت حكمها من الكورد والأرمن واليونان والبلغار..، واليهود والمسيحيين..، لم تتمكن من طمس هوياتها القومية والدينية، بالرغم من ارتكابها المجازر بحقهم، والتي كلفتها ومازالت تكلفها الكثير من الضحايا والخسائر..
داخلياً وخارجياً، وستبقى ضعيفة تعاني العجز والتضخم في موقعها الإقليمي والدولي، وستنهار أحلام وطموحات الدولة التركية كقوة فاعلة ومؤثرة في المنطقة، أمام المد الديموقراطي السلمي، وتنامي وتعاظم الحضور الكوردي كأمر واقع في الداخل والجوار، والانفتاح على الغرب عبرالاتحاد الأوربي المبني على أسس اقتصادية وسياسية واجتماعية..
صحيحة ومتينة، تلازمها الحرية والديموقراطية والعدالة والمساواة..، مالم تقدم على إصلاحات جذرية وحقيقية في قوانينها وإجراءاتها وسياساتها، وتطبق حلول عملية صحيحة وسلمية للقضايا القومية،وخاصة القضية الكوردية التي عجزت في إنهائها باتباعها سياسة الإنكاروالإلغاء والقمع..، واستخدامها القوة العسكرية والبوليسية المفرطتين في معالجتها.
أما في إيران فالنظام الشاهينشاهي المقبور، وبعده نظام الإمام الفقيه الإسلامي الشيعي الحاكم في إيران الزاخر بالعديد من القوميات الحية كالكورد والعرب والتركمان والبلوش والأذربيجان..وغيرهم ذات الديانات والمذاهب والثقافات والحضارات المتنوعة، إلى جانب الفرس الذين يعتبرون أقلية حاكمة مقابل باقي الشعوب والطوائف بتعدادها ومناطق تواجدها، واصرار آيات الله على تطبيق الشريعة الاسلامية الشيعية، وفرض الهوية الفارسية وثقافتها على الجميع بدون استثناء أوتمييز عبر دستور وقوانين الدولة التي وضعوها وقولبوها على مقاساتهم وتوجهاتم الفكرية والمذهبية كمشروع ( سياسي عسكري اقتصادي أيديولوجي) متكامل، ومخطط وطموح في المنطقة والعالم، وبنوا المؤسسات والدوائر على أساسها، وسيطروا على إداراتها وزمام أمورها، ولكن التحديات والمعوقات والاعتراضات تتعاظم إقليمياً ودولياً، وبخاصة ضد التسلح النووي الذي أصبح هاجساً وتهديداً للداخل والخارج، والصراعات والاختناقات والأزمات تتفاقم داخلياً، تدفع جميعها بإيران نحو حروب أو مواجهات وخيمة النتائج والتداعيات، والمؤكد والمسلم به هو إنهيار النظام الحاكم بمؤسساته وأجهزته، وهدر الطاقات والإمكانات الهائلة التي بنيت خلال العقود المنصرمة، وجلب الدمار والويلات للبيئة والطبيعة، وقبل هذا وذاك تفتيت إيران إلى دويلات مثل يوغسلافيا السابقة، ويبقى الحل الوحيد أمام نظام الإمام كأفضل خيار هو إجراء إصلاحات جذرية في كل المجالات وعلى جميع الأصعدة على أسس ديموقراطية تحترم التعددية والتنوع والحرية في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية..، وفي مقدمتها القضايا القومية والاعتراف بحقوقها كما تقررها اللوائح والوثائق الدولية وتنص عليها قوانين الأمم المتحدة، وإن تصدير الأزمات والاختناقات الداخلية إلى الخارج تحت غطاء نشر الإسلام وتحرير الأراضي المقدسة، ومحاربة الغرب الكافر وعلى رأسها الشيطان الأكبر أمريكا، والقضاء على إسرائيل اليهودية (!!)، وغيرها من التطلعات والشعارات الضخمة والرنـّانة والمستحيلة، لم تعد مجدية ومقنعة، وغير منطلية على أحد.
وهكذا فالمغرب أيضاً أمام تحدي كبير يحتاج إلى قرار جريء وحاسم وسريع بشأن شعب الصحراء الغربية (جبهة البوليساريو)، لأن رفض مطالبهم وإنكار حقهم في تقرير مصيرهم ومعالجتها عسكرياً، والمراهنة على تبدل العامل الدولي موقفاً وظرفاً، والمساومة مع الجوار الإقليمي لاستمالتهم إلى جانبه، لم تعد مقبولاً فالوضع الراهن المستتب في الصحراء،وفشل الحل العسكري الذي استمر لعقود،وثبات مبادرة الأمم المتحدة على إجراء الاستفتاء، عبر مفاوضات مباشرة بين الجانبين لتحديد قواعد وآليات إجرائه، واستمرار القضية عالقة بدون حل تجر المحن والأزمات على طرفي النزاع خاصة ودول المغرب عامة، تهدر فيها الطاقات والثروات، وتضعفها أمام تحديات التنمية والتطوير، ومواجهة الإرهاب المنظم المتنامي والمتعاظم يوماً إثر يوم .
أما الجزائر وليبيا فليس بأحسن حال من المغرب، فقضية البربر(الأمازيغ) مازالت في بدايات نهوضها وأحداث منطقة القبائل المستمرة تنذر بالخطر، مالم تؤخذ أسبابها الحقيقية على محمل الجد وتعالج بموضوعية وواقعية، فالخطوات الخجولة باتجاهها غير كافية، ولا يمكن لأية قوة أن تكبت أنفاسها وتخمد وهجها، وسيكون حلها العامل الأكبر والأهم في الحفاظ على وحدة بلدانها و سيادتها.
أما في سوريا فبعد تبديل الدستور الذي كان برلمانياً قبل الستينات من القرن الماضي، وإقرار نظام حكم الحزب الواحد (حزب البعث العربي الاشتراكي) في قيادة المجتمع والدولة، ورفض مبدأ التنوع العرقي والديني والمذهبي والفكري..، في الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية..، واعتبار كل سوري عربي الهوية والانتماء مهما كان جنسه أوأصله وفصله، وتجاهل حقيقة وجود التصنيفات الدينية والمذهبية كالسنة والشيعة والعلويين والدروز والإسماعيليين واليهود والإيزيديين والمسيحيين..، والمكونات العرقية كالكورد والشركس والآثوريين والأرمن..، وعدم الاعتراف بخصوصياتهم، وممارسة التمييز والتعريب بحقهم، وتطبيق المشاريع العنصرية والقوانين الاستثنائية ضدهم، وخاصة ضد الكورد الذين يعانون من استمرار صدور وتطبيق مراسيم وقرارات جائرة ومجحفة بحقهم وفي مناطقهم.
وأخيراً، لأجل الاطلاع والمقارنة، نسلط الضوء على الوجه الآخر للقضية التي نحن بصددها (على سبيل المثال لا الحصر) من خلال تجربة الهند القارة والدولة بآن واحد،والتي تضم مئات الأعراق والأجناس ومئات الأديان والمذاهب، ومئات المناهل الفكرية والثقافية والسياسية..، وهي تعيش في سؤدد وتوادّ وأمن وسلام واستقرار..
في ظل نظام وطني مؤسساتي ديموقراطي تعددي، تتقدم نحو الأمام بثقة وقوة لتصبح دولة عظمى تحتل مقعداً دائماً لها في مجلس الأمن الدولي، وكذلك ماليزيا وسنغافورا اللتين تنافسان الدول الصناعية الكبرى باقتصاداتها وصناعاتها وثبات أمنها واستقرارها، أما جنوب أفريقيا التي توجد فيها إحدى عشرة لغة محكية ومعترفة بها رسمياً بالدولة، وهي مضرب المثل مع زعيمها نيلسون مانديلا، بتحقيق التنمية والعدالة والديموقراطية..
بعد زوال نظام الفصل العنصري فيها، وأما الكيبكيون الذين يتحدثون الفرنسية بشكل رسمي، فيرفضون الانفصال عن الدولة الكندية (ذات الأكثرية الناطقة بالانكليزية) الدستورية الديموقراطية المتقدمة التي منحتهم حق تقرير مصيرهم عبراستفتاء شعبي متى يرغبون.