لحظات تاريخية حضارية في السودان

  عبدالرحمن الراشد

من الطبيعي أن ننظر بمرارة إلى ما يحدث من تفتيت للدولة الأكبر عربيا، السودان، لكن علينا في آخر المطاف أن نتعلم أن نحترم رغبات الناس.

ولا يوجد هناك أوضح منها في جنوب السودان.

خمسون عاما من النضال حبا في الانفصال، قتل مئات الآلاف في سبيل هذا الهدف.

وليس لنا كعرب أن نعتبرها خيانة، كما يصفها البعض.

هؤلاء القوم لهم نفس الحق الذي أيدناه للشعوب الأخرى، ولا يمكن أن نعتبر وحدة السودان واجبا ملزما على فئة تعتبر نفسها خارج هذه الدائرة.

كنا نتمنى من القيادات السياسية التي حكمت السودان أن تمنح الجنوب حقوقا استثنائية أفضل، لبعده الجغرافي واختلافه الاثني اللغوي والديني، لكنها كانت تتعامل من فوق، وتصر على إملاء مقدساتها على أناس لا يشاركونها نفس القيم المحلية.
ومن يقول إن الانفصال المتوقع يتم برضا ومحبة وأخلاق عالية من الجانبين فإنه لا يعرف تاريخ السودان الحديث.

رغبة الجنوب في الانفصال عمرها خمسون عاما، وقتل في سبيلها أو بسببها نحو مليوني شخص، وعايشتها كل الحكومات السودانية، ومعظمها أخطأت في معالجتها باستثناء في عام 1972 عندما منحت الحكومة الإقليم حكما ذاتيا، إلا أن الرئيس جعفر النميري، الذي يشبه الرئيس الحالي عمر البشير في الكثير من خصاله، أفسد الاتفاق وقسم الجنوب، وحنث بكل وعد، وعادت الحرب.

وهكذا مرت السنون وصار استقلال الجنوب حقيقة لا مناص منها.


وهنا لا بد أن نقول إن الاتفاق على استفتاء أهل الجنوب يتم اليوم بشكل حضاري، وبقليل من الاشتباكات، ومن دون إراقة دماء، رغم أن القضايا بين الجزأين معقدة ولن تحسم حتى بعد إعلان الدولة الجديدة وفق اختيار الجنوبيين الاستقلال الكامل.


الحقيقة المنسية الأخرى أن حوض النيل العربي كان أكبر من ذلك، فقد كانت مصر والسودان بلدا واحدا تحت التاج البريطاني، وبعد خروج المستعمر احتفل كل بلد باستقلاله فصار الانفصال، والآن سيحدث انفصال جزئي آخر.


أعتقد أن فصل الجنوب عن الشمال سينقذ السودان، أو ما تبقى منه لاحقا.

فهذا البلد الكبير ما عاد يقدر على حمل كل هذه المشكلات والنزاعات المختلفة.

خسارة نصف السودان الجنوبي ستحمي شماله من خلال التركيز على قضاياه وحاجاته، وربما يتعظ الحاكم الحالي مما حدث ويدرك أن الإنقاذ الحقيقي، لا الإنقاذ المزعوم الذي يدعيه، هو في التوافق مع القوى الداخلية التي هي أقدم منه وأكثر شرعية، ومن دون التفاهم والتوافق معها لن يعيش طويلا بعد الانفصال وتكاثر القضايا الدولية ضده.


ومن أسس استقرار الشمال علاقته بالدولة الجديدة والانصراف عن التورط في خلافات معها.

وما يجعلنا نتفاءل هي التصريحات التي بدرت من عدد من المسؤولين الشماليين والجنوبيين حول التعاون بعد الاستفتاء والانفصال تعبر عن لغة حضارية وواقعية، وفيها استعداد لطي الملف ونسيان مشكلات ما وراء الحدود الجديدة.

الشرق الأوسط

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest


0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

د. محمود عباس كوردستان ليست خريطة معلقة على الجدار، ولا نشيدًا قوميًّا يُتلى في المناسبات، ولا لهجة تُنطق في وادٍ دون وادٍ آخر، كوردستان هي وحدة الوجع، وحدة الدم، وحدة الجبل الذي احتضن الثائر، ووحدة الأم التي ودّعت أبناءها في جميع جهاتها الأربع دون أن تسأل، من أي جزء أنتم؟ لكنّ المأساة الكبرى لم تكن فقط في احتلال…

جليل إبراهيم المندلاوي   في خبر عاجل، لا يختلف كثيرا عن حلقة جديدة من مسلسل تركي طويل وممل، ظهرت علينا نشرات الأخبار من طهران بنغمة هادئة ونبرة مطمئنة، تخبرنا بأن مفاوضات جديدة ستعقد بين إيران وواشنطن، هذه المرة في “أجواء بناءة وهادئة”… نعم، هادئة، وكأنها نُزهة دبلوماسية على ضفاف الخليج، يتبادل فيها الطرفان القهوة المرة والنظرات الحادة والابتسامات المشدودة. الاجتماع…

إبراهيم اليوسف بعد أن قرأت خبر الدعوة إلى حفل توقيع الكتاب الثاني للباحث محمد جزاع، فرحت كثيراً، لأن أبا بوشكين يواصل العمل في مشروعه الذي أعرفه، وهو في مجال التوثيق للحركة السياسية الكردية في سوريا. بعد ساعات من نشر الخبر، وردتني رسالة من نجله بوشكين قال لي فيها: “نسختك من الكتاب في الطريق إليك”. لا أخفي أني سررت…

مع الإعلان عن موعد انعقاد مؤتمر وطني كردي في الثامن عشر من نيسان/أبريل 2025، في أعقاب التفاهمات الجارية بين حزب الاتحاد الديمقراطي (PYD) وأحزابه المتحالفة ضمن إطار منظومة “أحزاب الاتحاد الوطني الكردي”، والمجلس الوطني الكردي (ENKS)، فإننا في فعاليات المجتمع المدني والحركات القومية الكردية – من منظمات وشخصيات مستقلة – نتابع هذه التطورات باهتمام بالغ، لما لهذا الحدث من أثر…