سيادة العقل الأوربي الأمريكي تاريخيا..!

  دهام حسن

ساد العقل الأوربي الأمريكي في العالم بعد حقبة من السبات الطويل نحو ألف عام، امتدت من سقوط الإمبراطورية الرومانية، والتي أرّخ لها بحدث تاريخي هام هو سقوط مدينة روما عام 476م بيد البرابرة، وحتى العصر الحديث عصر النهضة والتنوير، الذي تبدأ انطلاقته كما هو متفق عليه نحو عام 1500م مع بعض الاختلافات في التحديد، وليتصدر الغرب بالتالي الحضارة البشرية من حينها، ويستمر في السيادة إلى يومنا هذا..


جاء تسيّد الغرب هذا بعد مخاض عسير، وسعي محموم من القوى المطاحة بها لتوقيف عقارب الزمن، وكأن التاريخ ينبغي أن يتوقف عندها، وهذا دأب القوى التي استنفدت فرص بقائها، وبالتالي تعـذرُ القدرة على التواصل والاستمرار في مفاصل التحولات الاجتماعية تاريخيا…
تجلت ديناميكية العقل الغربي (الأوربي الأمريكي) في ملاحظة أن العالم في تحرك وتغير دائمين، وبالتالي لا بد له من رصد هذا الواقع المتغير، برؤية ومنظور جديد، وهذا لا يكون بالاكتفاء بما قاله السلف، فجاء السعي للتوفيق بين العلوم العقلية والعلوم النقلية، أي إيلاء الاهتمام بالأولى، وغربلة الثانية، أي عرضها للنقد، لتجاوز ما يمكن تجاوزه، والبناء على ما يمكن الاستفادة منه..

إن أيّ واقع جديد ينبغي مواجهته بأسلحة جديدة، وقبل أيّ شيء لا بد من قراءة الواقع، ودراسته، ومن ثم البحث عن طرق معالجته، والغرب في العصر الحديث دشـّن ثورته على الواقع في البدء بتحطيم سطوة الثنائي الإقطاع والكنيسة، وبالتالي الفصل بين الدين والدولة، (ما لله لله وما لقيصر لقيصر)..

كما توجه الغرب باتجاه رصد الطبيعة والمجتمع والإنسان الفرد، بعد اغتنام تركة واسعة من الثقافة ورثوها عن الإغريق والرومان، فدعوا لبناء جنة لهم على الأرض على شاكلة جنة السماء، فرأوا ذلك لا يتحقق إلا عبر التقدم المطرد، في حقول التنمية البشرية والاقتصادية والثقافة، والنهل من العلوم الحديثة، فجاء الحث على انتشار حركة العلمانية، وبهذا تم اختفاء كثير من القيم طواها الزمن مع استهلال العصر الحديث، لتنفتح الطريق أمام إرساء قيم جديدة، فقد تمت مواجهة القديم بنزع إهاب القداسة عنه، ونبذ جلال الخضوع له، والتشديد والتأكيد على قيمة الإنسان، ومحوريته في الحياة، ووجوب تحريره من طلاسم السلف، وسلطان رجال الكنيسة، وترك المجال له بحرية في إطار علاقته بربه، بعيدا عن التعصب, والانقياد الأعمى، وما يسبب ذلك بالتالي من شلل فكري..

كان لا بد في هذا التوجه، من القضاء على سلطة النبلاء، والثورة ضد العبودية واسترقاق الإنسان، والحد بداية من سلطة الكنيسة..

منذ القرن السادس عشر أي بداية العصر الحديث، ناسب الغرب العقل والعلم، باعتبارهما سلاحا ذا قيمة لا يضاهيه أي سلاح، فبهما يمكن للغرب من تخطي الحاضر المثقل بأغلال الماضي، ومواكبة ركب التقدم الحضاري، فإذا ما اعترضهم إشكال ما، مثلا معضلة اجتماعية أو اقتصادية، فسرعان ما تلتئم مؤسساتهم بمختلف مناهلها الفكرية والسياسية، للكشف عنها، والخروج بمعالجة مناسبة..

كما أعار الغرب أهمية كبيرة للأفكار، فرأى فيها قوة حافزة تهيء الفرد والجماعة في كيفية مواجهة الواقع، وإيجاد حلول لمشكلاته، رغم ما أشيع عن بعض المفكرين، أن لا تأثير للأفكار في حفز الناس ودفعهم نحو المطالبة بحقوقهم، أو دفعا لعدوان، ونقول هنا، إذا كانت المظالم دفعت الفرنسيين باتجاه ثورة 1789 فإن أمثال فولتير وجان جاك روسو قـد بينوا، ومهدوا بفكرهم، ورصدهم للواقع الفرنسي آنذاك، وكيفية مواجهتها، فلا يمكن فصل الفكر عن الواقع، ولا قراءة الواقع دون خلفية فكرية، فكلاهما الفكر والواقع متلازم، وأيضا فالمظالم تحفز الناس نحو التمرد والثورة، وهنا يأتي الفكر كرداء مناسب للثورة..

ثم ما الذي حدا لويس السادس عشر في سجنه وهو ينتظر قضاء المقصلة قبل إعدامه، أن يقول بعد أن قرأ لفولتير وروسو (هذان الرجلان هما اللذان دمرا فرنسا) وكان يقصد تدمير النظام الملكي في فرنسا، ما كان ليقول ذلك لولا تأثير أفكارهما واستحواذها على عقول الناس وأفئدتهم..

في هذا المدار وتساوقا مع الفكر الغربي، ظهرت حركة فكرية في الغرب عرفت بالعقلانية أو الحركة العقلانية، وهي بمثابة مجموعة من الأفكار، تعين الإنسان لفهم واقع الحياة، وحقيقة الكائنات، وهذا البعد والغوص في التفكير أبعد المفكر العقلاني عن العقيدة المسيحية التقليدية، فهذه النزعة ترى أن بمقدور العقل معرفة جانب من تدبير الله في إدارة الكون، رغم هذا فقد برزت أشكال عديدة من الدعوات سعت للتوفيق بين العقلانية والمسيحية، لكن في الحقيقة أن العقلانية نبذت كل ما هو غيبي، أو خارق للعادة، فأبقى على ما هو قابل للفهم والتعليل، فإيمانهم بالعقل لا يحده شيء، الم يقل المعري قبل نحو ألف سنة..

(أيـّها الغــرُّ إن خصصتَ بعقل ****** فاتّبعه “فكل عقل نبي”)

وهذا مكيا فللي يشاطر العقلانيين رأيهم في رفضه عن وجود شيء خارق للطبيعة، وأن الله بمنأى من أن يتدخل في شؤون العباد..

أولى الغرب أيضا اهتماما كبيرا للعلوم الطبيعية، فأنشؤوا أكاديميات بهذه الغاية، كما وجدت جمعيات علمية للغرض نفسه، وعزا بعضهم هذا التقدم الهائل إلى العامل الاقتصادي، والأعمال التي يديرها الرأسمالي، فضلا عن ازدياد الثروة، لكن كل هذا كان مرتبطا بالعلم، فالعلوم الطبيعية تأتي انعكاسا للبيئة الاجتماعية وبالتماشي مع مستوى تطورها، فقد أدرك الغرب حقيقة العلاقة بين العلوم الطبيعية، وبين درجة من تطور الفرد وحريته، فوجد بتوفر الحرية للأفراد والمؤسسات، يعني مزيدا من التقدم العلمي، ومن هنا جاء التركيز على خصلة الحرية، وفي خضم هذا الصراع ظهرت الليبرالية كمذهب جديد، ومن أهم سماتها في جانب العقيدة المسيحية دعوة الليبرالية إلى حرية المعتقدات بين من يؤمن ومن لا يؤمن، وأثرت عنها عبارة شاع انتشارها تقول: (كل حرٌّ في دينه) أي اللبرلة في الدين، وعنت الحرية في ممارسة المعتقدات الدينية، وأيضا الحرية بين الإيمان والإلحاد..

بمضي الزمن ازداد عدد المتعلمين، وتحقق كثير من التقدم، فتنبه الغرب لرسالة الإنسان في هذا الكون، وقدروها، وكيف أنها تناقض الجانب التقليدي في العقيدة المسيحية، ورأوا أن اضطراد التقدم، يقودهم حتما إلى الوفرة والسعادة، وزوال كثير من الرذائل والآثام، حيث طغت نظرة أخلاقية، هي أقرب بالجانب السمح في الديانات الثلاث اليهودية، المسيحية، الإسلام، وكان الهادي في كل هذا هو العقل، وعلى العموم حقق الغرب ما عملوا من أجله، من تقدم في مختلف الميادين، فضلا عن الوفرة، والسعادة، والحرية..

إن شعوب بلدان العالم الثالث تأثرت كثيرا بالعقل الغربي، وتفاعلت مع منجزاته في شتى الميادين، في الحياة، والعلم، والسياسة، كما بهّره سحر الدولار، ونمط الحياة في تلك الأصقاع البعيدة، فضلا عن الحرية في العلاقات الاجتماعية والممارسة السياسة، وانسحب التأثير على عقول الأجيال، عبر وسائط الاتصالات العديدة، من السينما، فالتلفاز، والزيارات، وأخيرا الإنترنيت..

حيث أصبح العالم بمرأى أعين الجميع..

إننا في العالم العربي إذا فكرنا في نقل شعوبنا إلى مصاف الأمم المتقدمة، استذكرنا الماضي، وذرفنا الدموع لزوال تلك الأمجاد، فلم نزل نعيش في الماضي، الماضي الذي لن يعود، وهذا تعبير عن عجزنا، أما أن نفكر بالمستقبل والأخذ بأسباب التقدم، فهذا غير متفق عليه، فمن جانب لا نولي العلم الأهمية اللازمة، ولا نحن بمعرض فك القيود عن حريات الناس، ولسنا بصدد إنشاء جمعيات أو مؤسسات البحث العلمي، فمازلنا نختلف في مسالة شرعية كالتيمم..

إن الإبداع لا يأتي في ظل الجوع والكبت وغياب الحريات، والمهاجرون من سكان العالم العربي الذين يعيشون في الغرب، ربما يقدر أو ما يقرب من ذات العدد القاطنين ما بين المحيط الهادر إلى الخليج الثائر…

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

خالد بهلوي تحت شعار “وقف العنف والتهجير – العيش المشترك بسلام”، وبمبادرة من مجموعة نشطاء من الشابات والشباب الغيورين، شهدت مدينة إيسين الألمانية يوم 21 ديسمبر 2024 وقفة احتجاجية بارزة للتعبير عن رفض الاحتلال التركي والتهديدات والانتهاكات التي يتعرض لها الشعب الكردي المسالم. الحضور والمشاركة: حضر الفعالية أكثر من مائه شخصً من الأخوات والإخوة الكرد والألمان، إلى…

د. محمود عباس ستكثّف الولايات المتحدة وجودها العسكري في سوريا وستواصل دعمها لقوات سوريا الديمقراطية (قسد) والإدارة الذاتية. تدرك تركيا هذه المعادلة جيدًا، وتعلم أن أي إدارة أمريكية قادمة، حتى وإن كانت بقيادة دونالد ترامب، لن تتخلى عن الكورد، لذلك، جاء تصريح أردوغان بعد عودته من مصر، ووزير خارجيته من دمشق اليوم كجزء من مناورة سياسية تهدف إلى تضليل الرأي…

شادي حاجي المرء لا يذهب إلى طاولة المفاوضات وهو خالي الوفاض وإنما يذهب وهو متمكن وقادر والمفاوض يكشف أوراقه تدريجياً تبعاً لسير العملية التفاوضية فعند كل منعطف صعب وشاق يقدم المفاوض بطريقة أو بأخرى معلومة ولو صغيرة حول قدراته على إيقاع الأذى بالطرف الآخر من أجل أن يكون مقنعاً فعليه أن يسأل عن مقومات الندية والتي تتركز على مسألة القوة…

إبراهيم اليوسف منذ سقوط النظام المجرم في 8 كانون الأول 2024 وتحول السلطة إلى السيد أحمد الشرع، بات السوريون، سواء أكان ذلك في العاصمة دمشق أو المدن الكبرى والصغرى، يتطلعون إلى مرحلة جديدة يتخلصون فيها من الظلم والاستبداد. حيث سنوات طويلة من مكابدات المعذبين في سجون الطاغية الأسد وأبيه كانت كفيلة بتدمير أرواح مئات الآلاف. بعض السجناء أمضوا…