إشكالية المواطنية كمفهوم إشكالي

  حسين عيسو

اندلعت خلال الأيام القليلة الماضية العديد من النقاشات , والتي دارت كلها حول مفهوم المواطنية , وحاول العديد من المتداخلين إغناء الموضوع , بنقد آراء من سبقه بشكل جدي بعيد عن الشعاراتية والتهم الجاهزة , لكل ذلك رأيت أن لا بد من العودة الى هذا الموضوع الإشكالي والهام جدا , بالنسبة لنا في سوريا , كبلد متعدد الإثنيات والأديان والمذاهب .

يقول جان جاك روسو في كتابه “العقد الاجتماعي” : “كان الخطأ الأكبر للإمبراطور الروسي “بطرس الكبير” , هو أنه حين حاول إصلاح روسيا , أراد أن يجعل من شعبه المتأخر عن ركب الحضارة , “ألماناً وإنكليز” !, لذلك فشل في تحقيق طموحاته , فكما أن المهندس يتأمل الأرض ويسبر غورها قبل البناء , يجب على منشئ الشرائع الحكيم , أن يفكر في إمكانيات شعبه في تطبيق تلك الشرائع” , ونحن كسوريين , كردا أو عربا أو آثوريين …,
نأمل أو نحاول أن نعمل من أجل سوريا ديمقراطية , من خلال ترسيخ مفهوم الهوية المواطنية في الثقافة الاجتماعية والسياسية – مستقبلا وليس اليوم – تلك الهوية التي افتخر بها فيلسوف مثل روسو , حين عرّف نفسه في كتابه العقد الاجتماعي ب “مواطن من جنيف” , فالفرق كبير جدا بين الرعايا الذين ما عليهم إلا الإذعان باستسلام , في الدول التي تحكمها سلطة استبدادية , وبين المواطنين الذين يشاركون فعليا في شئون دولتهم وولاؤهم للقوانين التي يضعونها هم , يقول جون لوك : يبدأ الاستبداد حيث تنتهي سلطة القانون .


          لقد ناقشت سابقا هذا الموضوع , سواء في الجلسات مع الأصدقاء أو النشر في المواقع الألكترونية , ولعدم إفساح المجال لسهام جديدة , واتهامي بأني أكرز للمواطنية , التي نعيشها اليوم , فأوضح – وأمري لله – , بأني أقصد أن لا مواطنية حقيقية في الدول التي تحكمها أنظمة استبدادية , وتعريف الهوية , في الدول يأتي حسب الأنظمة القائمة فيها , وهي كالتالي :
        1 – في النظام الملكي المطلق “غير الدستوري” , حيث يستمد الملك شرعيته من الحق الإلهي أو الوراثي يعامل أفراد الشعب كرعايا في الدولة , لا حقّ لهم غير إظهار الولاء لشخص الملك وكل ما ينالونه منح كريمة من جلالته , وما عليهم سوى الشكر والإذعان  باستسلام .
       2 – في الأنظمة الاستبدادية والشمولية , ولو أنها عمليا , تشبه النظام الملكي المطلق ,  ولعدم وجود سند شرعي لذلك , فإنها تخترع ما يسمى بالشرعية الثورية , أو الجماهيرية معتمدة في ذلك على الاستفتاءات وحشود جماهير الغوغاء التي تهتف للسلطة , يقول الكواكبي : “الاستبداد يعتمد على وسيلتين : جهالة الأمة , والجنود المنظَّمة , وهما أكبر مصائب الأمم , وأهم معايب الإنسانية ,…..

والاستبداد صفة الحكومة المطلقة العنان التي تتصرف في شئون الرعية كما تشاء بلا خشية من حساب”.


     3 – في الأنظمة القومية أو الدينية والأيديولوجية, يمنح الفرد المنتمي الى الجماعة السائدة موقعا تفضيليا , ويصبح ارتباطه بجماعته محور سلوكياته  فتطغى الهوية الخاصة بتلك المجموعة على الهوية الوطنية الشاملة , وتنفرد تلك الفئة باتخاذ القرارات وإقصاء الآخر والاستئثار بالسلطة , وممارسة القمع والتحريض ضد المختلف قوميا أو دينيا , ويتحول الوطن الى رهينة في أيدي تلك المجموعة , وتصبح الوطنية حكرا عليهم وينظر الى الآخر الوطني بعين الشك والريبة في وطنيته , فلا يجد ملاذا له , إلاّ ضمن جماعته الطائفية أو القبلية أو القومية , بحثا عن الحماية والأمان في ظلها , فيستقوي كل فرد بهويته الفرعية وتتحول الولاءات الى ما دون الوطنية , فيتفكك المجتمع ,ويفرغ مفهوم المواطنية من مضامينه السياسية والمجتمعية , ليحل الاستبداد .
        4 – في الدولة المدنية تتحدد علاقة الفرد , لا بفرد آخر كما في الأنظمة الملكية والاستبدادية , ولا بمجموعة أفراد كما في الأنظمة الدينية والقومية الشوفينية , ولكنها مرتبطة بالدولة , كعلاقة قانونية , فالمواطنية مرتبطة بدولة القانون التي تقوم على منطق احترام التنوع والمساواة في الحقوق والواجبات , ولا تعامل أيا من مواطنيها بأسلوب تفضيلي , بسبب قوميته أو دينه أو طبقته , ولا سلطة فيها لغير سلطة القانون التي يتساوى أمامها جميع المواطنين , فالشعور بهذه المساواة من قبل المواطنين يوحدهم , ويزيد التضامن بينهم , ويؤدي إلى الاحترام المتبادل والتحلي بالتسامح والسعي المشترك نحو تحقيق المصالح العليا للوطن وخير المجتمع , والعلاقة وطيدة بين مفهومي المواطنة والديمقراطية فلا مواطنية بدون ثقافة ديمقراطية للمجتمع , ولا معنى للديمقراطية بدون مواطنين أحرار , يعون ما لهم من حقوق وما عليهم من واجبات , يشاركون في صنع القرار ومحاسبة المسئولين عن أعمالهم في دولة مدنية تمارس الحياد تجاه مواطنيها وتتولى تنظيم العلاقات داخل المجتمع قانونيا .


      فرنسا اليوم , مثلا , تشكلت من عدة قوميات “غال , بريتون , كورسيكيين , إيطاليين , باسك , وألمان الألزاس واللورين , هذا عدا مئات الطوائف الدينية” , وكذلك إسبانيا ” قشتال , كاتالون , باسك وأرغون وغيرهم” ولم ينس أي من أولئك قوميته أو مذهبه الديني , ولكنهم وجدوا حل مشاكلهم في “الدولة المدنية” , التي ننشدها مستقبلا لبلدنا , رغم أنهم دفعوا الكثير وأسالوا أنهارا من الدماء , لكنهم استفادوا من أخطائهم , حين أعادوا قراءة ذلك التاريخ الدموي , بعقلانية , ليصلوا الى الوئام الذي هم فيه اليوم , يقول العالم الألماني “يورجين هابرماس” : لا ترتبط المواطنية في مفهومها بالهوية القومية , وكذلك المحامي الفرنسي بودوان يقول : إن كامل القوام الوطني يشكل “أمة” , حتى لو كان هناك تنوع في الأديان والأعراق واللغات .


       لكن يجب التنبه الى أن المواطنية إضافة الى أنها علاقة  بين المواطن والدولة هي أيضا علاقة بين المواطن والمواطن وتعني الاعتراف بالاختلاف والتسامح بين المختلفين دينيا و قوميا و أيديولوجيا , كذلك الى أن المواطنية والديمقراطية ليستا جرعات دواء جاهزة , وإنما ثقافة وممارسة , ولكي تترسّخ في المجتمع , تحتاج الى تطور في ثقافته الاجتماعية والسياسية , وفي ذلك يقول المفكر السوري “جورج طرابيشي” : “الديمقراطية قبل أن تمارس في صندوق الاقتراع , يجب أن تبدأ من صندوق الرأس” .
الحسكة في : 18/11/2010
Hussein.isso@gmail.com

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest


0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

بوتان زيباري   في خضم هذا العصر المضطرب، حيث تتداخل الخطوط بين السيادة والخضوع، وبين الاستقلال والتبعية، تطفو على السطح أسئلة وجودية تُقلب موازين السياسة وتكشف عن تناقضاتها. فهل يمكن لدولة أن تحافظ على قرارها السيادي بين فكي كماشة القوى العظمى؟ وهل تُصنع القرارات في العواصم الصاعدة أم تُفرض من مراكز النفوذ العالمية؟ هذه التساؤلات ليست مجرد تنظير فلسفي،…

د. محمود عباس   لا يزال بعض الكتّاب العنصريين، ولا سيما أولئك الذين يختبئون خلف أسماء مستعارة، يتسكّعون في فضاءات بعض المواقع العربية، لا ليُغنوا النقاش ولا ليُثروا الحوار، بل ليُفسدوه بسموم مأجورة، تعيد إنتاج خطابٍ مريض يستهدف الكورد، هويتهم، وقضيتهم، بلهجةٍ مشبعة بروح بعثية أو طورانية حينًا، وبخطابٍ ديني شوفيني متكلّس حينًا آخر. هؤلاء لا يهاجمون فكرًا ولا يناقشون…

علي شمدين مع سماعنا للتصريحات الإيجابية التي أدلت بها، بعد انتظار طويل، رئاسة المجلس الوطني الكردي في سوريا، بات الطريق مفتوحاً أمام انعقاد المؤتمر الكردي في سوريا، الذي سوف تشارك فيه أوسع قاعدة جماهيرية، وينبثق عنه موقف كردي موحد ووفد مشترك يمثل مختلف أطراف الحركة الكردية في سوريا. لا نريد العودة إلى أسباب هذا التأخير والتي كادت أن تفوت هذه…

.. المحامي عبدالرحمن محمد   إلى السيدة.. إلهام أحمد، مسؤول العلاقات الخارجية.. وإلى كل مسؤول وقيادي حزبي كوردي في المجلس الوطني الكوردي: يرجى عدم طرح وتداول المفاهيم والمصطلحات الخاطئة في الرؤية السياسية الكوردية المرتقبة، كونها لها نتائج سلبية كارثية وخطيرة على حق تقرير المصير للشعب الكوردي في المستقبل، وللأجيال القادمة. من الناحية القانونية والسياسية والحقوقية، حسب القانون الدولي وميثاق الأمم…