العقلانيّة دريئة ومنصّة لرفض الحقائق الوطنيّة والالتفاف على حقوق الشريك الوطني!.

هوشنك أوسي

أين تنتهي العقلانيّة، ويبدأ التطرّف (اللاعقلانيّة)؟.

وأين يقف التطرّف ويبدأ الاعتدال (العقلانيّة)؟.

ما هو سقف العقلانيّة ومعاييرها ومبادئها وأصولها وفروعها، في تناول قضايا الأقليّات القوميّة والشعوب؟.

متى تغدو مطالبة المرء بحقوقه القوميّة _ الوطنيّة، طعناً أو تشكيكاً في وطنيّته؟.

متى يكون الاعتراف بالحقائق التاريخيّة والحضاريّة، واستتباعاتها واستحقاقاتها الوطنيّة، طعناً وتشكيكاً في الوطنيّة، ومنافياً لحضور العقل في صوغ الخطاب، ومناقضاً للعقلانيّة في طرحه؟.

هل هنالك عقلانيّة واقعيّة وعقلانيّة خياليّة _ لاواقعيّة؟.

هل هنالك تجييش عقلاني وتجييش غير عقلاني؟… هذه الأسئلة، وأكثر منها، خلصت إليها، حين قرأت ما سطّره الكاتب عمّار عكلة، تحت عنوان: “الخطاب الكردي بين العقلانيّة الواقعيّة والتجييش اللاعقلاني”، ونشره موقع “ولاتي مه” الكردي السوري، بتاريخ 1/10/2010.
برأي الكاتب العزيز، في مقاله السالف, أنه “تعالت في الآونة الأخيرة أصوات مّكنت صوت العقل وغلّبته على كل صوت , إذ دأب الكثير من المثقفين والمهتمين بالشأن العام التركيز على موضوع حاضر ومهم بالغ الأهمية لخروجنا مما نحن فيه من واقعٍ مزرٍ , وأصبحت  تنادي هذه الأصوات بالمواطنة حلاً أمثل للوصول إلى وطنٍ للجميع دونما تحاجز عرقي , أثني , طائفي ومذهبي لتكون سوريا أرض الجميع وتنتفي معها الأقلية والأكثرية العرقية أو الطائفية , لتحل مكانها الأقلية والأكثرية السياسية , ولتكون أحزابنا وطنية أولاً ومؤسسات مجتمعنا المدني من نقابات وجمعيات وغيرها, مدنية حقاً , ولا تحكمها العلاقات ما قبل الوطنية “عشائرية ضيقة و أثنية مقيتة وطائفية قذرة” وهذا يتطلب منا نحن أبناء الوطن أجمع من كل الأطياف أن تتضافر جهودنا،…”.

هكذا رأي، يشي بالرعب من ثقافة التنوّع القومي والعرقي والديني والمذهبي والطائفي…، والأعتراف بها، وإيفاء استحقاقاتها السياسيّة والثقافيّة، تحت سقف دولة مدنيّة، تعدديّة، تشاركيّة، تكون التعبير الأصدق والأجود لحقائق التنوّع الاجتماعي ومعيار لها.

وكأنّ الكاتب يرى أن الدولة الوطنيّة المدنيّة، هي بالضدّ من المطالبة بالحقوق القوميّة لقوميّات أو أقليّات قوميّة أو دينيّة أو مذهبيّة تحت سقف الدولة!.

وأن هكذا مطالب من أحزاب أو هيئات أو شخصيّات، هي انزلاق نحو العلاقات ما قبل الوطنيّة “عشائريّة ضيّقة وأثنيّة مقيتة وطائفيّة قذرة” حسب تعبيره!.

والحقّ أن هكذا رأي، قفزٌ على الواقع والوقائع والحقائق.

وهي اللاعقلانيّة بعينها، في الفكرة والطرح.

ولعلّ نزعة ضرورة التنكّر للتنوّع القومي والديني والمذهبي، ومحاولة الالتفاف على معالجة قضاياه وإشكالاته، هو بالضد من صلب وجوهر العمل الوطني المشترك، المتجاوز للخلفيّات والحزازات القوميّة والطائفيّة، ونسف لفكرة أن الوطن المتصالح مع مكوّناته وهويّاته, هو الأمتن والاكثر حصانة، وميلاً نحو الاستقرار والتلاحم والتكافل والتكامل الوطني.

بمعنى، محنة الشعب الكردي وقضيّته وحقوقه القوميّة والسياسيّة الوطنيّة العادلة، هو المحكّ والامتحان الحقيقي والجدّي للسلطة السوريّة، والمعارضين لهذه السلطة في آن.

وإذا كان لكل منّا مفهومه الخاصّ به، حول الوطنيّة، نفصّله على مقاسنا، فلن نصل الى نتيجة.

وإذا احتكمنا للقانون الدولي والمواثيق والعهود الدوليّة، وحتّى للشرائع السماويّة أيضاً، (إذا شاء البعض)، وعطفنا على ذلك التعريج على تجارب الشعوب التي تمتلك إرثاً عرمرماً في دولة المواطنة والحقوق والمؤسسات، لرأينا، إن ما طرحه الأخ عكلة، فيه من التجيير لمفهوم المواطنّة وفهم مغلوط لها، على اعتبار الوطنيّة هي التبرُّؤ من الهويّة القوميّة في الحراك السياسي.

وأن الأحزاب الوطنيّة، هي التي لا تضمّ في برامجها مطالب وحقوق قوميّة!.

وإذا كان التبّرؤ من الهويّة الدينيّة والمذهبيّة من مقتضيات العلمنة ودولتها وميثاقها الوطنيّ الديمقراطيّ، وفق مبدأ: “الدين لله، لمن آمن به، والوطن للجميع” و”فصل الدين عن الدولة”، فأن التبرّؤ من الهويّة والحقيقة القوميّة، هو المسّ والنيل والطعن في الواقع الوطني، أصلاً وفرعاً.

فالأوطان بما فيها من شعوب وأديان ومذاهب وطوائف.

ولا يمكن لفئة أو جهةٍ إصباغ لونها أو هويّتها أو لغتها على باقي المكوّنات الأخرى الشريكة في الوطن، بالجبر والاكراه، أو بالتطويع والتمييع.

ذلك أن من مسلمّات العقد الاجتماعي في الدولة الوطنيّة، باعتقادي، حماية الهويّات وصونها وتحصينها وتغذيتها وتنميتها، عبر الاعتراف الدستوري بها وبحقوقها.

ودليلاً على ما تمّ ذكره، الأخذ بالتجربة السويسريّة.

هذه الدولة الفيدراليّة، تتكوّن من 26 كانتون، ونسيجها الاجتماعي متنوّع، لها أربع لغات رسميّة، انسجاماً مع قوميّاتها الأربع الرئيسة:
الألمانيّة، الفرنسيّة، الإيطاليّة، الرومانيّة.

ورغم أن الألمان هم الغالبيّة، إذ يشكّلون نحو 75 بالمئة، إلاّ أنهم لم يفرضوا لغتهم على باقي القوميّات الشريكة في الوطن.

ورغم أن عدد المتحدّثين بالفرنسيّة نحو 20 بالمئة، وعدد المتحدّثين بالإيطاليّة 4 بالمئة، وعدد المتحدّثين بالرومانيّة نحو 1 بالمئة من السكّان، إلاّ أنّها لغات رسميّة، معترف بها وبقوميّاتها ومصانة بقوّة الدستور الوطني الاتحادي.

ولم يقل الألمان: نحن الأغلبيّة، وإذما طالب الفرنسيون أو الطليان أو الرومان، بالاعتراف بهم وتضمين حقوقهم القوميّة دستوريّاً، فهذا حنينٌ إلى العلاقات ما قبل الوطنيّة، وتهافت على العشائريّة…، وقصورٌ وخللٌ في الانتماء الوطني، ولاعقلانيّة، ومغلاة وتطرّف في المطالب…، إلى آخره، على شاكلة ما يقوله البعض من الوطنيين المعارضين، التوّاقين الى دولة العدالة والحقّ والمواطنة في سورية!.
ولعلّ المثال البلجيكي أيضاً يتقاطع والتجربة الوطنيّة السويسريّة.

إذ أن اللغات الرسميّة فيها هي الهولنديّة والفرنسيّة والألمانيّة.

الناطقون بالهولنديّة نحو 59 بالمئة، وبالفرنسيّة 40 بالمئة، و1 بالمئة، هم الناطقون بالألمانيّة.

فتصوّر يا رعاك الله!.

وعليه، ما المشكل إذا كانت اللغات الرسميّة في سورية: العربيّة والكرديّة والسريانيّة والأرمنيّة!؟.

ما المشكل إذا كانت الدستور السوري يعترف بوجود هذه القوميّات، ويضمن حقوقها القوميّة والسياسيّة والثقافيّة في السلطة والثروة، على اعتبار أن الوطن للكلّ، والكلّ للوطن!؟.

إذا كان هكذا طرح، لاعقلانيّاً وفيه من التطرّف، واللاوطنيّة، في عرف النظام الشمولي الحاكم في سورية، فأقلّه أن تكون هذه المطالب، جد طبيعيّة ومعقولة، ومن مقتضيات ومستلزمات الحال التآلفيّة الوطنيّة والشراكة الوطنيّة، لدى من يزعم معارضة النظام السوري، الطائفي!.

فطائفيّة هذا النظام، وإن ارتدت لبوساً قوميّاً، ليست بحاجة إلى أدّلة.

ولعلّ من فكاهات الحال السياسيّة الحاكمة في سورية، نبذها ومقتها للطائفيّة، وهي نفسها تلقي بهذه التهمة على كلّ من يضعها في خانة المساءلة الوطنيّة، والقول عنه: “إنّه طائفي، ويتحدّث بلغة طائفيّة”!.

فالنظام السوري، يتحلّى ويمتهن الطائفيّة منذ ثلاثة عقود.

و”يحتقر ويمقت” الطائفيّة والطائفيين، منذ ثلاث عقود!.

ولن يألو المرء جهداً في معرفة أن الكثير من مفردات قاموس سياسة السلطة الحاكمة في دمشق، والكثير من تقييماتها، قد تسرّب إلى خطاب البعض من معارضي هذا النظام، أو من يزعمون أنّهم معارضون له!.
يرى الأخ عكلة أن من أولويات العمل المشترك:”مد جسور الثقة والمصداقية , وترجمة الأقوال إلى أفعال , والبحث في أسباب التنابذ بيننا , وهذا يقتضي في البدء ترك صيغة الخطاب الشوفيني أو الطائفي والإيديولوجي , وتمَثـُل ذلك فعلاً, قولاً وعملاً الرد على كل  صوت نشاز خارج السرب واعتباره هدّاماً للوحدة الوطنية والمواطنية التي ننشد لكلنا نحن السوريين”.
والسؤال هنا: أين هي الوحدة الوطنيّة التي نخاف عليها من “الأصوات الهدّامة، النشاذ وخارج السرب”؟.

في ظل نظام الحزب الواحد، وتحت رعاية حالة الطوارئ والأحكام العرفيّة ومحاكمها الاستثنائيّة منذ نصف قرن تقريباً، ووسط حالة التهميش والاقصاء والاستهداف التي تطال الحال القوميّة الوطنيّة الكرديّة، على كافّة الأصعدة، وغير المعترف بها دستوريّاً، هل يمكن ان نتحدّث عن وحدة وطنيّة!؟.

أوليست الوحدة الوطنيّة التي يمكن أن تزعزعها “أصوات نشاذ” عبر مقالاتها، هي من الهشاشة والتضعضع والخلل البليغ، ما يخوّلنا للقول: إنها محض وهم وخرافة، نرددها وصدّقناها، دون أن نعي خصال ومتطالّبات الوحدة الوطنيّة!؟.

فليس بالضرورة أن يكون انعدام حرب أهليّة في بلد ما، دليلاً على وجود وحدة وطنيّة!.

الوحدة الوطنيّة، حاضنتها الحريّة، وقوامها التعدديّة والشراكة والتداول السلمي للسلطة، وحصنها الدستور الوطني!.

فأين سورية من كل هذا يا عزيزي!؟.

الوحدة الوطنيّة تنتجها دولة المواطنة الحرّة، لا دولة الاستبداد والفساد والحزب الواحد.

الوحدة الوطنيّة هي التتويج للإقرار والاعتراف بالحقائق التاريخيّة والجغرافيّة للهويّات القوميّة والثقافيّة المكوّنة للهويّة الوطنيّة الجامعة.

وعليه، من يزعم وجود وحدة وطنيّة في ظل الاستبداد، هو واهم.

والواهم، آخر من يتحدّث عن العقل والعقلانيّة.

لكون العقل الوطني، ليس زاده الأوهام، بل الحقائق، بشقّيها التاريخي والجغرافي والانتروبولجي.
يقول الأخ عكلة: “ولنأخذ مثالاً الخطاب الكردي الهادئ والمسؤول الذي ينظر إلى المسألة الكردية كمسألة وطنية سورية , وحلها يكمن في سوريا دولةً للحق والقانون دولة لكل أبنائها , وكذلك الخطاب الذي تتبناها المنظمة الآثورية أيضاً.

إذ يرى هذا الخطاب أننا سوريون لنا ما لنا وعلينا ماعلينا , وهذا يحيلنا أن نحيا جميعاً على هذه الأرض التي لا يمكن لأحد أن يستأثر بها على الآخر أو يتقدم عليه , وليس هناك من مواطن درجة أولى أو ثانية تصنيفه حسب العرق أو المذهب , بل تنتفي في دولة المواطنة هذه التقسيمات دون نفيها , ليكون هذا التنوع مصدر إثراء للثقافة والوعي , ولا تنتفي معه خصوصية مكونات المجتمع , فالعربي يعتز بعروبته ولا تتنافى مع اعتزاز الكردي بكرديته وكذا السرياني بسريانيته وسواهم , ويكون الجامع المانع بيننا هو بلدنا سوريا “الوطن” , وحينها يجد العربي السوري أن مسؤوليته حرمان شقيقه في الوطن من ابسط حقوقه في الهوية وتأمين مصدر الرزق اللائق والكريم , وهي ليست فقط مسؤولية ذاك المحروم”.
والسؤال هنا: هل اطلع السيّد على برامج كل الأحزاب الكرديّة، قبل أن يطلق هذا الكلام؟.

هل بإمكانه أن يدلّنا على حزب كردي سوري، يرى أن حلّ القضيّة الكرديّة، ليس في دمشق، بل في تل أبيب وواشنطن وجبال الواق الواق!؟.

أجزم، أن كل الأحزاب الكرديّة، وعلى اختلافي معها في الكثير من النقاط، ترى أن الحلّ في دمشق، بينما الأخيرة، ترى الحلّ في القمع والاقصاء والانكار والتحالف مع هذا النظام أو تلك الجهة في العراق وتركيا وايران، ضدّ الحقوق الكرديّة في خارج سورية، فما بالك في الداخل السوري!.

النظام السوري، لا يكتفي بقمع وتهميش أكراد سورية، وبل يسعى لعرقلة الحقوق الكرديّة في دول الجوار!.
طبعاً، قد يقول قائل: لا خلاف حول ما أتى عليه السيّد عكلة، وما طرحه كاتب هذه السطور، في ذلك المقتبس المأخوذ من مقاله السالف.

وفي هذا الملحوظة، شيء من الصواب.

وجه الاختلاف هنا، في أن جوهر المسألة الوطنيّة, ليس أن يعتزّ العربي بعروبته والكرديّ بكرديّته، وكذا السرياني والتركماني والأرمني والشركسي…، بل أن أعتزّ أنا، بعروبتك وبسريانيّك وبأرمنيّك….، ككرديّ.

أن افتخر بوجود الآخر _ الشريك، وباختلاف هويّته القوميّة عن هويّتي، وأقبل باستحقاقات هذه الهويّة على الصعيد السياسي والاقتصادي والاجتماعي والتربوي، وأن أذكر ذلك، في برامجي الحزبيّة، وأسعى إلى تحقيقها وتجسيدها.

أن يعتزّ ويفتخر الميثاق الوطني، والعقد الاجتماعي بيننا، وهو الدستور، بوجودنا جميعاً، كقوميّات لها حقوقها الكاملة في الدولة والمجتمع والسلطة والثروة، وواجباتها الكاملة حيال الوطن والدولة والمجتمع والدستور.

أن أسعى إلى تحقيق عروبتك، ككردي، وأن تسعى لتحقيق كرديّتي كعربي.

وأنا نسعى معاً لتحقيق سريانيّة السريانيّ ونصونها ونحميها، كعرب وكرد ومسلمين.

ألاّ يكون بيننا اليهود، ظاهرة شبه منقرضة، بل أن تكون حيّة ومنتعشة.

ألاّ ننظر بعين الريبة والشكّ، وأحياناً المقت، لليهودي والإيزيدي والتوحيدي (الدرزي).

ألاّ يظن المسلم السنّي بالمسلم العلوي، أن أيدي الأخير ملطّخة بدماء الأوّل.

وألاّ يظنّ المسلم العلويّ بالمسلم السنّي أنه يتحيّن الفرصة للانقضاض عليه، وتصفية حسابه مع الطائفة العلويّة نتيجة ما اقترفه النظام باسم الطائفة، إذما استلم السنّي السلطة!.

وطبعاً، ينسحب الأمر على الكلّ، أن يفتخر ويعتزّ العربيّ بكرديّتي، ولا يرى فيها خطراً يهدده.

وكذا الحال، ما بقيّة المكوّنات.

ومهما نال الكرديّ، سواء في سوريّة أو العراق أو تركيا من الحريّة، تبقى حريّةُ الكرديّ منتقصة، إذا لم ينل العربي والسرياني والآثوري والأرمني والعربي والفارسي والتركي واليهودي والإيزيدي والعلوي والتوحيدي….، حقوقهم كاملة، تحت سقف الوطن.

ثم أن الوحدة الوطنيّة، ليست التزام فردي وحسب، وتقتصر على مشاعر الفرد بالاعتزاز حيال هويّته القوميّة، بل هي التزام جمعي، بحكم الدستور الوطني، الذي يعترف بكافّة المكوّنات العرقيّة الشريكة في الوطن، ويضمن ويصون حقوقها، على كافّة الأصعدة.
ولئن كاتبنا العزيز أتى على ذكر المنظمة الآثوريّة، كدليل وعنوان وطني، ينبغي الاقتداء والاحتذاء بها، لا ضير من ذكر الحادث التالي، والخوض في خلفيّاته، وبه نقيس المنسوب الوطني لدعاة الوطنيّة.

والحادث على الشكل التالي: لا اذكر بالضبط.

ربما كان الأمر سنة 2004 أو 2005، حين ألقى الأخ الأستاذ غابريل موشه محاضرة في حيّ الأكراد بدمشق، وحضرها أيضاً الأستاذ كرم دولة، والأستاذ المحامي فيصل يوسف، إلى جانب لفيف من المهتمّين والناشطين الكرد السوريين.

واعتقد ان الحزب التقدمي الديمقراطي الكردي في سورية، كان راعي ومنظّم الندوة، مشكوراً.

ما لفت انتباهي في ختام المحاضرة، هو انزلاق الأخ موشيه، نحو التزمّد العرقي، رغم حديثه العرمرم عن الوطنيّة والعمل الوطني…، وذلك بقوله، بما معناه: “أنا أرفض رفضاً قاطعاً أن يطلق اسم كردستان العراق، على شمال العراق، فما بالكم بقبولي، تسميّة كردستان سورية”!.

جاء وقع هكذا رأي عليّ، وقع الصاعقة، وبدد كل شحنة التفاؤل التي تشكّلت لديّ، أثناء استماعي لمحاضرته.

وكانت ليّ مداخلة حول الأمر، مبديّاً استغرابي ودهشتي، والقول، بما معناه: “هنالك العشرات، إن لم يكن المئات من السريان والأرمن والآثوريين ممن استشهدوا في الثورة الكردستانيّة، إن في تركيا أو العراق، تحت شعار حريّة واستقلال كردستان.

وهنالك العشرات من العرب أيضاً ممن استشهدوا في سبيل تحقيق هذا الحقّ والهدف الكرديّ!.

هل كان هؤلاء، خونة قومياتهم وأديانهم؟!”.

وطبعاً، يمكن للأخ موشيه، حال قراءته هذه الأسطر، أن ينفي أو يؤكد هذا الحدث، وما أذكره.

وأن يشير إلى رأيه الشخصي والحزبي، من طرح كردستان العراق وكردستان سورية أو غربي كردستان.


مناسبة هذا الكلام، أنه لا يمكن لقوى المعارضة السوريّة، بكردها وعربها وآثورييها…، أن تنادي بالوطنيّة، وفق مقاييس يحددها كل فصيل، أو وفق مقاييس كثيراً ما تكون منسجمة ومتناغمة مع مقاييس ومعايير السلطة الحاكمة في دمشق.

الغالبيّة العظمى من النخب السوريّة، لا زال يلزمها الكثير الكثير، لتصل الى مرحلة البراءة، من إرث الدوغمائيّة القوميّة والدينيّة، المستبدّة بوعيها ولاوعيها.

ولا يستثني كاتب هذه السطور نفسه من هذه الحالة.

وأعتقد أنها عقدة الآخر الذي نريده على مقاس الأنا.

فبرأي الأخ عكلة أن مصطلحات ومسمّيات “غربي كردستان، كردستان سورية…”، منفّرة للحالة الوطنيّة!.

ويتحدّث عن الازدواجيّة في خطاب الأحزاب الكرديّة في الداخل والخارج…!.

والحال هذه، لا مناص أمامنا إلاّ العودة للتساؤل السابق: أين هي الوحدة الوطنيّة؟!.

وهل افتراض حالة وطنيّة، منشودة، وغير محققة، وغير ناجزة، يزعم السيّد عكلة بأنه يسعى إليها، بمعيّة باقي الفصائل المعارضة العربيّة في سورية، تملي عليه أن يطالب الكرد بالكفّ عن رؤاهم القوميّة، لواقعهم القومي الإثني، الجفرافي _ التاريخي، رغم أن هذه الرؤى، مرفقة بالانتماء الى الجسد الوطني السوري!؟.

فمقولة كردستان سورية، مقولة صحيحة وسليمة، تاريخيّاً وجغرافيّاً وسكّانيّاً، ولا يقبل بها الأخ عكلة، الوطني، الديمقراطي، رغم أن من يطرح هذا الشعار، يحيله الى الوطن السوري، إذ لم يقل كردستان فقط، قالها: كردستان سورية.

بمعنى أنه ألحق كردستان بسورية، ولم يلحق سورية بكردستان، ولم يقل: سورية الكردستانيّة!.

يعني أن الكرديّ حين يرفع هذا الشعار، يعتبر كردستان سوريّة جزء جغرافي _ بشري، كردي، من كلّ جغرافي _ بشري، سوري.

وحتّى هذه لا يقبلها بعض الأخوّة العرب في ما يسمّى المعارضة السوريّة!.

فما بالك بغرب كردستان أو كردستان الغربيّة، كيف لهم قبولها؟!.

معطيات ومعايير التاريخ والجغرافيا، تقول أن هذه التسميّة طبيعيّة، ولا لبس فيها.

أما معايير الوطنيّة والمواطنة والعقلانيّة، لدى بعض الكرد، وبعض العرب والآثورين أيضاً، الذين من المفترض أنّه يتجاوزن رؤى ومعايير النظام السوري، يرفضونها، بداعي أنها نشاذ!، وهدّامة!، وخارج السرب!، وتطرّف!، وتنال من الوحدة الوطنيّة، والدولة الوطنيّة العتيدة، المفترضة، المنشودة!.

وعليه، أهل العراق، بعربه وشيعته وسنّته وأقلّيّاته الأخرى، قبلوا ووافقوا على تسميّة كردستان العراق، حتّى أن نظام صدّام حسين الدموي، اعترف ووافق على هذه التسميّة في دستوره، إلاّ أن بعض الديمقراطيين العرب السوريين المعارضين، يرفضون ذلك!.

ولعلّ الحقّ  ليس عليهم، بل على بعض الكرد، من ساسة ونخب، الذين بميوعيتهم “العقلانيّة”، مهّدوا لتكوين هكذا تعاطي من الشريك العربي مع شعارات الشريك الكرديّ.
وحين يتحدّث الأخ عكلة، أن اللاعقلانيّة في الخطاب الكرديّ السوري، منشأها حفنة من المغتربين، ذكّرني هذا الرأي، بكلام رأس النظام السوري، حين تجهبذ، وبدأ يعطي تصنيفات للكرد، ويحصرهم في فسطاطين: “وطنيون، وهم الأغلبيّة، ولا وطنيون، وهم الأقليّة، التي تعلب على العواطف والغرائز والكلام الهوائي التهويمي الشعبوي والتجييشي اللاعقلاني، ويستثمرون القضيّة الكرديّة، خدمة لاجندات خارجيّة”!.

وقد أتيت على تصريحات الأسد _ الأبن، عن أنواع وأصناف الاكراد، في مقال سابق لي، ولا حاجة لتكرار الأفكار التي أوردتها في ذلك المقال.


مرام الكلام: حين تسأل المعارض السوري، أيّاً كان منبته ومشربه: هل أنت مع بنود الميثاق العالمي لحقوق الإنسان؟ سيجيب: بلى.

وإذا سألته: هل أنت مع حق الشعوب في تقرير مصريها؟.

سيردّ: بلى.

وإذا قلت: فلماذا تستكثر على الشعب الكردي في سورية الحكم الذاتي، ضمن الوطن السوري، وليس الانفصال عنه؟.

سيقول لك: هذه حالة خاصّة، وتفتيت للبلد، ونيل من هيبته وسيادته وعزّته وكرامته وسؤدده…، وخدمة للمشاريع الصهيونيّة والامريكيّة والاستعماريّة!.

وإذا قلت له: أن بلدك، سورية، ليس إلاّ ثمرة استعماريّة، ناتجة عن اتفاق سياكس _ بيكو، كحال العراق ولبنان والاردن، وهذه الحدود التي تقول عنها أنها: استعماريّة ومصطنعة، لماذا تقدّسها لدرجة العبادة، إذا تعلّق الأمر بحقّ الكرد في كيان قومي يجمعهم؟!.

أوليست هذه قمّة الأزدواجيّة والنفاق، بل الفصام السياسي والفكري؟!.

ومتى كان الحكم الذاتي أو الإدارة المحليّة، والحكم اللامركزي، طعناً في الوطن والوطنيّة، ونسف للدولة الوطنيّة، بدليل التجارب العالميّة؟!.

يعود ليقول لك: نحن سورية ولسنا سويسرا!.

وإذا قلت له: ما الفرق؟ ولِمَ الخوف من الديمقراطيّة الوطنيّة الحقيقيّة الضامنة والحامية للحقوق القوميّة؟.

سيقول لك: الواقع شيء والنظريات شيء آخر.

في نهاية المطاف، ستخلص إلى نتيجة مؤسفة ومؤلمة، مؤدّاها: إن السلطة، وأشباه المعارضة في سورية، هما وجها لعملة واحدة.

وعلى هذا المنوال، يبقى الوطن على بؤس حاله.

وتبقى الشعوب السوريّة تنعم في كنف بحبوحة الاستبداد والفساد، وافتقاد الوطن لشيء اسمه معارضة وطنيّة حقيقيّة، فاعلة، نشطة، يمكن التعويل عليها، في أيّ مشروع تغييري من الداخل.

وكل ما يثار هنا أو هناك، تحت عنوان العقلانيّة “والمقلانيّة” هو محض زعم للوطنيّة، والتفاف على الموطنّة الحقّة الحرّة، التي أتينا على ذكرها.
وختام القول: لكي يبتنى على الشيء مقتضاه، آتني بدولة وطنيّة، حقّة، ناجزة، قادرة، وعادلة، أتمتّع في كنفها بكامل كرديّتي، دون انتقاص أو مواربة، ويتمتّع العربي بكامل عروبته، والسرياني بكامل سريانيّته… وكذا أيضاً الشركاءالباقون في الوطن، حينئذ طالبني بالتخلّي عن كردستانيّ السوريّة!.

الحقّ أن الأفكار التي أتى بها السيّد عمّار عكلة، حول الوطن والوطنيّة والعقل والعقلانيّة، على ما فيها من لغط وتماهي مع شموليّة خفيّة، بانياً عليها مطالبه من النخب الكرديّة، حالها حال من يريد بيعك السمك والملح، وهما في عرض البحر.

فحتّى الأحزب الكرديّة، الوطنيّة، في سورية، لديه، مُطالبة بتأكيد وتوثيق وطنيّتها، عبر اتخاذ مواقف حازمة من أفرعها في المغترب الأوروبي، لكون تلك الأفرع، خارج السرب، ونشاذ، وتثير أفكار هدّامة للوحدة الوطنيّة!، هذه الأحزاب، وبصرف النظر عن كمّ الاختلاف معها، سقف مطالبها، لا يتجاوز ما تنصّه عليه شريعة الأمم المتّحدة والميثاق العالمي لحقوق الإنسان، هي أيضاً مشكوك في وطنيّها، وعليها بذل المزيد من الجهد، لتؤكّد للسيّد عكلة، أنها وطنيّة خالصة، ولا يشوب وطنيّتها، صوت نشاذ، هدّام، يغرّد خارج السرب!.

وبقدر ما ينسجم الكرديّ مع ما يراه عكلة إطاراً وسقفاً للوطنيّة والحقوق القوميّة، فالكرديّ هنا وطني ومخلص للوطن، ولا شكّ في انتمائه وولائه الوطني.

وهنا أيضاً مكمن العقلانيّة ومسلكها الوحيد، لا غير.

وحال شذوذ الكرديّ عن هذه الرؤية، يكون قد انحرف نحو التطرّف واللاعقلانيّة والتجييش!.

والكرديّ، المغلوب على أمره، ومنذ حقبة الانتداب الفرنسي، وحتّى الآن، يسعى لإقناع الشريك العربي والسرياني السوريَين، بأنه لا يقلّ وطنيّة عنهما، وقدّم أبلغ الدلائل والقرائن والبراهين…، في مقارعة المستعمر الفرنسي، ورفض منطق الدويلات، الذي قبل به العلويون وأهل حلب ودمشق وجبل العرب…،إلاّ أنّ الكرديّ يبقى محلّ شكّ وشبهة، في وطنيّته، حتّى يمتثل لمعايير ومبادئ الوطنيّة التي يضعها له الآخرون.

تضيّق السلطة والمعارضة السوريّة على الكرديّ حياته وأفكاره، وحتّى خياله، وتقمعانه وتصادران رؤاه، وتدفعانه للخيارات الحادّة، والانفصاليّة، ثم تتّهمانه باللاوطنيّة واللاعقلانيّة!.

وإذا كانت مشكلة الكرديّ كبيرة وهائلة ومعقّدة، في كيفيّة إقناع السلطة بأحقيّة ووطنيّة وديمقراطيّة مطالبه وحقوقه وقضيّته، فأزمة ومشكلة الكرديّ في إقناع، ما يسمّى المعارضين العرب والسريان، هي أكبر وأعقد، مع بعض الاستثناءات القليلة، لشخصيّات عربيّة مثقّفة، تنتمي للسياق المعارض لسياسات السلطة، متفهّمة لعدالة الحقوق والمطالب والشعارات السياسيّة الكرديّة السوريّة.

ولا مجال هنا، لذكر الاسماء.

وإذا كان الخطاب الكردي يعاني من التأرجح بين العقلانيّة واللاعقلانيّة، والوطنيّة واللاوطنيّة، وهذه خلاصة مقال السيّد عكلة، فأن الخطاب المعارض، من طينة ما يطرحه الأخ عكلة، لا يعاني من التأرجح، بل مشوب بميل وانحياز لخطاب السلطة، المناقض للمواثيق والعهود الدوليّة وللحقائق التنوّع القومي السوري، والتحايل على الحلّ الجدّي والجذري والمنصف للقضايا القوميّة، التي هي محكّ قضيّة الديمقراطيّة ودولة المواطنة، المأمولة والمنشودة في سورية.

ويبقى الحال على بؤسه، والاستبداد والفساد في سورية، يزداد تفاقماً وشراسة ووحشيّة، إلى أن يتحوّل المعارضون إلى معارضة، لا تكون أخيلة وظلال باهتة للسلطة، أثناء تعاطيها مع القضيّة الكرديّة في سورية.

ربما يكون وقتئذ، كلام آخر.

كاتب كردي سوري

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

اعتبر الزعيم الكوردي رئيس الحزب الديمقراطي الكوردستاني مسعود بارزاني، يوم الجمعة، أن الارضية باتت مهيأة لإجراء عملية سلام شامل في منطقة الشرق الأوسط للقضية الكوردية. جاء ذلك في كلمة ألقاها خلال انطلاق أعمال منتدى (السلام والأمن في الشرق الأوسط – MEPS 2024) في الجامعة الأمريكية في دهوك. وقال بارزاني، في كلمته إنه “في اقليم كوردستان، جرت الانتخابات رغم التوقعات التي…

اكرم حسين في خطوة جديدة أثارت استياءً واسعاً في اوساط السكان ، تناقلت وسائل التواصل الاجتماعي قراراً منسوباً لهيئة الاقتصاد التابعة “للإدارة الذاتية” برفع سعر ربطة الخبز من 1500 ليرة سورية إلى 2000 ليرة سورية ، وقد جاء هذا القرار، في وقت يعاني فيه اهالي المنطقة من تهديدات تركية ، وضغوط اقتصادية ، وارتفاع غير مسبوق في تكاليف المعيشة….

عبدالله ىكدو مصطلح ” الخط الأحمر” غالبا ما كان – ولا يزال – يستخدم للتعبير عن الحدود المرسومة، من لدن الحكومات القمعية لتحذير مواطنيها السياسيين والحقوقيين والإعلاميين، وغيرهم من المعارضين السلميين، مما تراها تمادياً في التقريع ضد استبدادها، الحالة السورية مثالا. وهنا نجد كثيرين، من النخب وغيرهم، يتّجهون صوب المجالات غير التصّادمية مع السلطات القمعية المتسلطة، كمجال الأدب والفن أو…

صلاح بدرالدين في البلدان المتحضرة التي يحترم حكامها شعوبهم ، وعلماؤهم ، ومفكروهم ، ومثقفوهم ، تولى مراكز الأبحاث ، والدراسات ، ومنصات الحوار الفكري ، والسياسي ، والثقافي ، أهمية خاصة ، وتخصص لها بشكل قانوني شفاف ميزانية خاصة تبلغ أحيانا من ١ الى ٢ ٪ من الميزانية العامة ، وتتابع مؤسسات الدولة ، بمافيها الرئاسات ، والوزارات الحكومية…