مذكرات برهم صالح: كنت أكتب للمالكي «بناء على الصلاحيات غير المخولة لي قررنا ما هو آت» (الحلقة السادسة)

معد فياض

رئيس حكومة إقليم كردستان في مذكراته لـ«الشرق الأوسط»: من دون المكون السني تبقى المعادلة ناقصة

كيف لمسؤول حكومي بمنصب نائب رئيس وزراء العراق السابق، مثل برهم صالح، أن يعمل بلا صلاحيات محددة ومنصوص عليها قانونيا؟ كيف له أن يتحرك في مساحة وهمية؟ هذا ما يتحدث عنه في هذه الحلقة، مشخصا مسألة غاية في الأهمية تتعلق بمسألة الشراكة الحقيقية في الحكم، وأثرها على مجمل الأوضاع السياسية والأمنية في البلد، يقول: «لكن من دون المكون السني تبقى المعادلة ناقصة، وأحد أسباب الانهيار الأمني في الوضع العراقي هو غياب المشاركة السنية، ووجود قيادات حسبت خطأ على السنة مما أدى إلى وضع المكون السني العربي في زاوية حرجة وإبعادهم عن العمل السياسي وعدم مشاركتهم وقبولهم لهذا الوضع الجديد في البلد، الذي نتج عن سقوط النظام، وبغياب المكون العربي السني لا تكتمل المعادلة ولن يكتمل استقرار العراق، وما نعيشه من إرهاصات في الوضع الأمني والسياسي يعكس إلى حد كبير عدم مشاركة هذا المكون بشكل يضمن المشاركة الحقيقية للمكونات الحقيقية للشعب العراقي».

وبسؤاله عن الأسباب التي تدفع بالحزبين الكرديين اللذين يحملان الأفكار التقدمية للتحالف مع أحزاب راديكالية، إسلامية، طائفية، يقول صالح: «الحزبان الكرديان الرئيسيان من الأحزاب المدنية لكنها تجتمع في مشتركات مع الأحزاب الإسلامية الشيعية منذ المعارضة، وأيضا من حيث ضمان النظام الدستوري الجديد في العراق»، ويستدرك قائلا: «الأكراد سنة شوافع، والمجتمع الكردي يحترم الدين ولا خلاف في ذلك، ولكن ليست هناك طائفية سياسية في المجتمع الكردي، والمسألة الطائفية لا تؤثر في ذلك.

نحن ننظر إلى الواقع العراقي من منظار سياسي، والقوى السياسية الكردية تبنت النظام الدستوري الاتحادي.

والذين يشتركون معهم في هذا التوجه هم المتحالفون معهم، هناك قوى تريد إرجاع العراق إلى النظام الشمولي الاستبدادي»، مشددا على أن «الكرد لن يستطيعوا ولن يريدوا تقسيم العراق، فغالبية القيادات السياسية الكردية ترى مصلحتها ومصلحة الشعب الكردي ضمن عراق ديمقراطي اتحادي، لكن عرب العراق إن لم يحلوا مشكلاتهم فسوف تنجم مشكلات – لا قدر الله – قد تخلق حالات مؤسفة».


يعود برهم صالح في حكومة المالكي نائبا لرئيس الوزراء، لكنه هذه المرة نائب بلا صلاحيات محددة، يشغل منصبا عائما، له تعريف إعلامي أكثر مما هو سياسي، يقول: «هذه الحكومة (حكومة المالكي) بنيت على توازنات سياسية دقيقة، حيث برز الائتلاف العراقي كقوة سياسية أفرزت المالكي رئيسا للحكومة وكان هناك صراع قوي على كيفية توزيع الصلاحيات، ليس فقط مع المالكي وإنما مع التشكيلات السياسية الموجودة، وموضوع الصلاحيات لم يحسم، بل بقي إلى حد كبير محكوما بعلاقة رئيس الوزراء بنوابه أكثر مما هو الجانب القانوني المنظم في إطار الحكومة، كان مجلس الوزراء مبنيا على توازنات سياسية دقيقة وكان مكبلا بهذه التوازنات، وكانت هناك دائما شكوى من كيفية توزيع الصلاحيات من رئيس الوزراء إلى نوابه وإلى الوزراء، وكنا نتحمل وزر معادلة سياسية صعبة».


ويعبر عما كان يتمناه ويعمل من أجله، قائلا: «كنت أتمنى على هذه الحكومة التي كنت جزءا منها، أن تكون مبنية على أساس إشراك أوسع للآخرين في الجانبين السياسي والأمني، وألا تتحول إلى جزر سياسية منفصلة عن بعضها بسبب التجاذبات السياسية التي حصلت في هذه الحكومة».

ويتحدث عن جزء من معاناته كمسؤول حكومي، ويشغل منصب نائب رئيس الحكومة العراقية من غير أن يتمتع بصلاحيات محددة ومكتوبة ومنصوص عليها قانونيا ويقول: «كنت دائما أكتب إلى رئيس الوزراء، نوري المالكي، وبعد أن ننجز موضوعا معينا (بناء على الصلاحيات غير الممنوحة لنا قررنا ما هو آت)، فإذا كانت القرارات مناسبة وجيدة يوافق عليها».


ويشدد صالح على أنه لم يتعامل طوال فترة إشغاله لمنصبه الحكومي الرفيع مع الأمور بصيغة سياسية بل بمهنية بحتة، يقول: «أرجو أن يشهد لي المالكي والوزراء بأنني لم أتعامل من منطلق سياسي، بل من منطلق مهني لخدمة الوطن ومن مشروع الحكومة لخدمة كل البلد، ولم أتردد في إبداء مواقفي له واختلفت مع المالكي في مواقف ليست بالقليلة وتقبل مني ذلك».


وعلى الرغم من عدم تمتع صالح بصلاحيات واضحة، فإنه أقدم على إنجازات مهمة، ويقول: «أنا كنت أتمنى أن أتمتع بصلاحيات أكبر ليتسنى لي تقديم خدمات أكثر للبلد وللعراقيين، لكن العمل السياسي لا يقاس هكذا فما توفرت لي من فرصة كانت فريدة حيث كنت في مركز الأحداث وفي مجلس الوزراء، ففي الحكومتين الأولى والثالثة كنت نائبا لرئيس الوزراء وتسلمت ملفات مهمة أتمنى أن أكون نجحت في مهامي»، منوها بأن «الطموح كان أكبر، لكن العمل السياسي في بلد كالعراق يكبلنا بمحددات ومقيدات».


ولم تحد كردية صالح من إخلاصه في عمله من أجل العراق ككل، ويوضح «حاولت أن أتجاوز ثنائية كوني كرديا وعراقيا في آن واحد، وكنت دائما أقول: أنا كردي وأعتز بكرديتي، لكنني مؤمن إيمانا عميقا بمشروع وطني عراقي ديمقراطي، ولم أجد أي انفصال في عملي لكوني كرديا أعمل في خدمة كردستان وفي ذات الوقت التفاني من أجل خدمة المشروع الوطني العراقي، إذ أرى فيهما مشروعين متلازمين ومتكاملين ولا انفصال أو تباين بينهما، وهذا ناتج عن قناعة فكرية مفادها أن العراق الديمقراطي الاتحادي هو الذي سيوفر للكرد ضمانات بعدم تكرار المآسي التي حصلت في الماضي وسيوفر الفرصة للكرد لحياة كريمة ومستقرة إلى جانب بقية أبناء الشعب العراقي، ومن هنا تتلازم مصالح أهالي السليمانية وأهالي البصرة، وأربيل والأنبار ودهوك والموصل، وبقية محافظات العراق حقيقة، ونحن نعيش مع إخواننا العرب في الوطن الواحد ولم أر في يوم من الأيام أي إشكالية في هذا الموضوع».


مع كل هذا، هناك من يرى أن برهم عمل لصالح إقليم كردستان من خلال موقعه في الحكومة الاتحادية ويعلق قائلا: «هذا التقييم متروك للمراقبين السياسيين وللجمهور.

وكنت – وما زلت – أعتقد أن النظرة الشاملة الصحيحة هي أن خدمة إقليم كردستان لا تنفصل عن خدمة باقي المحافظات والأقاليم في العراق، إذ يفترض أن المشروع الوطني الديمقراطي الفيدرالي العراقي يوفر الغطاء لأي جهد حكومي أو برلماني وبالتالي فلا انفصام بين أجزاء هذه العملية السياسية سواء في بغداد أو في كردستان أو في البصرة.

إنني مؤمن بالمشروع الوطني الديمقراطي العراقي وأعمل في سبيل إنجاحه أينما كنت، وهو السبيل لنهوض العراق، كل العراق، بكردستانه ووسطه وجنوبه.

نهوض بغداد، نهوض لكردستان وحماية له، والعكس بالعكس، وإن شاء الله هناك من المنصفين من يشهد بأنني عملت وفق هذا المبدأ وبأمانة في أي ملف توليته».


ويكشف صالح، خلال مسؤوليته كنائب لرئيس الحكومة الاتحادية، عن لقائه الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين في سجنه.

لنتصور طبيعة هذا اللقاء بين الضحية والجلاد، فالشعب الكردي وعلى مدى ثلاثة عقود من حكم البعث في العراق، وتحت سلطة صدام حسين كان ضحية التسلط والتعسف وعانى من القتل والتهجير، بل إن صالح ذاته عانى من الاعتقال والتعذيب وكاد يفقد حياته، هنا، في هذا اللقاء سنرى كيف تعامل الضحية صالح مع جلاده، صدام حسين، بمشاعر إنسانية نبيلة على الرغم من أنه كان نائبا لرئيس حكومة تعامل غالبية أعضائها بروح ثأرية وانتقامية مع رئيس النظام السابق، ويقول صالح: «التقيت صدام حسين عندما كان سجينا لدى القوات الأميركية، ذهبت إليه في زنزانته في السجن عندما كنت نائبا لرئيس الوزراء في حكومة علاوي، وكان معي فلاح النقيب، وزير الداخلية الأسبق، كان اللقاء قصيرا، وأنا ذهبت في مهمة التأكد من الظروف الصحية والحياتية والقانونية التي يعيشها صدام، فعلى الرغم من موقفي المعارض له، وعلى الرغم مما قام به ضد الأكراد خاصة، والعراقيين عامة فإنه كان سجينا والواجب الأخلاقي والإنساني يفرض علينا الاطمئنان عليه، ولم يدر حديث طويل بيننا، سوى أنه تعرف على الأخ فلاح لأنه كان يعرف والده، فقال لفلاح: أنت شبت، كنت قد رأيتك صغيرا، فرد عليه النقيب قائلا: شبنا من وراكم (بسببكم)، ولم نرغب، لا فلاح ولا أنا، أن ندخل معه في حديث طويل، فقلت له نحن هنا ليس للجدال بل للاطمئنان على أن الإجراءات القانونية على ما يرام، وخرجنا»، موضحا أن «التشفي ليس من شيمنا وليس من أخلاقنا، وهذه أحد الفروق بيننا وبينه، حتى أنني لم أرد أن أشعره بأنه سجين وأسير ونحن الآن في موقع السلطة والقوة.

وهذه هي المرة الأولى والأخيرة التي التقيت فيها صدام حسين».


وكان الموقف الأكثر، ربما، ألما بالنسبة لصالح هو لقاؤه أكثر الأشخاص الذين نكلوا بالأكراد، علي حسن المجيد، الذي لقب بـ(علي كيمياوي) جراء إعطائه الأوامر للقوات العراقية بقصف القرى الكردية بالأسلحة الكيمياوية، ومع ذلك لم يتصرف صالح إلا انطلاقا من مشاعره الإنسانية، يقول: «كما التقيت علي حسن المجيد وهاشم سلطان وبرزان التكريتي ومجموعة من أقطاب النظام السابق».


يصمت صالح قليلا، يسرح نظره بعيدا باتجاه الجبال التي تحيط بمدينة السليمانية، راح يتأمل، ربما راح يتذكر معتقله بكركوك، أو رصد عبر الزمن مدينة حلبجة غير البعيدة عن مركز السليمانية، تلك المدينة التي تم قصفها وتدميرها بالأسلحة الكيمياوية، ثم قال: «انتابني شعور غريب وأنا التقي صدام، فأنا كنت مسجونا في أحد سجونه وتعذبت، وهو ارتكب جرائم فظيعة بحق العراقيين من العرب والأكراد، خاصة في مجازر الأنفال وفي حلبجة، ولقي جزاء عادلا، لكن أملي أن هذا الجزاء لم يكن بدافع الانتقام، وكنت أتمنى أن تنفذ عقوبة الإعدام بشكل آخر وليس بطريقة تفهم على أنها انتقام وثأرية.

هذا ما يهمني.

وبرأيي أن طريقة وأسلوب إعدامه أساءت إلى ضحاياه، على الرغم من أن الغالبية العظمى من العراقيين تنفسوا الصعداء بسبب انتهاء النظام السابق»، من دون أن ينسى أن «السنوات الماضية، ومنذ سقوط نظام صدام حسين، كانت حافلة بالتحديات والمشكلات والمآسي، بل والكوارث أيضا، ولا أريد أن أستخف بما تحملناه وما تحمله الشعب العراقي خلال هذه السنوات من مشكلات، لكن لا يمكن أن نقارن آلامنا ومشكلاتنا خلال هذه السنوات بما عانيناه من كوارث ومآس واضطهاد وقمع ومقابر جماعية وأسلحة كيماوية وسياسة تمييز طائفي وقومي وإلى غير ذلك من الكوارث التي عانينا منها على مدى الـ(35) عاما، ويجب أن نقيم المرحلة كما هي وفي سياقها التاريخي الصحيح، لنا أن نتفق ونقر بانتكاسات ومشكلات خلال السنوات الماضية، لكن ما حدث في النهاية مهم جدا، بل وحدث كبير أعطانا الفرصة نحن العراقيين للتخلص من الاستبداد والشروع في بناء بلد آمن وعراق ديمقراطي آمن مع نفسه وآمن مع جيرانه إن شاء الله».

ويشخص السياسي صالح حالة في غاية الأهمية، فليس المهم هو التخلص من نظام استبدادي وحسب، فالاستبداد يمكن أن يعود بأوجه مختلفة، ويقول: «في غياب الضمانات القانونية والدستورية والبرلمانية، أي شخص في أي موقع مسؤولية معرض إلى أن يتلوث بالاستبداد ويتعامل بالاستبداد، هناك مقولة مشهورة (السلطة تفسد، والسلطة المطلقة تفسد بالمطلق)، في غياب المساءلة، في غياب الرقابة وفي غياب الضمانات القانونية، الاستبداد وارد، فلذلك دعنا لا نقول: انتهى الاستبداد بصدام حسين، إن لم نعمل على ترسيخ مؤسسات الحكم الديمقراطي والرقابة البرلمانية واستقلالية القضاء واستقلالية الإعلام وحياديته، فمن الطبيعي أن نتصور ونتوقع أن يظهر الاستبداد مجددا في العراق، وإذا نظرنا إلى تاريخ هذا البلد فسنجد أن صدام حسين كان مستبدا من طراز مخيف واستثنائي، لكن هناك الكثير من النماذج الاستبدادية في تاريخنا، لا يمكن لنا، ونحن الذين عشنا مرحلة الاستبداد وعشنا مرحلة المقابر الجماعية والأسلحة الكيمياوية وحرب الإبادة، إلا أن يكون الهاجس الكبير أمامنا هو يجب ألا نتيح المجال أبدا لعودة الاستبداد، وهذا لن يتم من خلال الأمنيات والرؤى الطيبة فقط، وإنما نتمكن منه من خلال ترسيخ مؤسسات الحكم الديمقراطية ومؤسسات البرلمان وتمكين المواطن العراقي قانونيا ودستوريا من أداء دوره لكي يكون ضامنا ألا يرجع الاستبداد وألا يساء إلى إدارة بلده».


ويوضح صالح خللا مهما، مفاده أنه «كان هناك نوع من الاعتماد المفرد على ما ستقوم به الولايات المتحدة ليس فقط من حيث إسقاط النظام لكن من حيث إعادة البناء، وكان هذا خللا كبيرا وربما هذه التجربة وهذه السنوات التي مرت، فإذا ذهبنا إلى أصول المشكلة التي نعاني منها اليوم وهي غياب مشروع وطني عراقي قائم على أساس الإرادة العراقية، نعم التفاهم مع الولايات المتحدة، التواصل مع الأميركان، ومع البريطانيين، أو مع الأوروبيين بصورة عامة، ومع دول الجوار، ومع القوى الخارجية، كلها مهمة، نحن نعيش في عالم متداخل ومتشعب لكن غياب الرؤية العراقية المتفق عليها على الأقل في هامش وطني يستطيع أن يجمعنا، في تقديري كان مشكلة كبيرة ولا تزال».


وبكثير من الصراحة يتحدث صالح عن الخلافات بين الأكراد والحكومة المركزية (الفيدرالية) ببغداد، قائلا: «هناك تعقيدات في هذا المجال ولا شك أن موروثات من الشك والقرار المسبق تلقي بظلالها على الخلافات التي هي خلافات جدية تتعلق ببنية الدولة الاتحادية وبآليات التعاطي مع الدستور وتطبيقاته في ملفات الحدود الإدارية والثروة والشراكة السياسية.

هناك إرث من الثقافة المركزية من العهود السابقة ينخر في مفاصل الدولة العراقية.

نحن متفقون على أن يكون الدستور مرجعا للحل ويبقى هامش الاختلاف واردا بسبب تفسيرات الدستور وتطبيقه وبسبب اختلاف الأولويات.

ولكن الحوار والتعاطي البناء هو السبيل الوحيدة لتنقية الأجواء ثم الوصول إلى حلول توافقية لا بد منها.

وبعد فترة القطيعة فإن المعطيات الجديدة يمكن أن تشكل فرصة طيبة للتلاقي والحوار والوصول إلى حلول مشتركة.

إن هناك من يروج لعداء كردي عربي كوسيلة للتغطية على مشاريع الاستئثار والإقصاء.

الكرد ليسوا خطرا على العراق، الكرد هم بناة العراق الجديد، ولهم مصلحة حقيقية في بناء عراق قائم على أساس احترام الأكثرية والتوافق بين مكوناته».


ولا يتردد صالح في الإقرار بأن المسؤولية تضامنية في الإخفاقات والإنجازات، ويقول: «أنا كنت ضمن منظومة الحكومة الاتحادية.

أعتقد أن المسؤولية تضامنية سواء لجهة المنجز أو لجهة الإخفاقات.

هناك منجزات كثيرة تحققت يمكن أن تشكل قاعدة صلبة لإطلاق الجهود في الإصلاح والتطوير.

كما هناك تحديات لا يستهان بها تواجهنا في الفترة المقبلة على الصعد كافة.

الدرس البليغ من التجربة الحالية، أن العراق بحاجة إلى حكومة أكثر تجانسا وانسجاما ورفض المحاصصة، على الأقل في ما يتعلق بمفاصل خدمية واقتصادية حيوية.

الانتخابات المقبلة ستكون حسما وأتمنى أن تؤدي إلى حكومة منسجمة ومتفقة على برنامج واضح وصريح لخدمة المواطن، حكومة ترفض نهج الاستئثار والإقصاء، وترفض أيضا هذا النمط من المحاصصة التي كانت أشبه بتقاسم السلطة الذي بات معرقلا للقرارات المطلوبة للتعاطي مع التحديات السياسية والأمنية والاقتصادية».


ومع ذلك، يعبر صالح عن تفاؤله بقوله: «أرى المستقبل واعدا، ليس للعراق من خيار إلا أن ينجح، وأنا أقول إن إرهاصات السنوات السبع الماضية ومشكلاتها تملي علينا وتدفعنا باتجاه النجاح، لا يمكننا أن نقبل بالفشل على الرغم من أنها مليئة بالتحديات والمشكلات لكنني واثق أن مستقبل هذا البلد واعد وسيوفر للعراقيين وللمنطقة نموذجا جيدا إن شاء الله».


ولعل أبرز ما حققه صالح من خلال موقعه في الحكومة الاتحادية، هو إطلاق مبادرة العهد الدولي التي هي ميثاق للالتزامات المتبادلة بين العراق والمجتمع الدولي لمساعدة العراق في الإيفاء بالتزاماته في بناء عراق ديمقراطي اتحادي مزدهر آمن مع نفسه ومع محيطه الإقليمي والدولي، كما أن له مبادرات في رعاية ودعم الجامعات العراقية، خاصة من خلال تأسيسه ورعايته لمشروعي (واعدون) الذي يدعم الطلبة العرب في الجامعات العراقية ماديا ومعنويا، ومشروعه (هيوا)، ويعني بالكردية الأمل، الخاص بدعم طلبة الجامعات الكردية، وتوطيد علاقاته مع المثقفين العراقيين من خلال تأسيسه ورئاسته لهيئة أمناء الملتقى العراقي، كما تعود لجهوده، الفضل الأول والأخير في إعادة إعمار شارع المتنبي ببغداد بعد أن تم تدميره في حادث تفجير إرهابي فظيع أدى إلى مقتل العشرات وحرق مكتباته التاريخية وهدم أبنيته التراثية.

ويزيد، صالح، مستشهدا بأحداث واقعية، قائلا: «خلال زياراتي للمحافظات العراقية، إنصافا أقول، لم أشعر بأي تغيير أو أي شيء سوى أنني بين أهلي، ربما شعرت بأن بعض النخب السياسية العراقية تنظر إلى بعين الشك، كوني كرديا أو انفصاليا لأنني أتعاطى مع الملف الكردي، لكن عامة العراقيين احتضنوني وتعاملوا معي كأي عراقي ولم أشعر في يوم من الأيام بغربة في بغداد، بل أشعروني بأنني واحد منهم وأنا ممتن لهم».


برهم صالح الذي دشن حياته وعمله السياسي عراقيا في العاصمة بغداد، باعتباره نائبا لرئيس الحكومة الأسبق إياد علاوي، وأحب هذه المدينة وتفاعل معها، لم يكن في سنوات فتوته قد اكتشف جيدا هذه المدينة الكبيرة وتقاطعاتها، يقول: «كنا نذهب إلى بغداد مع العائلة في الإجازات إضافة إلى زياراتي إلى سجن أبو غريب ومتابعة بعض النشاطات الحزبية، مثلما ذكرت.

لكن أول مرة ذهبت فيها إلى بغداد مع والدي ووالدتي كان عمري 12 سنة، وأتذكر أن والدتي أخذتني معها في مشوار تسوق في شارع النهر، سوق تقع بجانب الرصافة من بغداد مخصصة لبيع الملابس النسائية والمجوهرات، وكانت والدتي تدخل من محل إلى آخر وأنا أسألها متى نعود إلى الفندق حتى نتغدى»، وبمناسبة حديثه عن الطعام يتذكر مطعم «كهف الدجاج» الذي كان قرب الجندي المجهول السابق (ساحة الفردوس حاليا) وتنزهنا في متنزه الزوراء، ونادي مدينة الضباط في زيونة، متغزلا ببغداد بقوله: «بغداد مدينة كبيرة وجميلة وعاصمة رائعة، أنا أعشق نهرها، دجلة، وكنت أحب حدائقها ومتنزهاتها والمساحات الخضراء فيها، ولو أن هذه المساحات تعرضت خلال السنوات الأخيرة إلى انتكاسات كبيرة، بغداد مدينة جميلة بكل ما تعني الكلمة وخاصة معمارها القديم رائع جدا، لم أر عاصمة بجمالها أو لها قدرة على التطور مثلها.

في السنوات الخمس التي أمضيتها ببغداد أعجبت بروح أهلها على المقاومة وحبهم لمدينتهم على الرغم من التفجيرات وانحسار الخدمات، هذا الحب الذي لم تجده في أي مدينة ولو تعرضت أي مدينة أخرى في العالم لما تعرض له البغداديون لتركوها، والأهم بالنسبة لي أن بغداد احتضنتني بحب ولم أشعر فيها بغربة ولو للحظة واحدة، وناسها طيبون للغاية».


ويضيف صالح قائلا: «على الرغم من أنني عشت في بغداد خلال فترة عصيبة، تفجيرات وأوضاع أمنية وسياسية صعبة وكانت المحددات الأمنية تمنعني من التجوال بحريتي في هذه المدينة التي أصبحت حزينة، فإنني كنت أتجول بين الناس وأتحدث معهم، فأنا أرى بغداد المدينة التاريخية الحضارية الرائعة، والأهم من هذا، عشت الجانب الإنساني لهذه المدينة القوية بأهلها، إذ لا أعتقد أن هناك مدينة يمكن أن تتحمل ما تحملته بغداد في التاريخ الراهن ومنذ العنف والاستبداد في زمن صدام مرورا بالحصار الاقتصادي ومن ثم الاستباحة التي عاشتها خلال وبعد سقوط النظام السابق والإرهاب الذي يضربها».


برهم صالح لم يكن غريبا عن الساحة السياسية العراقية، فهو وإن كان منشغلا بالوضع السياسي الكردي إلا أنه كان – وما زال – يعتبر أن هذا الانشغال هو جزء من الهم السياسي العراقي، يقول: «كنت منشغلا في الساحة السياسية العراقية منذ الثمانينات وذلك من خلال المعارضة، إذ كنت ناشطا في العمل الوطني العراقي، وحتى في كردستان كان الشأن العراقي هو شاغلنا، وبعد 2003 تعرف العراقيون علي بحكم عملي في الحكومة، ولا أدري إن كان ذلك ظهورا مفاجئا أم لا»، منبها إلى أن «المصاعب كانت كثيرة خلال عملي في بغداد، إذ لم يمر يوم إلا وعشنا فيه حالة من التحدي، تحدي الإرهاب والفساد المالي والإداري، كنا نعيش الأزمة تلو الأخرى، ومن أكثر أيامي صعوبة كان يوم تفجير المرقد العسكري في سامراء والأحداث التي تلتها، إذ كنت جزءا من الحكومة وشاهدت وعشت مجريات تلك الأيام الصعبة، شعرت في مرات متفرقة بحالة من اليأس بسبب النشاط الإرهابي وضعف الإمكانيات الأمنية، كانت أياما عصيبة»، مشخصا أن أصعب فترة عاشها في حكومات بغداد قائلا: «كانت أياما صعبة بالفعل، خاصة في حكومة علاوي حيث إمكانيات الدولة محدودة على الرغم من أننا كنا فريقا منسجما وجيدا جدا، وكنا نجتاز المحن بتضافر الجهود».


في عام 2009 خاض التحالف الكردستاني، الذي يضم الحزبين الكرديين الرئيسيين، الحزب الديمقراطي الكردستاني، بزعامة مسعود بارزاني، رئيس إقليم كردستان، والاتحاد الوطني الكردستاني، بزعامة جلال طالباني، رئيس جمهورية العراق، الانتخابات التشريعية في الإقليم، ورشح برهم صالح لرئاسة القائمة الانتخابية للتحالف، حيث عمل وقتذاك جاهدا لإقناع الناخبين ببرنامجه، أو برنامج القائمة الانتخابي، وزار من أجل ذلك قرى وقصبات ومدن كردستان، وتجول بين أسواقها ودخل بيوتها، محققا شعبية واسعة مكنت القائمة من الفوز بأغلبية مريحة، بينما حقق بارزاني فوزا كبيرا على منافسيه لرئاسة الإقليم.


يتحدث صالح عن هذه الانتخابات، قائلا: «الانتخابات التشريعية الأخيرة لإقليم كردستان شكلت نقطة تحول في التجربة الديمقراطية الكردستانية سواء من ناحية تفاصيل التنافس الانتخابي إلى البرامج والرؤى المختلفة للقوائم المتنافسة ومنها القائمة الكردستانية التي واجهتها تحديات تتعلق بالمحافظة على المكتسبات التي تحققت للأكراد والتي تم إنجازها على يد الحزبين الحليفين (الاتحاد الوطني الكردستاني والحزب الديمقراطي الكردستاني)، وطرح برنامج إصلاحي يتعهد بمعالجة مكامن الخلل في إدارة الإقليم ومحاربة الفساد وتحسين مستوى الخدمات»، موضحا أن «رؤية القائمة الكردستانية ركزت على أهمية المحافظة على المكتسبات وعدم إغفال الإخفاقات في مجال الفساد الإداري والتصدي المتعقل لها عن طريق حزمة تشريعات وقوانين ومراجعة الهياكل والسياقات الإدارية، وبغض النظر عن حجم توقعاتنا فإن تأييد 70 في المائة من الناخبين للسيد مسعود بارزاني ونسبة 59 في المائة للقائمة الكردستانية هو نجاح متميز في أي ديمقراطية حقيقية، وفي ظل تنافس محتدم مثل الذي جرى في كردستان.

ونحن نفتخر بنجاح العملية الانتخابية وبالتطور الديمقراطي الذي أفضى إلى مثل هذا الجو الديمقراطي في التنافس بين القوائم المختلفة، مثلما نفتخر بفوزنا بها.

فالمنجز الانتخابي وهذا التحول النوعي في الوضع الديمقراطي في الإقليم أهم من المكسب الحزبي.

إن تقييمي يتلخص في أن الانتخابات أكدت تأييد الثقة بالحزبين مقرونة بمطالبة الناخب بإجراء إصلاحات سياسية وإدارية، ولا شك أن تشكيلة البرلمان الكردستاني الحالي مختلفة عن سابقاتها لوجود معارضة فيه.

أملي أن تكون هذه المعارضة إيجابية وتتواصل معنا من أجل إنجاز الإصلاحات المنشودة».

———

الحلقات السابقة:

(الحلقة الأولى)

(الحلقة الثانية)

(الحلقة الثالثة)

(الحلقة الرابعة)

(الحلقة الخامسة)

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

إبراهيم اليوسف لقطات من المسافة صفر: يقف عند باب منزله في الشيخ مقصود، ذات صباح أسود، وهو يحدق في الجدران التي شهدت تفاصيل حياته. على هذا الحائط علّق صورة عائلته الصغيرة، وعلى ذاك الركن كانت أول خطوات طفله. كل شيء هنا يروي حكاية وجوده، لكن اللحظة الآن تعني الفقد. جمع بضع” حاجيات” في حقيبة مهترئة، نظراته ممتلئة بالحزن، وكأنها تقول…

عبدالرحمن كلو يبدو أن منطقة الشرق الأوسط أمام معادلة توازنية جديدة وخارطة علاقات أساسها أنقاض المشروع الشيعي العقائدي المهزوم. ويمكن تسمية المرحلة على أنها مرحلة ما بعد هزيمة دولة ولاية الفقيه. فحرب غزة التي أشعلتها إيران نيرانها أشعلت المنطقة برمتها، ولم تنتهِ بصفقة أو صفقات كما توقع البعض، إذ خابت كل التوقعات والمراهنات بما في ذلك مراهنات البيت…

قهرمان مرعان آغا تقع موصل على خط العرض 36.35 على إمتداد إحداثيات موقع حلب 36.20 بالنسبة للحدود السياسية التركية جنوباً ، والنظر إلى الخريطة تفيد إنها تقع على خط نظري واحد و تعتبر تركيا هذه المساحات مجالها الحيوي منذ تشكلها كدولة إشكالية سواء من حيث الجغرافيا أو السكان وتتذرع بحماية بأمنها القومي و ضرورة رسم منطقة آمنة لها ، لكنها…

إبراهيم اليوسف إلى أين نحن ذاهبون؟ في الحرب الغامضة! ها نحن نقف على حافة التحول المباغت أو داخل لجته، في عالم يغمره الغموض والخداع، في مواجهة أحداث تُحاك خيوطها في غرف مغلقة لا يدخلها إلا قلة قليلة. هذا الزمن، بملامحه الغامضة، رغم توافر أسباب وضوح حبة الرمل في قيعان البحار، ما يجعلنا شهودًا على مأساة متكررة…