نائب رئيس الوزراء العراقي يروي مذكراته لـ«الشرق الأوسط»: طالباني مصدر قوتنا ..
واختلفت معه كثيرا دون أن يفسد ذلك الود بيننا
وبينما كانت هناك شخصيات قيادية في كلا الحزبين المتقاتلين، أو المختلفين، تصب الزيت على نار الخلافات، وتمعن في إشعال نار الاقتتال، فإن صالح كان يجري على العكس من تيار تلك القيادات، ويناضل من أجل سلام كردستان حقنا لدماء شعبه بغض النظر عن انتماءاتهم السياسية، سواء كانوا من هذا الحزب أو ذاك، أو من هذه المدينة أو تلك، فأخذ مهمة رجل إطفاء الحرائق التي أشعلها غيره، أو التي اشتعلت في غيابه ولم يكن هو سببا في شحذ شرارتها.
يوضح قائلا: «من أبرز ما عملت من أجله في هذه الفترة هي عملية التقريب بين الحزبين، وبقي الوضع هكذا حتى توحدت حكومتا إقليم كردستان سنة 2004 وبرئاسة أخي وصديقي نجيرفان بارزاني».
صالح تربى في بيت فاضل، وفي كنف قاضٍ عادل، ولم يتعلم القفز على منجزات الآخرين، ولا أن ينكر دعم قيادته له، وهو لن ينسى الفرص التاريخية التي أتاحها له زعيمه جلال طالباني الذي راهن على نجاح الشاب برهم، وكسب الرهان، وهو رهان نابع من تجربة سياسية وحياتية غنية يتمتع بها طالباني.
يقول صالح: «أنا لا أنسى الدعم الكبير لي من قبل مام جلال، الذي يمثل إرثا كبيرا من التاريخ السياسي، وهو شخصية سياسية ووطنية كبيرة ومخلصة لكردستان والعراق، ومثابرته في عمله مثال يُحتذى، ومعنوياته العالية وفي أحلك الظروف كانت تعينه وتعيننا على مواصلة العمل وعدم التوقف عند المطبات الصعبة، وهو أهم مصادر قوتنا، إذ يمثل رمزا مهمّا وتاريخيا لنا ويتجاوز التعريفات السياسية التقليدية لأي سياسي».
ويكشف برهم صالح واحدة من أسرار ديمومة وقوة علاقته بزعيمه التاريخي جلال طالباني، يقول: «من أبرز نقاط تقاربي مع مام جلال هو أني أستطيع أن أقول له أنا لا أتفق معك عندما نختلف على مسألة من دون أن يفسد ذلك الود الذي بيننا، وهذا هو سر العلاقة التي أبقتني مقربا منه، وقد اختلفت معه في مواقف سياسية كثيرة ومعروفة وبقينا نعمل معا».
لم نألف في عالمنا العربي أو في منطقتنا زعيما سياسيا يتمتع بمنصب رئيس جمهورية أو رئيس وزراء يتخلى عن منصبه من أجل مصالح شعبه وبلده سوى المشير عبد الرحمن محمد حسن سوار الذهب، الرئيس الأسبق للجمهورية السودانية، ورئيس مجلس أمناء منظمة الدعوة الإسلامية، الذي تسلم السلطة في السودان أثناء انتفاضة أبريل (نيسان) عام 1985 بصفته أعلى قادة الجيش وبتنسيق مع قادة الانتفاضة من أحزاب ونقابات، ثم قام بتسليم السلطة للحكومة المنتخبة في العام التالي، فأصبح مثلا نادرا، وربما وحيدا في هذا المجال.
لكن برهم صالح الساعي إلى توحيد حكومتي إقليم كردستان وجد في استقالته السبيل إلى تحقيق هذه الوحدة في وقت أصرت فيه قيادته الحزبية على بقائه في منصبه الذي كانت قيادات كثيرة في حزبه تتمنى نيله، ونعني رئاسة الوزراء، لكن هذا السياسي الشاب لم يكن يعنيه المنصب بقدر ما كان يهمه خير شعبه الكردي الذي عانى كثيرا من الاقتتال والحروب والانقسامات، فوجد في استقالته من منصبه كرئيس للوزراء الدرب الممهد لوحدة الشعب الكردي واستقراره.
يقول: «طلبت من مام جلال إنهاء مهامي كرئيس لحكومة كردستان، السليمانية، على الرغم من إصراره (مام جلال) على بقائي، لكنني كنت من الداعمين لموضوع توحيد الإدارتين في السليمانية وأربيل، إذ لم يكن وجود حكومتين في الإقليم مسألة مبررة، ولم أكن أريد لنفسي أن أبقى في موقع يعرقل توحيد الحكومتين».
وحتى يعزز صالح موقفه بترك منصبه غادر إلى واشنطن حيث كانت والدته قد أدخلت المستشفى هناك، ولم يعطِ فرصة لمزيد من النقاشات والإغراءات في البقاء في السلطة.
يقول: «بعدها ذهبت إلى واشنطن حيث كانت والدتي تخضع لعملية صعبة ومعقدة لاستئصال ورم في رأسها، وكنت قلقا عليها للغاية».
كان نظام صدام حسين قد سقط، وتمزق مثل ورقة تبعثر شتاتها في رياح احتلال القوات الأميركية للعراق، وكان حشد من العراقيين منشغلين، وبمساعدة القوات الأميركية، يوم التاسع من أبريل من عام 2003، بإسقاط تمثال الرئيس العراقي صدام حسين في ساحة الفردوس وسط العاصمة العراقية.
ويصف صالح هذا اليوم قائلا: «يوم التاسع من أبريل كان سقوط الصنم، سقوط نظام استبدادي تحكم في هذا البلد وارتكب جرائم فظيعة بحق هذا الشعب وبحق شعوب المنطقة، فلا يمكن أن يكون إلا نقطة انعطاف تاريخية مهمة في تاريخ العراق وفي تاريخ المنطقة.
ما حدث من الحرب التي قادتها الولايات المتحدة على رأس التحالف الدولي لتخليص العراق من نظام صدام حسين لا يجب أن ينظر إليها بحالة مجردة، إنما تسبق هذه الحرب عقود من النضال، من تضحيات جسام تقدم بها الشعب العراقي في مواجهة هذا الطغيان، وحاولنا كل ما حاولنا وقدمنا كل ما كان ممكنا تقديمه من ضحايا ومن جهود ومن إمكانيات من أجل التخلص من هذا النظام، مع الأسف لم نتمكن من التخلص من هذا النظام بقوانا الذاتية، كنا نتمنى أن يأتي إلينا الدعم العربي والدعم الإسلامي للتخلص من هذا النظام بدلا من أن نكون بحاجة أو نتطلع إلى حرب تقودها قوى خارجية، لكن حدث ما حدث، ولا يمكن لي إلا أن أرحب به لأنه بهذه الأحداث انتهى فصل مهم مأساوي كارثي من تاريخ العراق، وهذا لا يعني أن السنوات التي تلت هذه الحرب كانت مفروشة بالورود».
ويعتبر صالح أن تغيير نظام صدام حسين «كان تطورا وحدثا مهمّا وأعطانا الفرصة التاريخية للشروع في بناء عراق آمن، ينتهي فيه الاستبداد ولن يتكرر فيه الحكم الديكتاتوري»، مشددا على أن «إنهاء حكم صدام حسين، هو إنهاء لنظام المقابر الجماعية ونظام التمييز الطائفي والقومي، وهو انتصار كبير للعراق وانتصار كبير للمنطقة».
ويعترف قائلا: «لكن يجب أن أقر في هذا السياق بأننا في المعارضة العراقية، التي قدمت الغالي والنفيس من أجل إسقاط هذا النظام، وتاريخ المعارضة تاريخ مشرف أيضا، لكنها (المعارضة) على الرغم من البيانات والإعلانات التي أطلقت في مؤتمراتها، فإنه لم يكن عندها مشروع بناء متكامل بسبب الإفرازات الطائفية والقومية التي جرت، مع الأسف، ويجب أن أقر أيضا بأن المشروع الوطني العراقي لم يكن متكاملا ولم يكن مترسخا.
ربما هذه ظاهرة تاريخية طبيعية في مجريات الأمور، كنا منهمكين بمشاريع ومصالح فئوية وإيجاد توازنات قوة، لا قوة التوازن في هذا المجتمع وإنما توازنات مبنية على القوة النسبية لهذا الفريق مقابل الفريق الآخر، وأيضا ربما كانت المشكلة التي رافقت هذه الأوضاع هي التغيير الذي حدث في اللحظة الأخيرة من خلال القوة الأجنبية.
أنا أتحدث عن السياق التاريخي.
المعارضة كانت منهمكة في النضال ضد صدام حسين في داخل العراق وفي المنطقة، والقرار الأميركي للتخلص من صدام حسين جاء في السنة الأخيرة أو قبل ذلك بسنتين».
يعود صالح إلى تسلسل الأحداث، إذ كان منشغلا بترقب مجريات العملية الجراحية التي أجريت لوالدته بنجاح، يقول: «وبعد خروج والدتي من صالة العمليات رن هاتفي الجوال، إذ أبلغوني عبره ومن السليمانية بأنني مرشح لمنصب وزير الخارجية في حكومة الدكتور إياد علاوي».
لم يكن صالح منشغلا بمسألة المنصب وترشيحه لوزارة الخارجية أو غيرها من المواقع، فالانشغال الأكبر والأهم وقتذاك كان يتعلق بصحة والدته، الأقرب إلى روحه، ثم تواترت الاتصالات من مدينة السليمانية، «حيث أبلغوني بأن مام جلال يطلب مني أن أكلمه عبر الهاتف، وبالفعل اتصلت به، لا أتذكر إن كان هو وقتذاك في السليمانية أو في بغداد، وهذا بعد سقوط نظام صدام حسين.
فقال لي: برهم، أريدك أن تعود لأنك مرشح لمنصب نائب رئيس الوزراء العراقي.
قلت له إنني باق مع والدتي الآن بعد العملية، وأنا لا أفضل العمل في هذا المنصب، فقال لي: أنت الآن مشغول مع والدتك، وعندما تطمئن عليها نتحدث ثانية».
بعد أن استقر الوضع الصحي لوالدته، عاد ليتصل بجلال طالباني، زعيم حزبه.
يتذكر قائلا: «تحدثنا بعد ذلك عبر الهاتف من واشنطن حول نفس الموضوع، وشرحت لمام جلال أسباب رفضي للمنصب المعروض علي، وقلت: أنا كنت رئيس حكومة وكان عندي نائب رئيس حكومة وأعرف معاناة من يكون في هذا المنصب، فضحك وقال: الآن الله سبحانه كتب عليك أن تعيش هذه المعاناة.
ثم طلب مني العودة إلى السليمانية، وقال: إن وجودك مهم الآن في العراق.
وعدت بالفعل عن طريق تركيا، وعندما وصلت إلى السليمانية اتصل بي الأخ علاوي وطلب مني أن أعمل معه كنائب لرئيس الوزراء».
عانى الأكراد، عامة، طويلا من عقدة الرجل الثاني، المواطن من الدرجة الثانية، أما السياسي الكردي فقد عانى من عقدة النائب، وهذا بالضبط ما دعا صالح للاعتذار عن عدم قبوله منصب نائب رئيس الوزراء في أول حكومة يشكلها علاوي بعد تغيير نظام صدام حسين، يقول: «كتبت رسالة إلى الدكتور إياد علاوي، قلت له فيها إن لدى الكرد عقدة النائب، وأنا لا أريد أن أكرس هذه التجربة، وغير مستعد لها، كما أبلغه مام جلال برأيي، فقال علاوي لطالباني: أنا أعرف من هو الاتحاد الوطني الكردستاني، وأعرف جلال طالباني كما أعرف برهم صالح، وأنا أريده معي».
حدث ذلك من دون أن تكون هناك علاقة قوية مسبقة بين علاوي وصالح، ما عدا لقاءات واجتماعات متباعدة خلال سنوات المعارضة، يوضح صالح قائلا: «أنا كنت أعرف الأخ علاوي في المعارضة، ولم نكن قريبين أو لم تربطنا علاقة قوية، وكنت أعرف توجهاته وأكنّ له الكثير من التقدير والاحترام».
لم تنفع اعتذارات صالح لعلاوي عن رفض منصب رئيس الوزراء، فترشيحه لم يكن حسب توصية أو أجندة خارجية، وإنما جاء بمحض إرادة رئيس الحكومة وقتذاك، وعلاوي وإن لم يكن قد التقى في السابق بصالح فإنه كان يراقبه ويتتبع نشاطاته عن كثب، ثم إن هناك أكثر من مشترك يجمع بين الاثنين، فكلاهما تخرج من الجامعات البريطانية وحصل على شهادات أكاديمية عليا في المجال العلمي، علاوي درس الطب وتخصص صالح بالهندسة، وهما ينحدران من عائلات عريقة وينتميان إلى مدن حضارية، بغداد والسليمانية، فعلاوي ابن طبيب كبير ومعروف وكان مديرا عاما للصحة، وصالح نجل قاضٍ كبير ومعروف أيضا، والاثنان خاضا نضالا شاقا ضد نظام صدام حسين، وهما يتمتعان بشخصيتين قويتين لا تنحنيان للمصاعب أو لإرادة الآخرين، لهذا أصر علاوي على ترشيحه لصالح بأن يكون نائبا لرئيس وزراء العراق.
يقول صالح: «اتصل بي علاوي وطلب مني أن أقابله في بغداد، والتقينا وشرحت له فكرتي مرة ثانية، فقال: أنت لن تكون نائب رئيس وزراء بلا صلاحيات أو إمكانيات، بل على العكس من ذلك.
فقلت له: إن مهمتك صعبة في هذه الظروف، وأنا لا أريد إحراجك، كما أنك لا تريد إحراجي، وأريد أن أعرف طبيعة صلاحياتي والمهمة التي سأكلف بها، خصوصا وأن هذه أول حكومة عراقية بعد تغيير النظام.
وعدت إلى السليمانية في انتظار إجابته».
لم تطُل فترة انتظار صالح للرد على مقترحاته لقبول المنصب، وحسبما يوضح: «تفضل الدكتور علاوي وبكرم بالغ وكتب لي رسالة أخوية كلفني خلالها كنائب رئيس الوزراء لشؤون الأمن القومي، ثم عاد وقال: ليس هناك نائب للأمن القومي، بل ستتكفل بملفات اقتصادية وخدمية وإعادة الإعمار إلى جانب مساعدتي في ملف الأمن القومي.
وذهبت إلى بغداد لاستكشاف الأوضاع هناك، فهذه هي المرة الأولى التي أعمل بها هناك وعلى مستوى العراق، وكان علاوي كريما معي، تعامل كأخ كبير وكنت محط ثقته، إذ خولني صلاحيات كبيرة ومهمة وعملنا كفريق واحد في فترة عصيبة جدا، حيث الأوضاع الاقتصادية سيئة ولا يوجد في البلد أي قوات عسكرية أو أمنية».
وجد صالح نفسه أمام اختبار صعب للغاية، هو امتحان حقيقي لإمكانياته السياسية والإدارية، فهو لم يخُض مثل هذه التجربة، وكل رصيده في العمل الإداري السياسي هو إدارة حكومة السليمانية لا حكومة الإقليم ككل، وإذا كان قد نجح في تجربته أو امتحانه الأول فإن إمكانيات النجاح كنائب لرئيس وزراء العراق كله، بجنوبه وشماله وشرقه وغربه، بعربه وأكراده وتركمانه وسنته وشيعته، ومسيحييه ومندائييه ويزيدييه، يعد حقيقة اختبارا معقدا، من غير أن ننسى أنه كردي، وسيحكم من بغداد التي هي قلب العراق كله، وفي حكومة غالبيتها العظمى من العرب، وفوق هذا وذاك هو في بغداد للمرة الأولى منذ سنوات طفولته، أو فتوته، كما أن الحكومة التي سيساعد رئيسها في قيادتها هي الأولى بعد سقوط نظام شمولي حكم بقوة الحديد والدم لأكثر من 35 عاما، وهم اليوم في طور التأسيس وبناء نظام ديمقراطي جديد غريب عن العادات والتقاليد السياسية والاجتماعية العراقية.
لكن شخصية مثل برهم صالح غير قابلة للانسحاب، بل تستفزه التحديات الكبيرة، وهذا ما طبع تصرفاته وتربيته منذ سنواته الأولى مع تجربته الدراسية والسياسية والمهنية.
يقول: «كانت المهمات والظروف تختلف تماما عن ظروف العمل في كردستان، فالعمل مع رئيس حكومة العراق كله في تلك الظروف الحرجة كان يعني بالنسبة لي تحديا كبيرا، حيث كان يزور بغداد وزراء خارجية ووزراء الدفاع الأميركان والبريطانيين وغيرهم من الدول الغربية، ونحن كنا في طور بناء نظام سياسي جديد، لكن كنا نعمل كفريق سياسي قوي ومتماسك، ووجدت نفسي ضمن هذه المهمات الصعبة ومساهما بارزا في إنجازها، وأستطيع القول إني شعرت بثقة كبيرة في العمل وبدعم كبير من الأخ علاوي».
برهم صالح يتحدث في اجتماع لكبار القادة السياسيين العراقيين بحضور السفير الأميركي السابق رايان كروكر («الشرق الأوسط»)
كانت واحدة من أبرز العقبات والمشكلات التي واجهت حكومة علاوي، وستبقى تواجه الحكومات القادمة وعموم المجتمع العراقي، هي تركات نظام صدام حسين، والإرث الخرب الذي تركه هذا النظام للعراقيين، ويشخص صالح هذه المعضلة قائلا: «الكثير من المشكلات التي نعاني منها اليوم هي من إفرازات الوضع السابق، نحن لم نقدر بما فيه الكفاية تغلغل مفاهيم الاستبداد ونظام الاستبداد في أحشاء هذا المجتمع وفي عمق هذا الوضع، كان هناك كثير من التصورات بأنه بالتخلص من نظام صدام حسين ستنتهي مشكلات العراق ونعود إلى ما نريد ونذهب إلى ما نريده من أمن واستقرار وازدهار، واقع الأمر هو خمس وثلاثون سنة من الاستبداد وما صاحب ذلك من اختلافات وتشويهات لهذا المجتمع، وما رافق ذلك من تهديم وتدمير للبنية التحتية الثقافية والسياسية والإدارية والقانونية والتعليمية.
وإذا شخصنا أي مفصل من مفاصل الحياة في هذا المجتمع سنرى فيه دمارا كبيرا لحق به بسبب سياسات الاستبداد، وبسبب سوء الإدارة، وبسبب الفساد، وبسبب الحروب، وبسبب الحصار، وبسبب العزلة التي عانى منها العراق خلال هذه السنوات الطويلة، وبسبب سياسة التمييز الطائفي والقومي التي مارسها النظام السابق وبصورة منهجية، لذلك فإن الكثير من مشكلات اليوم لا يمكننا إلا أن نؤكد على أنها موروثة من عهود الاستبداد، ولكن كلما طالت بنا الفترة من ذلك اليوم، يزداد اللوم علينا نحن القائمين على الأمر العراقي».
يضاف إلى كل هذا الموروث الذي شخصه صالح، فإنه يكشف عن أن «حكومة الدكتور علاوي كانت قد جابهت تحديات كبيرة، إذ ورثنا دولة مهدمة بلا جيش أو شرطة وبلا مؤسسات وبلا دستور، كان هناك قانون إدارة الدولة الذي وضعه بول بريمر، الحاكم الأميركي المدني على العراق وقتذاك، والمشكلة الكبرى كانت الخط الفاصل بين الإدارة الأميركية والحكومة الوليدة ذات السيادة، وكنا مطالبين دائما بإثبات أن هذه حكومة ذات سيادة وليست حكومة احتلال، أو أنها حكومة تابعة لإدارة الاحتلال».
هذه المصاعب لم تدفع السياسي العراقي الكردي الشاب إلى التراجع أو الانسحاب، بل على العكس تماما، حفزت فيه روح التحدي والإصرار على الرغم من التعقيدات الموضوعية التي كانت تحيط به ويشعر بها.
يقول: «أنا من النوع الذي لا يستسلم أو يعجز بسهولة، فعندما أعمل على أمر أثابر عليه بلا كلل حتى أحققه، حتى إن بعض الإخوة يقولون لي إن أفضل الأوقات في أدائي هو وقت الأزمات وليس وقت الراحة».
ويصف تجربته في العمل مع علاوي قائلا: «هذه التجربة صقلت فيّ مهارات إدارة متناقضات مختلفة في بغداد، فأنا كردي في محيط عربي أعمل مع الآخرين على بناء دولة جديدة ليس فيها مظاهر التمييز الطائفي والقومي، وأنا أعتز بتلك التجربة وآمل أني قدمت إنجازا في هذه التجربة لبناء عراق نريده أن يكون فاعلا».
وجد صالح نفسه في حكومة علاوي، شعر بقيمة وأهمية الإنجازات التي يسهر ويجد من أجلها، ذلك أن هذه الحكومة تميزت عن الحكومات التي ستلحق بها بأنها بعيدة عن المحاصصات والفئوية، بل كانت حكومة تأسيس وبناء بلد وضع توا على سكة الديمقراطية.
يوضح صالح ذلك بقوله: «حكومة علاوي كان عمرها قصيرا ونجحت في التهيئة للانتخابات، وتميزت بأنها لم تخضع للمحاصصة الطائفية بالشكل الذي رأيناه وعشناه في ما بعد، إذ إن غالبية وزرائها كانوا من التكنوقراط، كما أنها كانت تضم أطرافا سياسية مهمة، وتوالي الانتخابات التي جرت في تلك الفترة خلق نوع من الاستقطابات التي صعبت العمل السياسي في العراق، ولو كانت هناك حكومة مؤقتة على غرار حكومة علاوي لعملت على استتباب الأمن والوضع السياسي بصورة أفضل من إجراء انتخابات متتالية في ظروف لم تستقر فيها الأوضاع السياسية».
هل كان من سوء حظ العراق والعراقيين أن لا تستمر حكومة علاوي التي كانت تضم فريقا ناجحا ومتطورا من الوزراء المتخصصين والناجحين باعتراف غالبية السياسيين والمراقبين العراقيين وغير العراقيين؟ بعد أقل من عام تغيرت الحكومة، ومعها تغيرت المناصب ضمن لعبة الكراسي السياسية، وكان على صالح أن يخدم بلده وشعبه ضمن أي موقع يجده مناسبا ومفيدا للعراق الجديد، وكان أن تم ترشيحه وزيرا للخارجية، لكن توازنات الأحزاب والتوافقات السياسية وضعته في مكان آخر يتناسب مع اختصاصاته الأكاديمية والمهنية.
يقول: «في حكومة إبراهيم الجعفري (وهي الحكومة التي تلت حكومة علاوي بعد فوز الائتلاف العراقي، الشيعي، في الانتخابات) تبوأ مام جلال منصب رئيس الجمهورية فتم منح منصب نائب رئيس الوزراء للحزب الديمقراطي الكردستاني وصار روش نوري شاويس بهذا المنصب، وأنا تسلمت حقيبة وزارة التخطيط، والأخ هوشيار زيباري وزيرا للخارجية، وهو من الوزراء الأكفاء ونجح في عمله».
لا يتأخر صالح طويلا في أداء مهامه في مهمته الجديدة، ولن يقف متأملا موضوع المناصب ولعبة التوازنات والمحاصصات التي رافقت تشكيل حكومة الجعفري.
يوضح قائلا: «خلال عملي كوزير للتخطيط عملنا بجد، وانشغلنا بمشروع إجراء إحصاء سكاني عام في العراق، ووضعنا ورقة العمل والخطط وحددنا الميزانية، وكان الأخ مهدي العلاق، مدير الإحصاء في الوزارة، قد عمل بجهد لتحقيق ذلك، لكن حكومة الجعفري كان عمرها عاما واحدا، وفي حكومة (نوري) المالكي (رئيس الوزراء الحالي) تواصل العمل في هذا الاتجاه، لكن دخول عوارض سياسية وأمنية منع من إجراء الإحصاء العام».
في الانتخابات التشريعية التي جرت في ديسمبر (كانون الأول) 2005 خرج المشروع الوطني العلماني الذي قاده الدكتور إياد علاوي، ومثلته القائمة العراقية، خاسرا، إذ فاز الائتلاف العراقي الشيعي بأغلبية مريحة بعد أن لقي دعم المرجعية الشيعية في النجف ودعما إيرانيا واضحا، كما لم يحصل العرب السنة على مقاعد تمكنهم من أن يكونوا مؤثرين سواء في تشكيل الحكومة أو في البرلمان على الرغم من إسناد رئاسة مجلس النواب لهم.
كانت القائمة العراقية تنبذ المحاصصة وتعمل بعيدا عن الاستقطابات الطائفية والقومية، أما التحالف الكردستاني الذي جمع بين الحزبين الكرديين الرئيسيين، الاتحاد الوطني الكردستاني، والحزب الديمقراطي الكردستاني، وخاض الانتخابات تحت هذه التسمية (التحالف)، فقد اهتم بالتأكيد على الشأن الكردي خاصة والعراقي عامة، وتحالف مع الائتلاف العراقي الموحد لتشكيل الحكومة التي تأخر جمع حبات مسبحتها لمشكلات أثارها الجعفري، رئيس الحكومة السابقة، إذ رفض التنازل عن منصبه، لكن الحوارات بين الأطراف السياسية تمكنت من إقناع الجعفري بالتنازل لمساعده الحزبي وقتذاك، المالكي، واستمرت العلاقة المتطورة بين الأكراد والشيعة بينما انسحب التيار العلماني الوطني، علاوي، من العملية السياسية ومن الحكومة.
وهكذا جاءت حكومة المالكي شيعية كردية أكثر مما هي حكومة وحدة وطنية أو شراكة وطنية، إذ همش المكون السني وأبعد الاتجاه العلماني.
يتحدث صالح عن هذه المرحلة قائلا: «هناك أبعاد مختلفة في التحالف الكردي الشيعي، منها أن القوى الأساسية التي كانت تحارب النظام السابق هي الأكراد والشيعة، وبالذات الأحزاب الشيعية الإسلامية، وهذا التحالف نشأ منذ ذلك الوقت، فالنظام السابق كان يمارس سياسة الاضطهاد القومي ضد الكرد والطائفي ضد الشيعة، مما أدى إلى استقطابات طائفية»، مضيفا أن «التحالف الكردي الشيعي بلا شك صار يمثل الصبغة السياسية للنظام الجديد في العراق، على الأقل خلال السنوات الماضية».
– الحلقة الأولى من مذكرات برهم صالح: تعلمت العربية مبكرا بتشجيع من أبي الذي درس الحقوق ببغداد
– مذكرات برهم صالح (الحلقة 2): لم أقاتل مع البيشمركة بأوامر من الاتحاد الوطني..
وليس باختياري
– مذكرات برهم صالح: بعثيون طلبوا مني الانضمام إليهم فأجبتهم بأنني كردي ولا أستطيع الانتماء لحزب عربي (الحلقة الثالثة)