منظومة المجتمع الكردستاني وخلفيات المقاطعة

 الدكتور محمود عباس

  هل نجاح الاستفتاء على الدستور التركي بداية النهاية، لإسطورة العلمانية العسكرياتية التي رسخت أقدامها منذ إعدام مندرس؟ أم البداية أقدم ؟
   هل الفضل يعود كله إلى حزب العدالة والتنمية؟ أم للكرد  دور رئيسي فيه؟
  هل فعلاً بدأت صرح العسكرياتية الأتاتوركية تنهار؟ ولم يعد للأرغانكونيون القوة الكافية في تسيير تركيا او الصمود في وجه الأردوغانية؟
   إلى أي مدى تتدخل القوى الراسمالية العالمية  في سياسة الشرق الأوسط وما دورها في التغييرات التي تحصل في تركيا؟

    أسئلة عديدة تفرض نفسها على الساحتين السياسية والثقافية الكردية وبقوة.
   تناول الكثيرين من مثقفي الكرد مسيرة التغيير في الدستور التركي، وتناقضت الآراء، والجميع كانوا يتحاورون حول صواب أو خطأ قرار قيادة منظومة المجتمع الكردستاني.

ولقد كان للكثيرين آراء قيمة وتحليلات منطقية، حتى بعض الذين كانوا في الجهة المقابلة من المقاطعة، على سبيل المثال لا الحصر، أذكر الأخ “هوشنك أوسي” الذي أتى على تحليل مفصل ودقيق لبعض مواد الدستور التي تناولتها التغيير، وهو من الذين كانوا مع المقاطعة كأفضل الموجود.

وسوف أقتبس مقطعاً من مقالته” الدستور التركي” لتبيان فكرة ومنطق أولئك الذين وقفوا وراء سبب المقاطعة : ” …الدستور “الرابع” هو دستور الإسلام السياسي، بنسخة أتاتوركيّة، أقلّ عسكريّة، وأقلّ علمانيّة، أكثر منه دستور مدني، ديمقراطي، يحترم الواقع الموزاييكي الحضاري، الاجتماعي والثقافي في تركيا.

ما يبقي على القضايا القوميّة في تركيا، وفي مقدّمها، القضيّة الكرديّة، دائمة التوتر والاشتعال.

أياً يكن من أمر، فهذه الإصلاحات، أفضل مما كان موجوداً.

لكن، المأمول من حكومة العدالة والتنمية كان أكبر وأكثر.

وكان بإمكان الحزب الحاكم، تقديم والسعي إلى أفضل مما طرحه من حزمة الإصلاحات تلك.

وصحيح أن رفض التيار السياسي الكردي لهذه الاصلاحات، يتقاطع مع رفض حزب الشعب الجمهوري وحزب الحركة القوميّة المتطرّف لهذه الإصلاحات، إلاّ أنه من الغباء والبلاهة، الجمع بين الرفضين في سلّة واحدة” أنتهى الإقتباس.

وفي الواقع هذا النهج يتتبعه الأكثرية الكردية في الدولة التركية.

  وآخرين من السياسيين والمثقفين الكرد وجدوا في ذاك الموقف خطأ تكتيكي للمستقبل، وربما دعم غير مباشر للقوى الطورانية في تركيا، ومن الممكن تقبل هذه الفكرة في جزء منه، ومن بين هؤلاء مقالة السيد بشار أمين:  ” مجرد وجهة نظر” والتي أحتوت على بنية منطقية في الطرح وإبداء الرأي، لكن الأسئلة التي راودت رأي الأخ بشار، وهي: “…ألا يلتقي موقف مقاطعة الاستفتاء مع الجانب العسكري الذي رفض من الوهلة الأولى أية تعديلات على دستور البلاد ؟ ثم ألا يلتقي هذا الموقف مع المتزمتين من القوميين الترك الذين كانت مشاركتهم أيضا لهذا الاستفتاء ضعيفة ؟ ألا تعد المقاطعة إضعاف لموقف ودور المتعاطفين مع القضية الكردية في جانب الوطنيين الترك”.

ترددت في الحقيقة  وبشكل واضح على الساحة الكردية، لكن الآراء تختلف والأجوبة تتناقض، من حيث اللعبة السياسية التكتيكية في المنظورين القريب والبعيد، ومن ثم مقارنتها بالاستراتيجية البعيدة المدى والتي تتعلق بمصير أمة ضمن دستور دائم وفي دولة تسخر دستورها بشكل كامل لمصلحتها عندما تتعلق القضية بمشكلة حقوق القومية الكردية، لماذا دمج الأخ بشار أمين بين هذين المنطقين: إيجابية الذهاب إلى صناديق الإقتراع، ومنطق المقاطعة، التي هي في الواقع، تقف إلى الجانب الآخر المخالف كلياً لمنطق الذهاب بكلمة “لا” والتي تبنتها  القوى المعارضة؟  لكن الجديد والغريب الذي طرح على الساحة، من قبل كتاب آخرين، هي فكرة دعم حزب العدالة والتنمية ، بل والتعامل السياسي معه، وحتى أنه أشبه بنداء إلى الإنتماء إليه من منطلق، أعتبره طوباوي إلى حد ما، على أنه هناك قوة كردية تعمل من داخل العدالة والتنمية من أجل إيجاد حلول منطقية للقضية الكردية، لا أعلم إلى أي مدى هذه المعلومة موثوقة أم خاطئة، وفيها دعاية رخيصة لنشر الفكر الإسلام الليبرالي عن طريق العدالة والتنمية بين الكرد، وهي نفس المقولة التي تدعي بأنه للكرد دور في تأسيس الحزب نفسه، ولهم دور في التغييرات التي تحدث في تركيا الآن، وتبقى هذه مقولة ملغومة بحد ذاتها، غير واضحة المعالم، إلا أن الواضح الذي لا جدال فيه بأن القوى الدينية في المنطقة وخاصة الإسلامية لا تعترف بحقوق القوميات، وسوف لن تساند دساتيرهم  أو شرائعهم  مثلها مثل الشرائع الإلهية في فرز بنود إيجابية لحقوق القوميات، وخاصة المضطهدة منها كالكرد.

تاريخ الدولة الإسلامية الأيرانية مثال صارخ، ولا نزال نعيشه.

 السيد “علي بوبلاني”  وعن طريق مقالته المنشورة في بعض المواقع الكردية تحت عنوان” تركيا تهيء المقدمات لتقبير الكمالية” تمثل وجهة النظر السابقة التي ذكرتها، كما وأنه وعلى مجرى الحديث، وبدون قيود وتحديد أسماء، يبرئ ساحة الحكومة التركية من الجرائم التي حدثت في كردستان وعلى مدى ثلاثة عقود من الزمن ، أو على الأقل يبرر ذمة حزب العدالة والتنمية ، ويلقي بشكل مباشر، ودون ذكر للاسماء ثانية، اللوم واللوم كله على ب ك ك، ويتهمهم بخطف وقتل الأبرياء.

لن أبحث في منطق السيد علي بوبلاني، لكنني أظن بأنه كمثقف يدرك بأن صفحات تاريخ الحروب هي أعتم الصفحات في مسيرة الحضارات الإنسانية، وتحتوي على أفظع الجوانب المظلمة والأخطاء في التاريخ وتذوب في معمعانها أبرياء، تهز النفس والتاريخ البشري، لكن هل الخطأ يقع على جانب القوى “المدافعة ” أم” المهاجمة”  لتكتيم الحق والعدالة؟  الدولة العسكرياتية المهاجمة  بل والجاثمة على صدر كردستان، أبت  حتى عهد قريب الأعتراف بكيان أسمه كردي، وأزالت الآلاف من القرى في المناطق الكردية، هل سمعنا يوماً صوتاً معارضاً من حكومة أردوغان وحزبه الحاكم على هذا الإجحاف والتعتيم؟  والأكراد الموجودون في الحزب ذاك، هل حركوا ساكناً في هذا الاتجاه؟  المهم ، ليس هذا موضوع بحثنا هنا، أرجو من السيد بوبلاني أن يعيد التحليل ثانية في هذه النقطة.
  التغاضي التام من قبل السيد علي البوبلاني عن عامل تأثير قوى الكريلا ومن ثم منظومة المجتمع الكردستاني في التغييرات التي تجري من على الساحة الآن، يعتبر إجحافاً للمنطق التاريخي، ولدماء الشهداء التي أريقت،  في شعاب ووديان كردستان،من أجل حقوق أمة تنتهك منذ مئات السنوات.

قد يكون هناك بعض المنطق في رأيه  ورأي كتاب آخرين، أكدوا الذهاب إلى صناديق الاستفتاء بكلمة “نعم ” لتغيير بعض المواد الأساسية في الدستور والتي سيؤدي إلى تغيير محتمل ل “آناياسا”، والتي لا شك في الإيجابيات التي سوف تحدث في تركيا بعد هذا التغيير، لكن يجب أن لا ننسى بأن الدستور بهذه النوعية والمواد المقيدة بحق القوميات الأخرى سوف لن تكون  فاتحة خير لحقوق القومية الكردية، كما تتطلبه الديمقراطية، بل سيكون دستوراً كما ترغبه القوى التركية في داخل الأردوغانية، ذات الفكر الإسلامي الليبرالي، والتي بدورها لا تعترف سوى بالأمة الإسلامية الواحدة، وبالتأكيد الأردوغانية خطوة متطورة جداً مقارنة بالكمالية، وهذا ما يتفق عليه الجميع، لكنها ناقصة مقارنة بالخطوات الديمقراطية في العالم، والتطورات التي حصلت بالنسبة لحقوق الشعوب.

الغريب بالسيد علي بوبلاني أنه ينسى حقوق الشعب الكردي، والتي لا الدستور ولا الحزب الحاكم يأتي على ذكره، ويأتي بالحديث عن الأقنية التلفزيونية التي تبثها الحكومة التركية بالكردية خدمة لدعايتها والتطبيل للأردوغانية، كما يجد في تلفظ أردوغان لعدة كلمات بالكردية أو ذكر بعض مشاهير الكرد، فاتحة لحل القضية الكردية في تركيا، منطق محير لا أكثر.


  إن التغيير باتجاه إيجاد حل للقضية الكردية في تركيا تحت رقابة العدالة والتنمية ستكون مشوهة، ومموهة تحت إطار النهج الإسلامي على الأغلب، وقد وجدت مدحاً للأردوغانية في القصيدة المؤثرة للأخ “سروند” التي نشرت تحت عنوان” انهيار الآتاتوركية ” وبالمقابل يضع الآمال على القادم من الشمال، لكن بدون توضيح، شمال أردوغاني أم شمال من القوى الكردية؟  وفي نفس الوقت يبدي خيبة أمله بالإقليم الفيدرالي.

هل أصبحت الأردوغانية فكرة تجتاح بعض المثقفين الكرد؟ أم الإسلام الليبرالي أصبح يأخذ مداه في وسطنا كما يخطط في المراكز العليا لدى القوى الرأسمالية العالمية؟  يجب أن لا ننسى ابداً دورها الرئيس في كل ما يجري بشكل عام في الشرق الأوسط وفي تركيا بشكل خاص.
  نجح الإستفتاء، وهذا ما كانت ترغبه جميع القوى الكردية، ومنظومة المجتمع الكردستاني أيضاً، رغم قرار الممانعة من قبل قادتها، وقد يجد البعض هذه المقولة غريبة وغير منطقية، لكنها الحقيقة، ونتائجها سوف تظهر قريباً.

هذه الممانعة التي كانت وراءها منطقين تكتيكيين:
 1 – أنهم كانوا على ثقة بأن تغيير الدستور سوف يحصل على الأغلبية، وهنا سيكون قد اظهروا نقطتين.
·  مدى قوتهم في المناطق الكردية والتي يجب ان يدركها حزب العدالة والتنمية.
·  التأكيد للحزب الحاكم على أن الدستور يبقى ناقصاً ما دامت حقوق الأقليات فيه غير واردة وليس للكرد فيه ذكر، وهذا هو الجانب الأساسي الذي يطالبون به في تغيير الدستور إضافة إلى المطروح.


2- انهم القوة الكردية الرئيسية التي يجب التعامل معها، وان التغاضي المتعمد من قبل العدالة والتنمية لمنظومة المجتمع الكردستاني وقائدها المسجون في إميرالي لا يجدي نفعاً ولا يخدم عملية السلام في المنطقة.
 لئلا يتجاوز الآخرين الخط الأحمر، ويلعبون على نمط الأفكار التلفيقية باتهامات مبطنة، وضح قادة المنظومة، وفي أكثر من مناسبة، موقفهم المغاير تماماً للتصويت السلبي التي قامت بها القوى العلمانية العسكرياتية والأحزاب القومية الفاشية التركية، والتي رفضت التغيير بكلمة” لا” في التصويت.

رغم هذا التنوع والاختلاف فيما بين المعارضة الواضحة  والممانعة الإيجابية على التصويت، ظهرت، على الساحة الكردية ومن بين مثقفيهم،  شكوك في وجود علاقات وإتفاقيات سرية بين قادة المنظومة والقوى المعارضة لتغيير الدستور، ولا يستبعد بأن يكون للعدالة والتنمية دور في هذا الترويج الذي يقول بأنه هناك تعامل واتفاقيات تكتيكية بين قادة المنظومة والقوى العلمانية العسكرياتية وأحزاب القومية التركية، على افشال التغيير، بل تجاوزت الاتهامات إلى التأكيد على أن السيد عبدالله أوجالان تبنى هذا الموقف تحت تأثير القوى العسكرياتية ومنهم ارغانكون بشكل غير مباشر، وهؤلاء هم نفسهم الذين لا يتهاونون في إتهام قادة الكريلا والقنديل بجنرلات أرغانكون!!
 يبقى لنا رأي رابع، رغم أنه متأخر، فقد كان الأجدر بقادة منظومة المجتمع الكردستاني تبني الموقف الأكثر إيجابية في الإستفتاء ألا وهي: الذهاب إلى صناديق الاقتراع وبإيجابية، شرط أن يكون مدعوماً ببيانات ودعاية مكثفة في أسباب عدم إدراج بنود في حقوق القوميات داخل تركيا، وتبيان معارضة إعلامية لعدم إظهار حقوق الكرد ثانية كما حدث في تغييرات الدستور الأول الأتاتوركي.

وعلى الأغلب موقف مثل هذا كان بالإمكان إعطاء جرأة لأردغان وقادة حزبه في فتح أبواب أخرى للنقاش والتعامل مع منظومة المجتمع الكردستاني، وقائدها، سجين إميرالي وبشكل واضح.
  نجاح الاستفتاء، رغم المقاطعة، سوف يفتح تلك الأبواب، والديمقراطية سوف تخطو في الاتجاه الصحيح، وعلى قادة المنظومة تبيان الدعم للخطوات الأردوغانية المتلكئة والحذرة، ربما لخلق الثقة لدى جميع القوى التي تود تجاوز الخطوط التي رسمتها القوى العسكرياتية منذ قتلهم لمندرس.

وكما ذكرت سابقاً، مصالح القوى الرأسمالية الكبرى تتجه نحو مثل هذه الحلول، وعلى القوة الكردية استغلالها وبقوة وحذر.
  ما كان يؤمل حدوثه في سنوات قادمة، سوف نراه عما قريب، ومنها التعامل المفتوح والصريح وبشكل رسمي من قبل الدولة والحزب الحاكم مع قادة المنظومة ومع السيد عبدالله أوجلان، وكما ذكرت في مقالة سابقة، بأن قوى الجيش الشعبي، سوف توضع لها حلولاً منطقية، لتترك السلاح، والسيد عبدالله أوجلان سوف يغادر إمرالي، على أقل تقدير إقامة جبرية، وسيعامل كقائد وله دور في عملية وضع الحلول للقضية الكردية، وإن لم يكن مباشراً فلسوف يكون في البداية عن طريق قادة المنظومة، ولا يستبعد إشراك قوى كردية أخرى وأحزاب قومية تركية في المحاورات القادمة.
الولايات المتحدة الأمريكية
mamokurda@gmail.com  

 

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

إبراهيم اليوسف لا ريب أنه عندما تتحول حقوق الإنسان إلى أولوية نضالية في عالم غارق بالصراعات والانتهاكات، فإن منظمات المجتمع المدني الجادة تبرز كحارس أمين على القيم الإنسانية. في هذا السياق، تحديداً، تأسست منظمة حقوق الإنسان في سوريا- ماف في مدينة قامشلي، عام 2004، كردّ فعل سلمي حضاري على انتهاكات صارخة شهدتها المنطقة، وبخاصة بعد انتفاضة آذار الكردية 2004. ومنذ…

عنايت ديكو   الوجه الأول: – أرى أن صفقة “بهچلي – أوجلان” هي عبارة عن اتفاقية ذات طابع أمني وجيوسياسي بحت، بدأت معالمها تتكشف بشكل واضح لكل من يتابع الوضع عن كثب، ويلاحظ توزيع الأدوار وتأثيراتها على مختلف الأصعدة السياسية، الأمنية، والاجتماعية داخل تركيا وخارجها. الهدف الرئيسي من هذه الصفقة هو ضمان الأمن القومي التركي وتعزيز الجبهة الداخلية بجميع تفاصيلها…

اكرم حسين العلمانيّة هي مبدأ سياسي وفلسفي يهدف إلى فصل الدين عن الدولة والمؤسسات الحكومية ، وتنظيم الشؤون العامة بما يعتمد على المنطق، والعقلانية، والقوانين الوضعية بدون تدخل ديني. يتضمن مبدأ العلمانيّة الحفاظ على حرية الدين والمعتقد للأفراد، وضمان عدم التمييز ضد أي شخص بسبب دينه أو اعتقاده. تاريخياً ظهرت العلمانية مع اندلاع الثورة الفرنسية حيث خرجت الطبقة البرجوازية…

اننا في الفيدرالية السورية لحقوق الانسان والمنظمات والهيئات المدافعة عن حقوق الإنسان في سورية، وبالمشاركة مع أطفال العالم وجميع المدافعين عن حقوق الطفل وحقوق المرأة وحقوق الانسان، نحيي احتفال العالم بالذكرى السنوية الثلاثين لاتفاقية حقوق الطفل، التي تؤكد على الحقوق الأساسية للطفل في كل مكان وزمان. وقد نالت هذه الاتفاقية التصديق عليها في معظم أنحاء العالم، بعد أن أقرتها الجمعية…