تركيا تهيئ المقدمات لتقبير الكمالية

  علي بوبلاني

دشن الاستفتاء المجرى في الثاني عشر من أيلول الجاري عن بداية النهاية لحكم دام عقودا من الزمن، عانى الكرد منه الويلات، ابتداء من قتل ما يزيد عن مليون وسبعمائة ألف كردي، وحرق ما يزيد عن تسعة آلاف قرية وتهجير وفرار ما يربو عن نصف مليون آخرين ووصلا إلى قصف قرى كردستان الجنوبية المتاخمة للحدود المصطنع بين جزأين من كردستان المقسمة في وقتنا الراهن.

صنع هذه البداية لم يرق لبعض القوى الكردية، فلم تشارك لتسجل اسمها في سجل حدث تاريخي ستتناوله الأجيال القادمة، بافتخار، دراسة وتحليلا، ظرفا وواقعا، باحثة في ثناياه عن كوامن المدلين والممتنعين، لينطقوا، بعدها، بحكمهم.

إنهاء هذا الظلم المخيم علينا، نحن الكرد، منذ الربع الأول من القرن الفائت بتعاون دولي مأتي لدافع المصلحة، قد بدأ بفوز الاستفتاء.

فالمدلون بـ”نعم” في هذا الحدث التاريخي، قرروا البدء بتقبير الكمالية وإنهاء المأساة.
 
لا تحتوي المواد المدرجة، على لائحة الاستفتاء، نقاطا أو فقرات تخص الوضع الكردي، ولكنها تمهد لمجيء ما سيخص الكرد وقضيته فاتحا الطريق لوضع اللبنات الأولى والأسس الثابتة بين الكرد والترك لحل القضية حلا يرضي الطرفين.

ستبدأ مرحلة جديدة من تاريخ الكرد النضالي، وستتمخض عن قوى أخرى تتخذ من السلم شرطا في مجابهة الحكومة لحل المعضلة.

هذه القوى القادمة لن تستخدم فوهة الرشاش أو التفجيرات أو خطف وقتل الأبرياء، بل ستكون حضارية، صاحبة علم ومعرفة، تحظى بمكانة مدنية بين شعوب الأرض.

ستتعامل مع أبناء شعبها باللين والعطف، ستشاركهم في اتخاذ الرأي والقرار، سيكون الفرد مقدرا ومعززا لديها، لن تكون آمرا أو متسلطة، ستكون العلاقة أخوية متساوية ومتعادلة، لن تكون مراكز انطلاقها بغداد أو دمشق أو غيرهما.

ستنطلق وفودها المفاوضة من قرانا المنسية، ومن مدننا المهملة، وعند التفاوض لن يكون قراراتها فورية وارتجالية، بل سيرجئها، في حالة اللزوم، إلى حين الاستشارة بالشعب.

هذا ما نتوقعه أن تكون الحركة عليه في العهد الجديد.

فيما مضى كانت الحركة تتقوى بعدو ضد آخر، وهذه التقوية لم تصن الكرد من ويلات مواجهها، بل كانت هدرا لطاقات الكرد ودفعا للمزيد من الضحايا.

اتخاذ الدروس من الماضي واجب عقلاني مفروض علينا ونأمل أن تكون قد استفادوا من الماضي المرير.

فمن المتوقع في المرحلة الجديدة خفض السلبيات مقارنة بالماضي.

فالسائد في الراهن الالتزام بأوامر الدولة المساندة في مواجهتها للعدو المباشر، وإهمال أو إنكار الجزء المضيف لها؛ حيث كانت مركز انطلاقها ومصدر صونها، فكانت النتيجة مقايضة بالحركة الملتجئة، وذهاب الدماء المراقة هدرا ناهيكم عن المعتقلين والمعوقين، علاوة على إعالة عائلات وأيتام الشهداء.

فتركيا أردوغان ليست تركيا مصطفى كمال.

وليس حزب أردوغان هو حزب آتاتورك.

فالآتاتوركية مبنية على تصفية الأعراق الأخرى لصالح العرق التركي؛ في حين الأردوغانية ليست لديها هذا، وإن كان الترك العنصر الغالب في الدولة التي يحكمها حزبها.

هنا، التساوي بينها وبين الكمالية خلط وسطحية في الفكر والفهم.

ليس المطلق صحيحا في كل الحالات، وهذه الحالة واحدة منها لا يصح فيها المطلق، مهما كانت الحجج بتساوي الأردوغانية مع الكمالية خطأ تستفيد منه الحرس التركي القديم.

شيء آخر فالأردوغانية لها أن تتحجج بالقيود الكمالية في إنكار القوميات (سوى القومية التركية)، بإزالة تلك القوانين تسقط عنها (الأردوغانية) هذه الحجة، لماذا الامتناع عن إسقاطها؟ فنحن بدورنا نحاسب ونعاقب وفقا لفقراتها، عندما نفصح عن هويتنا الكردية.

في عهد الأردوغانية بالذات تُدشنت رسميا قناة تلفزيونية باللغة الكردية وتبعتها قناة أخرى والآن ينتظر ميلاد قناة ثالثة، ويُعتقد أن القنوات الكردية ستكثر في المنظور القريب، هذه القنوات لا تضاهيها قنوات الإقليم الكردستاني في العراق الفدرالي.

في عهدها أيضا يصرح رئيس الجمهورية الكمالية أن الاستقرار في تركيا لن يكون إلا بحل القضية الكردية، نفس أردوغان يتفوه بصفة رئيس حكومة في دولة الكمالية بكلمات كردية موجهة للكرد، ويعبر عن مشاعره المؤثرة بصوت وموسيقى شفان برور في البرلمان؛ بينما كادت الكمالية ترسل إلى المشنقة ثلاثة عشر محاميا ومناضلا كرديا إلى حبل المشنقة لكونهم تقدموا بطلب إلى الحكومة على أن تسجل وتذاع الأغاني الفولكلورية الكردية بعد أن تترجم إلى التركية، كما هو حال الفولكلور الكردي في تركيا الآن، لولا امتناع رئيس الجمهورية جلال بيار آنذاك على توقيع القرار لشنقوا، فأين وجه المساواة هنا بينهما؟ فأردوغان والأردوغانية يدعوان الآن جميع تركيا إلى إزالة تلك القوانين العنصرية.

هل هذه خيانة ومصيدة أو التفاف على القضية الكردية أم أنه دعوة لانتشال الدولة من جور وبراثين السفاح المقبور ما يقارب من قرن مصطفى كمال.

أم أن الامتناع عن التصويت هو لعرض العضلات وإجبار الحكومة للجلوس على طاولة المفاوضات معها بمعزل عن القوى الكردية الأخرى المتواجدة على الساحة؟ لو أن الاستفتاء لم ينجح، من كان المستفيد الكمالية أم من ابتغى عرض العضلات؟ من الاستقراءات للوضع كان الخاسر الأكبر هو قضية الديمقراطية التي هي السبيل في وضع المقدمات الأولى لحل المعضلة الكردية هناك.

كما أسلفنا أن الكمالية منذ خمس وثمانين عاما تبذل جهودا مضنية لصهر القوميات في العنصر التركي، وقد نجحت في صهر اللاز ويكاد يكون تاما والعرب قد قضت عليهم في منطقة كيليكا؛ حيث لا تجد العربي الذي يجيد العربية إلا بشكل نادر، وأنطاكيا ثلاثة أرباعها تتركت ناهيكم عن التتار وشعوب البلقان من رومانيين وبلغار وإلى حد كبير اليونانيين.

فالعنصر الوحيد الذي استطاع أن يقاوم الكمالية هو العنصر الكردي، علما أن قسما لا يستهان به تترك أيضا، وخاصة في المدن الكردية الكبيرة كآمد مثالا، لغتهم الرسمية هي التركية بلهجة كردية واضحة.

ومنذ السبعينات غيرت القرى الكردية بعد مدنها لغتها إلى التركية أمثال خربوط، وأرزنجان وملاطيا، ومرش، فالجيل القائم من هذه الولايات لغتهم الرسمية هي التركية مع اعتراف البعض بأصله الكردي.

المفروض على الحراك الكردي القادم أن يطالب الحكومة بامتيازات للكرد من أجل إزالة آثار الكمالية التي صهرت العديد منهم وأهملت مناطقهم.

بكسب امتيازات من هذا النوع من الممكن إعادة اللغة والأصل إلى من انصهروا، وإلا سيخسر الكرد تلك الأجزاء شعبا وأرضا.

وهناك عامل آخر ليخسر الكرد نفس الأجزاء إذا أرادوا الانفصال عن تركيا حاليا.

لن تنضوي تلك الأجزاء إلى كردستان المزمعة على الانفصال من تركيا الكمالية.

مهما يكن، تركيا مقبلة على عهد جديد لإزالة القوانين العنصرية وتأمين تآلف ليرضي القوميات المكبوتة منذ ميلاد الجمهورية الكمالية وإلى الآن وإن لم يكن تاما.

سيعتمد النجاح المرضي على مدى جدارة قوى التغيير، ضمنها الحراك الكردي وإمكانياته لدفع التغييرات لحل قضيته حلا يرضيه.
فحزب أردوغان يشكل الكرد فيه نسبة تكاد تكون أكثر من نسبة القوميات والأثينيات المنتسبة إليه، وما يميز الكرد فيه هو عدم التماسكم فيما بينهم.

هذا يضعف القضية إلى حد قد لا تفيدها بالقدر المطلوب.

على العموم سيكون هناك حل للقضية وإن كان ناقصا بالنسبة لوجهة نظرنا.


Boblani5@gmail.com

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

إبراهيم اليوسف منذ سقوط النظام المجرم في 8 كانون الأول 2024 وتحول السلطة إلى السيد أحمد الشرع، بات السوريون، سواء أكان ذلك في العاصمة دمشق أو المدن الكبرى والصغرى، يتطلعون إلى مرحلة جديدة يتخلصون فيها من الظلم والاستبداد. حيث سنوات طويلة من مكابدات المعذبين في سجون الطاغية الأسد وأبيه كانت كفيلة بتدمير أرواح مئات الآلاف. بعض السجناء أمضوا…

شكري بكر هذا الموضوع مطروح للمناقشة قد يؤدي بنا للوصول إلى إقامة نظام يختلف عما سبقونا من سلاطين وحكام وممالك وما نحن عليه الآن حيث التشتت والإنقسام وتبعثر الجهود الفكرية والسياسية والإقتصادية والعمل نحو إقامة مجتمع خال من كل أشكال الصراع وإلغاء العسكرة أرضا وفضاءا التي تهدر 80% من الإقتصاد العالمي ، إن تغلبنا على هذا التسلح يمكن…

إياد أبو شقرا عودة إلى الموضوع السوري، لا بد من القول، إن قلة منا كانت تتوقّع قبل شهر ما نحن فيه اليوم. إذ إن طيّ صفحة 54 سنة خلال أقل من أسبوعين إنجازٌ ضخم بكل ما في الكلمة من معنى. سهولة إسقاط نظام الأسد، وسرعة تداعيه، أدهشتا حتماً حتى أكثر المتفائلين بالتغيير المرجوّ. إلا أنني أزعم، بعدما تولّت قيادة العمليات…

طارق الحميد منذ فرار بشار الأسد، في 8 ديسمبر (كانون الأول)، إلى روسيا، وهناك سيل من النقد والمطالبات للحكام الجدد، وتحديداً أحمد الشرع. والقصة ليست بجدوى ذلك من عدمه، بل إن جل تلك الانتقادات لا تستند إلى حقائق. وسأناقش بعضاً منها هنا، وهي «غيض من فيض». مثلاً، كان يقال إن لا حل عسكرياً بسوريا، بينما سقط الأسد في 12 يوماً…