وسبقت باكستان إلى تلك المِحن الناتجة عن جنون الطبيعة وهسترتها، بلدان كثيرة كأندونيسيا وبانغلاديش.
أمّا اليونان، وعاصمتها أثينا، منبت الديمقراطيّة ومشتلها الأوّل، وأرض الفلسفة والفن والمسرح والشعر والميثولوجيا، فتتعرّض لكوارث بشريّة، تفوق في نتائجها الحضاريّة، ما تعرَّضت له البلدان السالفة الذكر.
إذ لا يكاد يمرّ يوم إلاّ وتجد مئات المهاجرين غير الشرعيين، يتوافدون على اليونان، من تركيا، برّاً عبر أدرنة التركيّة، أو بحرّاً، عبر سواحل أزمير إلى جزر ساموس وكيوس وميدللي وفرماكوس…، أو من ساحل قرى سياحيّة تركيّة تابعة لمرمريس إلى جزيرة رودوس، ومنها إلى أثينا.
ومن كافّة الأعمار: رضَّع، وأطفال، وشباب وصبايا، ونسبة قليلة جدّاً من المسنين.
وذلك، عبر الأراضي التركيّة.
كأنّها جحافل «البرابرة» البؤساء الجدد، التي تغزو اليونان، ومنها، إلى أوروبا!.
فبعد أن انسدّت منافذ المغرب _ إسبانيا، الجزائر – فرنسا، وليبيا – إيطاليا، لم يبقَ منفذ أمام المهاجرين غير الشرعيين إلا اليونان، عبر تركيا.
ثمّة تقنيّة معتادة ومتداولة بين المهاجرين غير الشرعيين يستخدمونها أثناء الإدلاء بإفاداتهم أمام مراكز التوقيف ودوائر الهجرة وفي معسكرات الاعتقال، وهي: كل العرب، من المغرب والجزائر وتونس ومصر وسورية واليمن والعراق ولبنان…، يقولون للسلطات المعنيّة، إنّهم فلسطينيون، وتحديداً، من غزّة! ويبدأون بالحديث عن حيّ الزيتون، وحيّ التفاح، وخان يونس…، والطرقات والحارات والمحال والجوامع الوهميّة…!.
وحين تسألهم عن تاريخ النضال الفلسطيني؟ أو عن حركة «حماس» ومنظمة التحرير؟.
لا يفقهون شيئاً، ويتهرّبون منك!.
والموظّفون ورجال البوليس، يعرفون أن المهاجرين يكذبون!.
وهنا، تتعرّض محنة فلسطين وشعبها، وبخاصّة، أهل غزّة، إلى أبشع استثمار!.
وهذه المرّة، من الشعوب العربيّة، وليس من النظم والنخب العربيّة!.
وربما لا تتعدّى نسبة الفلسطينيين الحقيقيين، من بين مجموع المهاجرين العرب غير الشرعيين، حوالي 0,001 بالألف!.
أمّا أكراد العراق، فمن يجيد العربيّة، يسجّل نفسه فلسطينياً، ومن لا يجيد، يسجّل نفسه كردي إيراني!.
إذ أن البلدان الأوروبيّة، لم تعد تقبل لجوء الكردي العراقي، نظراً لاستقرار الوضع في العراق وكردستان.
ونسبة الإيزيديين، هي الأعلى بين أكراد العراق المهاجرين!.
رغم استقرار الوضع الأمني والاقتصادي في كردستان العراق، ترى الهجرة منها كالجراد، والسلطات تتفرّج، ولا تناقش أسباب هذا الأمر المريب! ولا تعالجه! ولا توجد تدابير احترازيّة تحول دون ذلك!.
أكراد تركيا، قلّت نسبة الهجرة بينهم.
والآتون، إمّا يكونون فارّين من أحكام قضائيّة، بالسجن وغرامات فلكيّة، على خلفيّة تُهم سياسيّة، أو يكونون هاربين من الخدمة العسكريّة.
أكراد إيران، يسجّلون أنفسهم بإسمهم وجنسيّهم.
وأكراد سوريّة، منهم من يسجّل نفسه في اليونان، على أنه كردي سوري، ومنهم من لا يسجّل ذلك، على أمل المرور إلى البرّ الأوروبي.
أمّا الهنود والباكستانيون والفرس، فيسجّلون أنفسهم على أنهم أفغان.
والقليلون من الفرس، يسجّلون أنفسهم على أنهم فرس إيرانيون.
وكلّ من له بشرة سمراء داكنة، ومهاجر من البلدان الأفريقيّة، يسجّل نفسه صومالياً!
أغلبية الأكراد المهاجرين المتواجدين في أثينا من كردستان العراق، يقيمون في أحياء: دافني، نيوكوزموس، إيغاليو، وأومونيا وضواحيها.
واكراد تركيا، غالبيتهم يتواجدون في قرية أناويسون، تابعة لمنطقة لاوريون التابعة للعاصمة، وتبعد عنها 52 كيلومتراً.
الأفارقة والهنود والبنغال والأفغان والايرانيون… موزّعون على كافة أحياء أثينا.
البنغال والأفغان، وقسم من أكراد العراق وسورية، صارت لهم أعمال تجاريّة ومحال ومطاعم ومقاه في أثينا.
والباقي، إمّا يعملون في المعامل والوِرش والمهنّ الحرّة والمطاعم والكافيتيريات، أو في أعمال البناء والديكور، أو يعملون في مافيات وشبكات تهريب البشر وتزوير الوثائق.
وليس غريباً، إذا صادفت المشاحنات والمناكفات والمكاسرات، وحتّى الصدامات، بين المهرِّبين، في سوق الهجرة غير الشرعيّة في أثينا.
إذ يسعى أحدهم إلى خطف زبائن الآخر، أو خطف المهرِّب نفسه، حتّى يستحصل على «أمواله»!.
وبالتالي، البيئة الأثينيّة _ اليونانيّة، صارت فاسدة وجدّ موبوءة بأعمال النصب والاحتيال والسطو والتهريب والاختلاس، ناهيك عن وجود ساحات وأماكن مخصَّصة في أثينا للاتجار وتعاطي المخدّرات!.
تكفيك جولة بسيطة في أثينا، حتّى تجدها تغصّ بالمهاجرين، يفترشون الأرصفة والحدائق، قياماً وقعوداً ونياماً!.
ولكل جماعة مهاجرين مقاهيهم الخاصّة بهم، كمقاهي الاكراد ومقاهي المصريين ومقاهي المغاربة والجزائريين أو السودانيين والصوماليين والبنغاليين… وهكذا دواليك!.
فيما يشبه التكتّلات القوميّة والعرقيّة، بحيث إذا زرت مقهاً كرديَّاً، لن تجد فيها عربيّاً واحداً، وحتّى لو كان من نفس البلد!.
في هذه المقاهي، تكثر لقاءات المهربين والمزوّين بضحاياهم اللاجئين، وغالباً ما تتمّ فيها الصفقات وأعمال النصب والاحتيال.
بعد كل ذلك الصيت الحضاري والثقافي العميق والعريق لأثينا، على مدى أكثر من 5000 سنة من عمرها، وبعد مرور 25 سنة على اختيار أوروبا سنة 1985 لها كأوّل عاصمة للثقافة الأوروبيّة، وكأنّ أثينا الآن، مكبّ لنفايات أوروبا!.
إذ أن كل مهاجر أو لاجئ، طرد أو رحِّل من الدول الأوروبيّة إلى بلده، بتهم شتّى، يتواجد الآن في اليونان، بغية معاودة الرحلة نحو أوروبا.
وكل من هرب من بلاده، ويريد السفر إلى أوروبا، تجده في أثينا.
ونادراً جدّاً جدّاً ما تجد بين المهاجرين، أصحاب الشهادات أو المثقفين والسياسيين الحقيقيين.
ولا تتعدّى نسبة هؤلاء واحداً من أصل ألف مهاجر!.
والكلّ ينتحل صفة!.
وفي هذا البلد، وكاتب هذه السطور شاهد عيان على مجيء أكثر من عشر «بائسات»، من بلد عربي، أتين من كازينوهات وكباريهات أزمير واسطنبول، إلى إحدى الجزر اليونانيّة، وقدّمن طلبات اللجوء السياسي على أنّهنَّ لاجئات سياسيّات فلسطينيّات، فقط لأنّهنَّ يتحدّثن اللغة العربيّة!.
أثينا، لم تكن بائسة ومريضة ومشوّهة…، في كلِّ تاريخها، أكثر مما هي عليه الآن.
أثينا، لم تكن غريبة عن أثينا الفكر والفلسفة والفنّ والمسرح والعمارة والنحت والميثيلوجيا… أكثر من هذه الأيّام.
وعدا عن هذه الحال الكارثيّة، ثمّة أزمة اقتصاديّة خانقة، تعصف باليونان، بالإضافة إلى أعباء الأزمة الماليّة العالميّة!.
وقيل: إن الصحف الألمانيّة نشرت خبراً مفاده: إن بعض الجهات الألمانيّة عرضت شراء أهمّ معلم أثري وتاريخي يوناني، وهو الأكروبوليس، بغية سداد ديون اليونان، فاستشاط اليونانيون غيظاً.
لكن، ما فائدة الغيظ، واليونان بكلّ جزرها البالغ عددها 9841 جزيرة، وبكامل مساحتها البالغة 130 ألف كيلو متر مربّع، تئنّ تحت هذا الثقل الحضاري والثقافي والاقتصادي الذي تعانيه، مستحضرةً تلك الأيّام الخوالي، في غابر العصور والآوان، حين كان الأغريق والهليليون أسياد الفكر والفلسفة والفنّ والمسرح والحروب والفتوح.
فمن ينقذ اليونان وأثينا من ورطة الجغرافيا التي جعلتها البوابة الجنوب شرقيّة لأوروبا وطريق كل طامح للسفر إلى أوروبا!؟.
ومَن ينقذها مِن لعنة الحاضر التي توشك أن تتلف ما تبقّى من الإرث الحضاري الإغريقي العظيم!؟.
فالكثيرون هنا، يتحدّثون عن قصص الفساد والرشوة المستشريّة في مفاصل الدولة، من أبسط رجل شرطة إلى أهمّ وزير.
تماماً، كما هي الحال في البلدان الشرق أوسطيّة!.
وربما يقول قائل: هذه أيضاً، هي لعنة التاريخ على اليونان، أرض الديمقراطيّة والفلسفة والفنون، بأن غدت أرض الفساد وملعب المافيات…، وملهى ومعبث المهاجرين غير الشرعيين، لكون اليونانيين، يتفاخرون أنهم هيلينيون، ويتغنّون بأمجاد الماضي، ولا يعالجون مشاكلهم ويتغافلون عن اوساخ وقبائح الحاضر، تماماً كما الحال في أي بلد شرق أوسطي.
فهل من أسكندر معاصر، يفكّ عن اليونان هذا الحصار الخانق، قبل أن تسقط في يد الغرباء العابثين؟ وهل من أبوقراط معاصر يداوي جراحها المخثنة؟، وهل من أرسطو معاصر، يمنطق خلاصها من نكبتها الحضاريّة هذه؟!