وهو ما يعاضد قول لينين: ستأتي إلى الإشتراكية هذا البلد أو ذاك، هذا الشعب أو ذاك، بهذه الطريقة أو تلك……).
وقوله حينما خاطب جمع من القادة السياسيين للبلدان الإشتراكية: (يخطئون هؤلاء الذين يقولون إن ذلك اللون الرمادي صالح لكل زمان ومكان).
هكذا يكون لكل شعب ولكل بلد ظروفه وخصائصه ومجالاته التي تسمح له بامتداد فراسخ الإشتراكية إلى أعماق دياره وثراه، كان هذا في الوقت الذي كان فيه لينين يتمسك بمقولة ماركس: عدم إمكان تطبيق الإشتراكية في بلد متخلف دون مساعدة من الدول الإشتراكية لهذا البلد، أو أن الثورة الإشتراكية يجب أن تنجح في إحدى الدول الأوربية المتقدمة وكانت روسيا مستقناة منها، لكن الثورة نجحت في روسيا دون غيرها لكنها لم تستمر إلى حيث ماهو مطلوب في المسيرة الإشتراكية الوليدة بعملية قيصرية وجرت الرياح بما لاتشتهي السفن.
وهذا يتطابق ولو ضمنياً مع مقولة لينين الثورة الدائمة: رغم نسبة المقولة إلى تروتسكي وظهور خلاف بسببها وبسبب غيرها بينه وبين ستالين.
لكن يقول لينين يقول أيضاً: ( إننا نؤيد الثورة المتواصلة ولن نقف في منتصف الطرق…) مجلد – 8 – 186- 187- وهذا كلام جوهري ومحوري في أجندة التطبيق العملي للإشتراكية والنقطة الحساسة والأساسية التي تدور حولها مقلاتنا هذه.
ونعود هنا إلى القول بأن ماركس كان صادقاً في قوله الشهير حول عدم إمكانية تطبيق الإشتراكية في بلد متخلف بل يتطلب لإنجاحها بلداً متقدماً من النواحي الإقتصادية، بلد أو دولة تنتشر فيها المصانع والمعامل كألمانيا وإنكلترا أو فرنسا على سبيل المثال.
حتى تتشكل طبقة عمالية واعية تقود البروليتاريا نحو النصر ومن ثم بناء الإشتراكية بدون عوائق خطيرة.
ويمكننا أن نشير وضمن هذا السياق المعرفي: من أن قيام الثورة الإشتراكية في بلد فلاحي متخلف كروسيا بمقاسات ذلك العصر لم تأت حسب مقاسات مفاصل هذا الجسد الروسي الفلاحي الضعيف، وكان انزياحاً في الوقت نفسه عن معيارية النظرية الماركسية، كما أنها جاءت في وقتها غير المناسب بغض النظر عن التبعات التي أعقبتها بعد ذلك، وهو الأمر الذي أدى إلى انهيار البلدان الإشتراكية السريع وفي غضون سنوات قلائل من قيامها سواء في المركز أو في أطرافه.
وبالفعل من البداهة القول كما تثبت الوقائع العلمية، بأنه لايمكن تطبيق الإشتراكية بالشكل المطلوب في الدول الفقيرة كالدول الإفريقية أو أي من الدول النامية الآسيوية دو مشاكل ومنغصات قد تؤدي إلى انهيارها السريع كما حدث مع الدولة السوفيتية الوليدة أو الإشتراكية الأوربية منها وبشكل مأساوي مرير، وكان ذلك بسبب عدم ملائمة إقتصاديات هذه الدول وعدم تحملها التوزيع المناسب للثروة، أو عدم وجود طبقة عمالية تقود البروليتاريا والشعب نحو النصر، ودون ظهور ردات أفعال مناصرة للإشتراكيات القائمة من قبل شعوب تلك المجتمعات المتحجرة كما حدث في أفغانستان مثلاً.
فحينما سعى حزب (خلق) الإشتراكي المتطرف بقيادة حفظ الله أمين إلى الإسراع بالإصلاحات الإشتراكية كحقوق ملكية الأراضي وتحرير المرأة ومساواتها بالرجل، أدى ذلك إلى تمرد عارم في إقليم نورستان الأفغاني، وكانت النتيجة مجيء حزب (البارشام) الإشتراكي المعتدل برئاسة بابراك كارمال إلى الحكم ومن بعده الرئيس محمد نجيب الله الإشتراكي الذي أعدم مع أخيه بشكل مأساوي، ومن ثم إنهاء الحكومة الإشتراكية في أفغانستان ومجيء الحكومة الإسلامية إلى الحكم ومن بعدها حكومة طالبان الإسلامية المتشددة وآخرها حكومة كرزاي الإسلامية المعتدلة.
وكان سبب الإنهيار الإشتراكي في افغانستان هو عدم ملائمة الوضع العقائدي والإجتماعي والإقتصادي فيها للتطبيق العملي للإشتراكية، أو بمعنى آخر عدم نضوج وتهيئة الظروف الذاتية والموضوعية للإشتراكية في هذا البلد العقائدي المتدين.
وهو الأمر ذاته الذي حدث في الإتحاد السوفيتي وحمهورياته الإسلامية وإنما على عجلات بطيئة إلى أن انتهت الحكومة الشيوعية على يد غورباتشوف وبرويستريوكاه الشهيرة نهاية عام 1991م.
ومن هنا يمكن الإقرار بأنه لم يكن الواقع الملموس لروسيا مناسباً لهذا الحدث الجلل في ثقله وعظمته، ولم تكن روسيا وجمهورياتها مؤهلة لاستمراراية وإدامة تبعات ثورة راديكالية بهذا الحجم والمستوى من التغيير الجذري، وهو ما أدى إلى فشل التجربة الإشتراكية الأولى في العالم خلال ما يقري من سبعين عاماً من تطبيقها وسط تململات الشعوب المنضوية تحت لواء الإشتراكية ومنها الشعب الروسي بالدرجة الأولى والذي لم يدافع عن الإشتراكية عندما هاجمها يلتسن وأنصاره( 10 حزيران 1991 – 1999م).
كما لم يؤازر الإنقلاب المضاد الشهير الذي قام به الضباط الشيوعيون ضد حركة يلتسن ومعاونيه في 19 من شهر آب 1991م.
وفي الحقيقة يمكننا أن نجمل الأسباب الرئيسية التي أدت إلى هذا الإنهيار السريع للجمهورية السوفيتية الفتية بعدة عوامل، منها عوامل آنية وأخرى استيراتيجية، أو كما يقال في التاريخ أسباب بعيدة وأخرى مباشرة أو قريبة.
العوامل الآنية وتتمثل بـ:
1 – البيروقراطية التي تشعبت في المستويات الوظيفية، وتفشي حالات من سوء استغلال الوظيفة وإدارات الدولة وانتشار الرشوة والإثراء السريع والفساد والإفساد معاً.
2 – تباطؤ النمو الإقتصادي وعجز الدولة السوفيتية عن اللحاق بركب الدول المتقدمة من حيث الإتاج الزراعي بشكل خاص، فكانت الدولة السوفيتية وحتى وقت ليس ببعيد تستورد الحبوب مع أن روسيا كانت مركزاً رئيسيا لإنتاج الحبوب في العالم.
وهو ما أدى في أحسن حالاته إلى تدني المستوى المعيشي وانخفاض متوسط العمر 60عاماًن مقابل 85 عاماً في السويد مثلاً.
3 – التضييق على الحريات العامة وطرح شعار ديكتاتورية البروليتارية وشعار الديمقراطية الشعبية الإشتراكية، وهو ما يعني حينها استبعاد الطبقات البرجوازية من ممارسة حق الإقتراع والإنتخاب، مما خلق إستياء شعبياً عارماًً، بالإضافة إلى وصول الإتحاد إلى حالة من الإفلاس الإيديولوجي العقائدي، وظهور أجنحة متصارعة داخل الحزب وتشتت منتسبيه ما بين تقدمي ورجعي محافظ.
أما العوامل الإستراتيجية فتكمن بعضها في الآتي:
الأول: إن الغالبية العظمى من الشعب الروسي كانت تنتمي إلى الفلاحين الذين يعجز اقتصادهم التبادلي أو حتى البضاعي الصغير، عن استيعاب تطبيق الإشتراكية التي تأتي حسب تصنيفات ماركس بعد النظام الرأسمالي مباشرة، أي يرى ماركس أن الإشتراكية يجب انبناؤها على المنجزات الرأسمالية وإقتصادها البرجوازي الملائم حتى يمكن تطبيقها بأريحية على أرض الواقع وهذا ما لم متوفراً ولم يتم تحققه في روسيا مطلقاً.
ثانياً: معظم إن لم نقل كل الشعوب الأخرى غير الروسية المنضوية تحت لواء الدولة السوفيتية كانت شعوباً مسلمة لايزال الإسلام يشكل العقيدة الأرسخ في قلوب أبنائها والذي لم تستطع سبعة عقود من تطبيق الإشتراكية محو هذا الدين من قلوب معتنقيه بشكل من الأشكال.
وبذلك يمكن اعتبار ما قاله لينين :من أنه لايمكن تطبيق الإشتراكية بدون القضاء على الدين.
أو قول ماركس الدين أفيون الشعوب، كانا بمثابة مسمارين في نعش الإشتراكية الوليدة والتي وصفناها بالعملية القيصرية المستعصية آنفاً.
ثالثاً: سطوة الدول الإمبريالية التي كانت في أوج قوتها وعزها، مما جعلها تتكالب على الدولة الفتية وتحاصرها من كل جانب، وتستنزف ثرواتها في التجييش والتسليح، بالإضافة إلى استنزاف الدولة السوفيتية في دعمها المستمر لحركات التحرر الوطني والتي كانت ترى أنها تقف في وجه الإمتداد الإمبريالي، أي أن دعمها لهذه الحركات القومية وغير القومية كانت تدخل صمن إطار مصالحها الإستراتيجية كدولة عظمى لها مصالحها في المنطقة.
بمعنى آخر، تحولت الثورة من مؤسسة لحماية مكاسب الإشتراكية ووالنزعة العقائدية و العمل من أجل البناء وترسيخ الإشتراكية وقمع الفساد والإفساد في الدولة الفتية، إلى مجرد الدفاع عن دولة تبحث عن مصالحها الحيوية في العالم.
رابعاً: تحول الدولة سريعاً إلى الديكتاتورية وعبادة الفرد والتمكين لحكم الأوليكارشية الستالينية بكل مساوئها وتبعاتها.
خامساً: عدم نجاح الثورة الألمانية التي كان لينين يأمل في نجاحها ومآزرتها للثورة السوفيتية اقتداء بمقولة لايمكن إنجاح الإشتراكية في بلد واحد، قبل أن يقر الحزب لاحقاً بإمكان إنجاح الإشتراكية في بلد واحد، وهو ما أدى إلى إضعاف الثورة وتوفير الفرصة للأعداء لمحاصرتها وتقزيمها ومن ثم انهيارها..
سادساً: إن المقولات التقدمية والرجعية أثبتت عكس ما كان يرجى منها، فقد دأب الشيوعيون على وصم الدول والمجتمعات البرجوازية دوماً بالرجعية، مقابل سموا المذهب الإشتراكي ووصم أتباعه بالتقدميين، منطلقين من مراحل ماركس الخمس للتشكيلات الإجتماعية- الإقتصادية وتراتبيتها، وهي المشاعية- -العبودية- الإقطاعية – الرأسمالية – ثم الإشتراكية – أو بمقدار ما تقدمه هذا النظام أو ذاك لشعوبها من إنسانية وعدالة ورفاهية.
ولكن الحقيقة فقد أثبتت الأحداث جمود إن لم نقل رجعية الإشتراكية المشيدة، وذلك حينما عجزت الدولة السوفيتية وخلال مايقرب من سبعين عاماً من تخطي أواللحاق بالدول البرجوازية المسماة بالرجعية، فدولة مثل السويد أو الإمارات العربية المتحدة مثلاً، والتي كانت تعتبر رجعية في العرف الشيوعي، كانت تخطو نحو قمة رفاهيتها الإقتصادية كما هي عليه الآن، من حيث توفيرها مستلزمات الحياة الكريمة لشعبها عمالها وفلاحيها برجوازييها وشيوخها، بينما كان الفساد والإفساد ينخران في بنيان الدول الإشتراكية حتى مرحلة الإنهيار والموت السريع.
هذا في الوقت الذي تمكنت فيه الرأسمالية من تجديد نفسها واستطاعت استيعاب الأزمات التي تعرضت لها خلال تاريخها الطويل، بينما عجزت الدولة السوفيتية عن الصمود في وجه أزمة واحدة والتي عصفت بكل مكنوناتها الإشتراكية، وخاب معها آمال الإنسانية في تحقيق العدالة و المساواة بين البشر، وحتى إيصال شعبها إلى دولة الرفاه أومستوى معيشي لائق.
ولعكس المرتجى فقد تحول العامل ذاته والذي يشكل الركيزة الأولى والأهم في بناء الدولة الإشتراكية، إلى شخصية مهزوزة فاسدة تتقاعس عن واجباتها في العمل وتختلس الأموال العامة للدولة والشعب، بينما لم تصل الأمور بالعامل الرأسمالي إلى هذا الحد نتيجة الرقابة الجادة عليه من قبل أرباب العمل.
بالإضافة إلى أن الحرب العالمية الأولى أثنتت وجود فجوة هائلة بل كراهية بين العمال في مختلف الدول، وكانت مقولة ماركس: ( يا عمال العالم اتحدوا) صرخة في واد، وذلك حينما تضامن عمال الدول الرأسمالية مع برجوازيات بلادهم في الحرب العالمية الأولى، ولم يتضامنوا أو يتحدوا مع عمال الدول الأخرى أوالدولة السوفيتية حينما هاجمها الألمان عام 1918م.
رغم أن ماركس كان يرى أن مستقبل العمال أينما وجدوا هو في الإشتراكية وليس الرأسمالية.
من هنا أيضاً كانت ضرورة مراجعة بعض النظريات والمنطلقات والشعارات الأساسية للإشتراكية السياسية التطبيقية، والتي لاتزال تطرح نفسها بكل أوزار الماضي وإرثه الثقيل على ساحات الأحزاب الشيوعية حتى الآن.
ونعود إلى القول بأنه ورغم وجود مباديء إنسانية وأساسية في النظرية الإشتراكية مثل – حق تقرير المصير للشعوب- وعدم استغلال الإنسان للإنسان – وحقوق المرأة- والعدالة والمساواة- …الخ ألا أن أي من هذه الأمور لم تطبق في الدولة السوفيتية ولا في الدول الإشتراكية الأخرى وفق النظرية المرسومة، ولم تنطبق النظرية على الممارسة، بل لم تصبح المصانع للعمال ولا الأراضي للفلاح حسب إحدى الشعارات القديمة للإشتراكية.
ولكن ما نقوله اليوم وبعد مرور مايقرب من عقدين على نهاية البروسترويكا الغورباتشوفية، وما أعقبها من انهيار الدولة السوفيتية 1991م بل ومعظم الدول الإشتراكية السائرة في فلكها، نقول منذ تلك النهاية التراجيدية لأول تجربة اشتراكية في العالم، لم نلمس حراكاً لتنظير عقائدي جديد لدى الأحزاب الشيوعية الباقية، ليصار إلى تصحح الأخطاء القاتلة التي وقعت فيها الدولة السوفيتية أو النظرية الإشتراكية عموماً، كما لم نلحظ من ينادي اليوم بتفعيل مقولة: التحليل الملموس لواقع ملموس، كما هو الحال مع الأحزاب الشيوعية العالمثالثية ومنها الحزب الشيوعي السوري نموذجاً.
فبقليل من التأمل سوف ندرك بأنه لا زال هناك الشيوعيون القدماء التقليديون في سورية وفي البلدان العربية بل حتى في روسيا نفسها تدعو إلى الإشتراكية على الطريقة الستالينية القديمة، وهذا ما يدعو إلى الإستغراب، فإما لأنهم لم يجدوا منظراً يجدد الدماء في النظرية الماركسية وأقصد في الاغلب الجانب السياسي للنظرية؟ أم أن منتسبيها حذرون من الوضع القائم لعدم قدرتهم فتح باب الإجتهاد كما هو حال الإسلام تماماً والذي يخشى هو أيضاً فتح باب الإجتهاد سداً للذرائع وخوفاً من حدوث حالة من التشتت المذهبي قد تؤدي إلى صراعات دينية بينية خطيرة جداً، أو يأتي كنوع من النوستالجيا والحرص على بعض المكاسب هنا وهناك، أو أنهم لازالوا يرون أن لا أخطاء في النظرية التي أرسى دعائمها كل من ماركس وإنجلز ولينين وخاصة في الجانب التطبيقي من الإشتراكية الشائخة حسب مقولة بعض الإشتراكيين أنفسهم؟.
وكل هذه التبريرات إن كانت صحيحة لهي مما ينافي النظرة الماركسية نفسها في التغيير والتطوير بل إنها تأتي ضمن استمرارية لنوع من التحجر المفاهيمي ليس إلا، وعلينا – قبل كل شيء- أن نعلم بأن الماركسية منهج ذو صبغة تاريخانية وليست عقائد دوغمائية جامدة وغير قابلة للتطوير والتحديث.
فإذا كانت الإشتراكية قد سقطت في بلد مثل روسيا وكانت قد أوتيت حظ لابأس به من التقدم، ومع كل إقتصادها وحضارتها في ظل مفاهيم الإشتراكية القائمة أو المشيدة، فكيف يمكن السير بهذه العقلية الدوغمائية واستيراد نظريات متقدمة لم توضع إلا للدول الرأسمالية والبالغة مرحلة الإمبريالية في رقيها وتقدمها وحشرها في البلدان الشرق أوسطية المتخلفة والمحافظة أصلاً؟.
ودون مراعاة الإختلاف الكبير بين ظرفي كل من موسكو ودمشق في تطبيق الإشتراكية مثلاً، ودون إعمال النظر بجدية في مقولة ماركس التحليل الملموس لواقع ملموس.
فواقع سورية حتماً هو غيرواقع الدول الرأسمالية وروسيا، وهذا كان ولايزال حال الجمود العقائدي في مسيرة الأحزاب الشيوعية حتى اليوم دون أن يفكر أحد بالتغير والتطوير أو التنظير لحقبة مابعد السوفيتية.
ثم إن تطبيق الإشتراكية في سورية أو غيرها من الدول النامية مثلاً والتي لاتزال تعتمد في الغالبية على الإقتصاد الفلاحي الزراعي الصغير وأعداداً بسيطة من عمال المصانع، وتشمخ بين سكانها قدراً ليس بالقليل من الدين والعواطف والعادات والتقاليد والموقف المحافظ من المرأة…الخ.
لايمكن معها الإطمئنان على المناداة بالنظرية المادية فيها وفي غيرها من البلدان النامية، تلك النظرية التي تنكر وجود الله وتنادي بتحرر المرأة وتوزيع الملكية والإستلاء على المعامل وجعلها ملكاً للعمال هكذا بجرة قلم وبدون مقدمات تذكر؟
وهل يمكن أيضاً تطبيق الإشتراكية بكل ركائزها وكاريزماتها القديمة ودعواتها للتحرر، على شعب يؤمن بهذا القدر وذاك بالعادات والتقاليد ووجوب عفة المرأة والدين والعقيدة؟ أم أن الحالة بحاجة إلى التغيير والتطوير والتدريج وتنظير جديد؟ ذاك سؤال يطرح نفسه بقوة اليوم على الأحزاب الشيوعية التي تبدو حتى اليوم تعيش في حالة من الخمول والترهل في الحالة التنظيرية، كما وتبدو عاجزة عن إحداث الغيير والتطوير المناسبين في استيراتيجياتها العقائدية ومناهجها السياسية مثلاً؟.
فليس في الوطن العربي وسورية اليوم إقطاع بكل معنى الكلمة ليتم توزيع أراضيهم نظراً لتففت الملكية الكبير وتوزيعها بين الورثة إلا فيما ندر، بالإضافة إلى ضعف الطبقة العمالية القليلة العدد أصلاً والتي لايمكنها قيادة زمام الأمورفي ظل الصناعة الضعيفة في هذه البلدان والتي تعجزعن تشكيل طبقة عمالية تناضل ضد أرباب العمل كما هو مطلوب في الأساسيات النظرية للإشتراكية العلمية كما يقال.
ثم إن معظم عمال الوطن العربي وسورية منخرطون في السلك القومي وأنهم غير مؤهلين لا من حيث العدد ولا من حيث الايديولوجيا أوالنوع لقيادة دولة اشتراكية لاتسمح واقعها الملموس بمثل هذه التغيرات الراديكالية بالأصل.
إذاً يجب التفكير بأولويات تتطابق والواقع الملموس في البلدان النامية خاصة، وللعلم فإن حرية المرأة في موسكو هي غيرها في دمشق وحماة مثلاً.
ومن هنا أكرر الإشارة إلى سيادة نوع من الدوغمائية والتحجر المفاهيمي والجمود العقائدي لدى الأحزاب الشيوعية في المجتمعات العالمثالثية، ودون بذل أدنى محاولات لتحريك الأمور أو إعطاء دفعة من الديناميكية لبرامج هذه الأحزاب ونظرياتها، ودون إحداث نوع من الديناميكية في الركائز والمفاصل الأساسية للأجساد المترهلة لهذه الأحزاب الإشتراكية العجوزة بامتياز.
وإذا بقيت الأمور هكذا فسوف لن تحظى الأحزاب باهتمام الجماهير والإلتفاف حولها من جديد إلا ربما بعد عقود مديدة من السنين.
وهذا الكلام كما ينطبق على الأحزاب الإشتراكية فإنه ينطبق إلى حد ما على الأحزاب والحركات المذهبية والقومية في المنطقة عموماً، والتي عجزت عن تحويل الإشتراكية أو الدين أو القومية الى حالات أكثر إنسانية، بل بالعكس فقد جرت تحت ظلال هذه الحركات الكلاسيكية وبالترافق مع دعواتها ووفق مفاهيمها التشريد، والنفي، والمذابح، والأحزمة الناسفة، والمقابر الجماعية…الخ.
هكذا رأينا كيف أدت الدوغمائية العقائدية إلى زوال أو تراجع الدول والأحزب الشيوعية وتقزمها ومنها الأحزاب الشيوعية في منطقة الشرق الأوسط وفي العالم الثالث عموماً باستثناء بعض الدول الإشتراكية الباقية والتي تراوح بدورها في مكانها، أو أنها غيرت مسارها نحو الليبرالية والخصخصة والتحديث كما هو الصين وفيتنام مثلاً.
ومن هنا أقول أن عدم السير نحو تنظير متطور للشيوعية ستكون دعوات الأحزاب الإشتراكية صرخة في هواء ومحاولة يائسة لاستعادة ثقة الناس بها، بينما في الحالة المعاكسة أي في واقع ينم فيه التأسيس لتنظبر وتغيير جديدين يمكن أن تستعيد الشيوعية شبابها وحيويتها وبمراعاة الأمور التالية:
1- نبذ الإلحاد من النظرية الإشتراكية ومقولة ماركس الدين أفيون الشعوب في قوله الأثير: (الدين زفرة الكائن المثقل بالألم، وروح عالم لم تبق فيه روح، وفكر عالم لم يبق فيه فكر، إنه أفيون الشعوب.
إذن فنقد الدين هو الخطوة الأولى، لنقد هذا الوادي الغارق في الدموع) ماركس – دفاتر فلسفية-53-57.
فيمكن إحلال محل هذا الكلام مقولة حرية المعتقد والدين حتى لمنتسبي الأحزاب الشيوعية نفسها، فماركس قال ذلك في سبيل التنظير لمنهجية علمية فلسفية ليس من الضروري تطبيقها على الصعيد العملي- الإجتماعي والسياسي في دولة إشتراكية لم تجتز مرحلة الإقطاع بعد ولايزال للدين فيها سطوة ومنعة، ورغم هذا فكانت الأحزاب الشيوعية في روسبا وأوربا وغيرها تحظر على منتسبيها إرتياد دور العبادة تحت عقوبة الطرد والفصل، وكان هذا بمثابة المسمار الأول في نعوش الدول الإشتراكية على الخصوص والأحزاب الشيوعية على العموم.
2- عدم السعي نحو توزريع الأراضي الزراعية في سورية مثلاً، حيث لم تعد هناك أراض زائدة للتوزيع بعد تفتت الملكية والتي لاتزال على قدم وساق فيها، حيث لم يعد هناك إقطاع بالمعنى الحرفي للكلمة، وليس هناك سوى ملكيات صغيرة لاتسمن ولاتغني من جوع.
ولكن هذا لايمنع من إعطاء الدور الأكبر للدولة وإشراف الحكومة على القطاع الزراعي وضمان عدم إستغلال الفلاح مع تطبيق شعار الديموقراطية للجميع.
3- التوجه نحو التصنيع وتطبيق الضمان الإجتماعي للعمال والفلاحين إلى جانب وجود القطاع الخاص والمختلط كما هو حاصل في سورية مثلاً، على أن يتساوى وضع العمال في القطاعات الثلاثة معاً وتضمن الدولة حقوقهم من أرباب العمل وبالطريقة المناسبة.
4- فتح باب الإستثمارات تحت مراقبة الدولة، ليصار إلى توظيف العمالة الزائدة ومنعاً من أية تلاعبات إقتصادية من قبل هذه الإستثمارات والتي قد تلحق الضرر باقتصاديات البلد وسياسته.
ويمكن على المدى المتوسط أو حتى الطويل اتخاذ الحالة الإقتصادية لدولة السويد ومنهجيتها في تحقيق المساواة الإقتصادي والإجتماعي والتوافق المعيشي الذي تسيرها بين سكانها، وإتخاذها قدوة في النهج الإشتراكي للأحزاب الشيوعية، ومن ثم تطوير ما يمكن تطويره لاحقاً لتوافق معيشة أرقى ورفاهية آمنة لكل قطاعات الشعب.
5- العقلانية في التعامل مع الأحداث في المجال السياسي والعودة إلى طرح شعار: لا مع الغرب ولا ضده، إلا في الحالة التي يعادي فيها الغرب نفسه البلد الإشتراكي، أو المناداة بالحياد الإيجابي، أي ألا يعلن الشيوعيون بمناسبة وبدونها على أنهم معادون للغرب لمجرد أنه غرب برجوازي، وذلك لجذب الإستثمارات والمستثمرين الأجانب من جهة، وتفادياً (لخطر الحرس الأبيض) واتقاء لعداواته ضد البلدان الإشتراكية من جهة أخرى.
6- أما عن المرأة فنرى أنها لاتتحرر بمجرد المناداة بتحررها أو العمل على تحررها كما تجري الكتابة عنها بمناسبة وبدونها، وهو ما يؤدي إلى نوع من الإحتقان الأخلاقي ضد الأنظمة الإشتراكية كما حدث في أفغانستان مثلاً.
وأقترح استبدال مقولة التحرر بشعارالمساواة مع الرجل، لأن المرأة وفي مجتمعها الديني والبطرياركي (الأبوي) والذي دام آماداً طويلة لايمكنها أن تتحرر هكذا بين صبح ومسا كما يقال، فالكاتب المصري الشهير قاسم أمين كان من أكبر المنادين بتحرر المرأة في الشرق الأوسط ومع هذا كانت امرأته لاتخرج إلا وهي محجبة.
فالمرأة لا تتساوى مع الرجل في المجتمع الذكوري إلا بشكل تدريجي، وبوجود إقتصاد صناعي قوي ومتين تعمل فيه المرأة في المصانع والمعامل وتصبح سيدة نفسها في المعيشة والإنفاق، فالكلمة الأثيرة التي لاتزال تخاطب بها المرأة الشرقية زوجها (أنت تاج رأسي) نابعة من إعالة الرجل لها وإنفاقها عليها، وأن حياتها وحياة أطفالها رهينة بما يجلبه هذا الرجل إلى بيتها من طعام وكساء ليس إلا وهو ما يجعلها رهينة لديه في كثير من الحالات.
وهنا وفي الخاتمة أعود إلى القول بأننا ربما فتحنا باباً للنقاش طويل صعب ومعقد ولكن هذا لايمنع بوجوب التجديد والتطوير والتفكير العقلاني في الطرح بالنسبة للأحزاب الشيوعية والقومية معاً، والمناداة بشعار التحليل الملموس لواقع ملموس، ومن ثم العمل على تطوير هذا الواقع وتحديثه من منظور إشتراكي واقعي، وأن ماكتبه ماركس وما طبقه لينين في دولته السوفيتية يعود إلى عشرات بل مئات السنين لنظرية وضعت أصلاً للمجتمعات الأوربية البرجوازية، حتى أن ماركس أحس بهذا الأمر وكتب عن (إسلوب الإنتاج الآسيوي) وهذا يعني أن الإسلوب الآسيوي في الإنتاج هو غيره الإسلوب الغربي فيه أو لايندرج هذا الإسلوب ضمن الخط التطوري الذي رسمته الإشتراكية للمجتمعات الأوربية مطلقاً،، أي ما أود قوله هو أن النظريات التي وضعت للغرب المتطور لا تنطبق بحال من الاحوال وبحذافيرها عن الواقع الآسيوي الملموس إلا بالتدريج والفرملة والتمهل.
ولكن في عملية غير مسبوقة خالفت التجربة السوفيتية مقولة ماركس، وخرجت عن محتوى ومضمون مقولة التعددية في المسار الإشتراكي إلى( الخط الأحادي للتطور) فكان ذلك بدعة تنظيرية قاتلة في مسيرة الإشتراكية الفتية.
كلمة أخيرة نقولها بأنه لايستوجب على الكرد خاصة فتح جبهات جديدة والدخول في مهاترات مع الأحزاب الشيوعية سواء على مستوى الأحزاب أوالفرد الكردي، رغم وجود السلبيات العديدة التي تصدر بين حين وآخر من بعض منتسبي الأحزاب الشيوعية، لكن يكفي أن هذه الأحزاب تقر بحق تقرير المصير للشعوب، ولو لم يرد ذلك كتابياً في برنامج البعض منها كالحزب الشيوعي السوري مثلاً رغم أن لينين يقول حول هذه وبالحرف: (ينبغي على جميع الأحزاب الديموقراطية الإشتراكية، أن تؤيد وتساند الحركات التحررية، ليس بكلمات جوفاء ولاتعابير غامضة ولا انتظاراً حتى تحقيق الإشتراكية، بل يجب أن يرد أو يتوضح في برامجها السياسية ومن لم يفعل ذلك فهو ينافق في قضايا تحرير الشعوب) – لينين- مسائل.
ورغم هذا فإن ما نراه هو أن أي ضعف في الحراك الشيوعي في المنطقة هو ضعف لحركات التحرر وللشعوب المضطهدة في نفس الوقت، وهنا سأذكر باللجنة العربية لمناصرة القضية الكردية فأعضاؤها هم من الطبقة اليسارية المثقفة أو من الشيوعيين القدامى على السواء يناصرون القضية الكردية في كل مكان وفي كل مناسبة وزمان.